كان توني بلير دائماً واحداً من أفضل المحللين السياسيين. ومن حيل حزبه [السياسية] التي تقدم بها حين كان رئيساً للوزراء، تقييم أخطاء حزب المحافظين المعارض، ومن ثم الإشارة إلى ما يتوجب عليهم القيام به لكي يصححوا تلك الأخطاء.
غير أن ما يهمه حقاً (الآن) هو حزب العمال، وما كان يفعله الحزب بصورة خاطئة منذ تنحي بلير عن قيادته، وماذا ينبغي للحزب أن يقوم به لتصحيح ذلك. التزم بلير الصمت على امتداد السنوات الثلاث التي تسلم فيها غوردون براون رئاسة الحكومة، وحين عرض وجهات نظره في عهد إد ميلباند، (خلف براون على زعامة الحزب) لفت إلى أن المواجهة بين اليمين التقليدي واليسار التقليدي تؤدي إلى نتيجة تقليدية (أي هزيمة حزب العمال)، بيد أن الحزب لم يشأ أن يصغي إليه.
وكان بلير أشبه بشخص لاوجود له خلال زعامة جيرمي كوربين، التي عرّفت نفسها بأنها رد الفعل المماثل والنقيض لكل ما كان بلير يمثله، ولذا فقد أصبح للتو بوسعه أن يأمل في أن يكون ذا صلة وثيقة من جديد بما يجري من حوله. وحقيقة أنه أعرب عن رغبته بذلك في مقال مطول نشره في مجلة " نيو ستيتسمان"، على الرغم من أنه يوحي (في المقال) بأنه ليس مستشاراً مقرباً من كير ستارمر(الزعيم الحالي لحزب العمال). وهناك كثير من الأشخاص في حزب العمال ممن يفترضون، أو ربما يخشون، أن تكون الاستراتيجية التي يتبعها ستارمر قد أُمليت عليه بكاملها من قبل بلير نفسه، و بيتر مندلسون وألاستير كامبل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا ليس صحيحاً. فستارمر يتحدث مع هؤلاء من حين إلى آخر، كما قد يفعل أي زعيم آخر (ما عدا كوربين)، إلا أن البليريين ( أتباع رئيس الوزراء السابق) لا يتحكمون بالعملية السياسية في حزب العمال. ولهذا السبب، فإنهم قد أُجبروا على عرض نصائحهم على الملأ، على أمل أن قوة حجتهم الصرفة ستحقق النجاح، كما ينبغي أن تفعل لأنها محقة.
إن قدرة بلير على صياغة حجة سياسية لامثيل لها بين كل من جاءوا إلى الواجهة منذ تنحيه، برأيي الشخصي. وكانت النصيحة المفيدة أكثر من غيرها التي أوردها زعيم حزب العمال السابق في مقاله المنشور في مجلة "نيو ستيتسمان"، تتعلق بكيفية خوض "الحرب الثقافية" التي يخسرها حزب العمال حالياً، أمام حزب المحافظين، ذلك الخصم الساخر الانتهازي. وتمثلت نصيحته في أن على ستارمر أن يخوض تلك الحرب.
ويقول بلير إن المعتدلين في حزب العمال قلقون بشكل أكبر من الوقوع في الخطأ لدى قول شيء ما، ولذلك فإن موقفهم هو على النحو الآتي، "ليست هناك حرب ثقافية، وعلى أية حال نحن لانلعب هذه اللعبة، أو إذا كانت موجودة وأُجبرنا على لعبها، فإننا سنلعبها من مواقع الدفاع، وبأقصى ما يمكن من الهدوء". ويضيف أن ذلك خطأ، معتبراً أن الحزب يجب أن يدافع عن نفسه ويستفيد من "العقل والاعتدال".
وهو يشدد على أن الحزب إذا دعم هدف الحركات المناهضة للعنصرية، والمناصرة لحقوق المتحولين جنسياً أو المدافعة عن البيئة، وذلك من دون إبرام عقود فرعية للتعاون مع الأجنحة المتطرفة في هذه الحركات، فإن الناس سيؤيدونه.
وهذه فكرة مألوفة بالنسبة إلى كل من تعلم على يدي بلير، يمكنك أن تحقق المزيد من خلال التقليل من شأن الراديكالية، وتجنب الخطاب المتطرف، في الوقت الذي تحاول فيه حشد أكبر دعم جماهيري ممكن من أجل تأييد القضايا "التقدمية". ويسوق أمثلة على ذلك منها نجاح آخر حكومات حزب العمال في ما يتعلق بحقوق المثليين و بـ"الطريق المؤدي إلى الزواج المتكافئ"، الأمر الذي أجبر حزب المحافظين حينذاك على تغيير موقفه حيال هذه القضية.
وينسجم هذا الموقف مع انتخاب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة، الذي قام بحملته كسياسي معتدل، لكنه حكم (أو في الأقل بدأ يحكم) كراديكالي. ويقول بلير، إن "بايدن مر بلحظة أساسية حين تبرأ بشكل شامل من مشروع خفض الإنفاق على الشرطة، في الوقت الذي كان يدعم فيه إجراء إصلاحات للشرطة". لكن، لكونه بلير، فهو لايعير أهمية كبيرة لمثال بايدن، قائلاً "دعوا بايدن جانباً"، ما يوحي أنه يعتقد أن حظ بايدن القوي كان هو ما ساعده على الفوز على رئيس رديء بشكل استثنائي.
ويشير بلير إلى أن الخطر يكمن في اعتقاد حزب العمال أن راديكالية برنامج بايدن تُقاس ببساطة بمستوى الإنفاق العام، "توجه السياسات التقدمية اليوم رسالة اقتصادية من الطراز القديم الخاص بالدولة الكبيرة، والضرائب، والإنفاق، التي تعد جوانبها الأخرى عدا الجزء المتعلق بالإنفاق (الذي يمكن لليمين أن يقوم به على أي حال)، غير جذابة على وجه الخصوص".
إن تأييد برنامج بايدن الطموح، كما فعل ستارمر في المقابلة التي أجريت معه قبيل الانتخابات الأسبوع الماضي، لا يكفي في حد ذاته لمنافسة حكومة المحافظين الانتهازية التي تتعهد هي الأخرى بالإنفاق.
وبدلاً من ذلك، يقدم بلير لستارمر سلسلة من الطرق المقترحة للتعامل مع "خدمة الصحة الوطنية"، والتