Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

البحث عن فوائد الفلسفة في حياة الإنسان المعاصر

تساعد الفرد على العيش عيشاً هادئاً وسعيداً في حدود إمكانات كيانه وفي مراعاة الواقع الزمني التاريخي

لوحة للرسام فؤاد حمدي (صفحة الرسام على فيسبوك)

حقلٌ من حقول الفلسفة في الحياة ينظر في وجود الإنسان اليومي، ومشكلاته وهمومه وتساؤلاته، وأفعاله وإنجازاته، واختياراته وقراراته، وحيراته ونوباته، وصولاته وجولاته في معترك الحياة. إنّه حقل الفلسفة التطبيقية العملانية التي لا تُغرق في التجريد والتعريف والتعقيد. من المعروف أنّ هذه العمليات الفكرية ضرورية من أجل استقامة النظر وصوابية الاستنتاج، لا سيما التجريد الذي يساعد على التعريف. ذلك بأنّ العقل الفلسفي لا يكتفي بمعاينة الظاهرة العينية الحسّية الفردية، كظاهرة موت هذا الإنسان أو ذاك، بل يتناول مسألة الموت بحدّ ذاتها، ويسعى إلى تجريدها من ارتباطاتها بالحدث الفردي، أي إلى نزع العناصر والتفاصيل والقرائن والسمات والمميزات والخصائص التي تصاحب موت هذا الإنسان. إلّا أنّ مشكلة الفلسفة تنشأ في وعي الناس من المغالاة في التنظير الذهني المحض بحيث تصبح الكلمات التي يستخدمها كلُّ فيلسوف على حدة صعبةَ الإدراك، ثقيلةَ الوقع على الآذان، يستهجنها وينفر منها كلُّ الذين يبحثون عن بساطة الانسلاك في مجرى الحياة العفوي.

خلافاً للفلسفات النظرية المعقّدة، كفلسفات العلوم وتأصيل النظريات المعرفية (الإبّيستِمولوجيا)، وفلسفات الوعي والتصوّر والإدراك، وفي مقدّمتها الفِنومِنولوجيا أو الفيمياء التي تبحث في علاقة الوعي بالظواهر المتجلّية أمام نظر الإنسان، وفلسفات اللغة التي تبحث في علاقة الفكر بالكلمات وتتحرّى عن شروط صوغ المعنى وقرائن استقامة التعبير، تفضّل الفلسفة التطبيقية العملانية أن تساعد الإنسان على العيش عيشاً هادئاً، مريحاً، سعيداً، في حدود الإمكانات التي يحملها كيانُه الجسدي النفسي الروحي، وأيضاً في مراعاة الواقع الزمني التاريخي الذي ينسلك فيه حتماً.

فوائد الفلسفة بين تطبيق وتجريد

ومن ثمّ، يسأل المرء هل تخاف الفلسفة التطبيقية من الخوض في دقائق التحليلات النظرية الشائكة، أم إنّها تنتقد في الفلسفة التجريدية ابتعادَها عن مشكلات الناس وهمومهم وتساؤلاتهم؟ هل التبسيط خيانةٌ والتعقيد أمانةٌ؟ من المفيد التوقّف عند مثال يبين اختلاف التناول والتحليل والاستنتاج بين الفلسفات التطبيقية والفلسفات التجريدية. أقترح على القارئ أن ينظر في مسألة تحليل البنى الأساسية التي يقوم عليها اختبارُ الوجود الإنساني الفردي، فيعاين اختلافَ المقاربات بين فيلسوف الإغراق التجريدي مارتِن هايدغر، والفلاسفة الوجوديين الحريصين على إمتاع الناس بعبَر التفكّر الفلسفي وأمثولاته. أعود إلى مسألة الموت الفردي. حين يتناول الوجوديون على سبيل المثال حدث الموت، فإنّهم يجتهدون في تحليل مشاعر الخوف والارتعاد والشكّ والعبث التي تسيطر على الإنسان القريب من موته، وعلى الإنسان الذي يشاهد موت الآخر. أمّا التحليل الذي يقترحه هايدغر، فإنّه يجرّد الموتَ من عناصر الحدث الفردي ومن الاختبارات الشعورية التي تصاحبه، فيتناوله في ذاته ويجعله بنيةً مجرّدةً من بنى الإنسان الباحث عن معنى الكائنات، أو بالأحرى عن معنى كينونة الكائنات كلّها. ومن ثمّ، يجد هايدغر نفسه مُضطرّاً إلى استخدام اصطلاحات مجرّدة كالمقذوفية والزوالية والمائتية، وفي ذهنه أنّه يريد أن يصف الموت وصفاً يجعله أقصى الإمكانات المنصوبة أمام الإنسان، وأن يساعد الإنسان على تلمّس معنى كينونة كلِّ الكائنات بالاستناد إلى بنية المائتية في الإنسان. فالموت، بحسب هايدغر، يتيح لنا أن نفهم معنى كينونة الكائنات بارتباطها بمجرى الزمان، إذ إنّ الموت يُنهي إمكانات الإنسان المرتسمة في أفق زمنه الوجودي. وعليه، يصبح الإمكان الذي يمنحه الزمان للكائنات هو معنى الكينونة التي تتشارك فيها عناصرُ العالم كلّها، من جماد ونبات وحيوان، وفي الطليعة الكائنُ الإنساني الحي الذي يتميز بوعيه المتطلّب. من جرّاء هذا كلّه، يسمّي هايدغر مقاربته تحليلاً وجودانياً (existenzial) ينظر في بنى التأصيل التي تصيب عمق الكيان في الإنسان، في حين أنّ الوجوديين يكتفون بتحليل وجودي (existenziell) يتحرّى عن انفعالات الكائن الإنساني في جميع أبعاده الجسدية النفسية الروحية.

ومن ثمّ، فإنّي لست أدّعي أنّ سبيل التجريد الذي انتهجه هايدغر لا يفيد في فهم وضعية الإنسان، وأنّ طريق التعبير الوجداني الحسّي الواقعي الذي تسلكه الفلسفات الوجودية هو أقربُ إلى حقيقة المعاناة الإنسانية. إنّهما وجهان لاجتهاد فلسفي واحد. بيد أنّ الإغراق في التجريد يوشك أن يفصل الفلسفة في الحياة عن حياة الإنسان اليومية. لذلك يظنّ الكثيرون أنّ الفلسفات الأخلاقية والفلسفات السياسية والفلسفات الاقتصادية تراعي متطلّبات الفلسفة التطبيقية، إذ إنّها تتناول مسائل الخير والشرّ، والضمير والواجب، وحقوق الإنسان، والحرّية والمسؤولية والعدالة، والرهانات التي تحملها قراراتُ الإنسان الحياتية. كثيرٌ من هؤلاء الناس يرتاحون إلى قراءة كتابٍ في الفلسفة الوجودية أو الفلسفة النقدية أو فلسفة التاريخ، وينفرون من التنظير الناشط في الفلسفات التجريدية الأخرى. السبب الأوضح في ذلك كلّه أنّ الناس يريدون أن يقرأوا من أجل أن يفهموا بنيتهم الذاتية الجسدية النفسية الروحية، ويستوضحوا خصوصية مقامهم، ويتبينوا مختلف الإمكانات المعروضة أمامهم، ويدركوا معنى وجودهم، ويستجلوا غاية نضالهم.

أنماط جديدة

من جرّاء ذلك كلّه، تشهد المجتمعاتُ الغربية، لا سيما الألمانية والفرنسية والأميركية والكندية منها، ظهورَ أنماط جديدة من الفلسفة التطبيقية العملانية تُخرج الفلسفة في الحياة من داخل الأسوار الأكادِمية المعرفية البحثية المحض، وتُدخلها في معترك الحياة اليومية. فإذا بأهل الاختصاص الفلسفي ينزلون إلى الميدان ويشمّرون عن سواعدهم، ويتحلّقون في دوائر استشارية عملانية تروم أن تجعل الناس يستفيدون من المكتسبات الفكرية الثمينة التي أحرزها التفكّر الفلسفي منذ أيام الإغريق حتّى يومنا الحاضر. وعليه، بات المرء يعاين منذ ثمانينيات القرن العشرين انتشارَ أسلوب الاستشارات الفلسفية العيادية العلاجية التي أنشأها الفيلسوف الألماني غِرد أخِنباخ (Gerd Achenbach)، ونمط المشاغل الفلسفية العملانية، وحلقات التفلسف التبسيطي الذي يشارك فيه الأطفال منذ نعومة أظفارهم، ومنتديات المناقشات الفلسفية في محاضن المعامل والمصانع والمؤسّسات التجارية والمكاتب الإدارية والمرافق العامّة.

تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنّ غِرد أخِنباخ نشأ أصلاً على المثالية الهيغلية الألمانية، فتأثّر بما تذهب إليه هذه المثالية من تجريد منقطع النظير في مسائل وعي الذات ووعي الموضوع والوعي المطلق. ولكنّه ما لبث أن اهتدى إلى لغة فلسفية أبسط وأسهل تؤهّل الإنسان العادي للفهم الصائب والاعتبار المفيد. إذا نظر المرء في عناوين كتبه، أدرك مقدار الاعتناء بجعل الفلسفة في الحياة في متناول الإنسان الباحث عن معنى حياته. من هذه العناوين أذكر الفلسفة المجرّدة والفلسفة العملية؛ الشفاء المبدأ: الطبّ والتحليل النفسي والمراس (parxis) الفلسفي؛ خبرة الحياة؛ لمَ الحياة؟؛ معملُ الرأي؛ مهنة الفيلسوف أو كيف ندرك فلسفياً ونشعر فلسفياً ونقرأ فلسفياً؟

من المفاهيم الأساسية التي يستخدمها أخِنباخ مفهوم خبرة الحياة (Lebenskönnerschaft). فالإنسان لا يمكنه أن يستخرج معاني الوجود إلّا إذا اختبر الأحداث بجسده ونفسه وفكره، فأقبل عليها يستكشفها بالمعاينة والغوص والتحليل، ويستنطقها بالمساءلة والمراجعة والنقد، ويستعيدها بالتفكيك والتركيب والبناء. ليست الحياة هدفاً بحدّ ذاتها بمعزل عن نوعية اختبارها. فالناس قد يحيون حياةً بائسةً، فيطوون أيامهم في الجهل والتفاهة والسطحيات والمظهريات. لذلك لا بدّ من التأمّل في مسرى الوجود بين الحين والحين حتّى يصلح الإنسان مسرى حياته. من الطبيعي ألّا يستطيع المرءُ أن يفكّر تفكيراً فلسفياً صافياً على تعاقب الساعات. غير أنّ التوقّف المفاجئ والابتعاد المنعش يصوّران الأمور في هيئة أخرى واعتلان مختلف. من هنا أهمّية التفكير الفلسفي المعتدل المتّزن الرزين.

خصوصية الفلسفة التطبيقية

إذا أردنا أن نستوعب خصوصية الفلسفة التطبيقية، كان علينا أن نميز بين أمرَين: إتقان فنّ الحياة واكتساب خبرة الحياة. عقد أستاذُ الفلسفة الأخلاقية الألماني الشهير ڤيلهِلم شميت (Wilhelm Schmidt) معظم كتاباته على فلسفة فنّ الحياة (Lebenskunst). فأكبّ يشجّع الناس على اغتنام فرصة الوجود الفردي الوحيد المتاح لكلّ إنسان من أجل الاستمتاع بكلّ لطائف الاختبارات الحياتية. لا بدّ هنا من المقارنة بين مسعى الفنّ الحياتي والتزام التفلسف الحياتي. تُطلعنا المقارنة بين فلسفة فنّ الحياة وفلسفة خبرة الحياة على خصائص كلّ مسعًى على حدة. تضع فلسفةُ فنِّ الحياة السعادةَ في مقام الصدارة، في حين أنّ فلسفة خبرة الحياة تجتهد لكي تجعل الإنسان يستحقّ مثل هذه السعادة. فيلسوف فنّ الحياة ينحت حياته نحتاً، في حين أنّ فيلسوف خبرة الحياة يتمرّس بحياته تمرّسَ المناضل المستحقّ. الأوّل يَعرض ذاتَه عرضَ الإنسان الواثق المتيقّن في عمق وجدانه، أمّا الثاني فيضطلع بمسؤولية ما هو حقٌّ وصائبٌ وملائمٌ. الأوّل متحرّكٌ، منفعلٌ، متوثّبٌ، أمّا الثاني فمستقيمٌ، مخلصٌ، مواظبٌ. يهب الأوّل حياتَه معنًى من المعاني، في حين ينجز الثاني المعنى ويحقّقه في معترك الحياة. فلسفة فنّ الحياة تبحث عن متعة الحياة، أمّا فلسفة خبرة الحياة فتجتهد في معالجة الإنسان ومداواته من آثار الحياة الزائفة ومن تفاهتها ونفاد طاقتها. تهرب فلسفة فنّ الحياة من الظلال فتبحث عن النور، أمّا فلسفة خبرة الحياة، فتتجنّب النور الخافت، ولكنّها ترضى بتعاقب النور والظلال في حياة الإنسان. إذا كان فنّانُ الحياة يعتقد أنّه يجيب جواباً واضحاً عن سؤال الحياة، فإنّ خبير الحياة يستثير السؤالَ الذي جوابُه الحياةُ عينُها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تساعدنا هذه المقارنة على فهم خصائص النظر الفلسفي الذي يستند إلى واقع الاختبار اليومي والمعاناة الفعلية الملموسة في وجود الإنسان. من هذه الخصائص أنّ الفلسفة التطبيقية العملانية تحاول أن تدرك في حياة الإنسان معنى السعي إلى تحقيق دعوة الحياة الناشطة في كلّ سيرة وجودية ذاتية. بالاستناد إلى مثل هذا الاجتهاد، تتيح الفلسفة في الحياة للإنسان أن يُنضج وعيه، ويُغني فكرَه، ويُصلح مقامَه، ويضبط إيقاعَه، ويُثمر عملَه، ويقوّم مسلكَه، ويُسعد كيانَه كلَّه في حدود المسؤوليات والتحدّيات والرهانات والإشكالات والتعقيدات التي يواجهها في معترك نضاله الجسدي النفسي الروحي اليومي. بفضل الفلسفة التطبيقية يستطيع الإنسان أن يفكّر من غير أن ينظّر، وأن يحلّل من غير أن يجرّد، وأن يربط من غير أن يعقّد، وأن يَعقل من غير أن يعتقل الحياة ويأسرها في مبتكرات قاموسه الفلسفي.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة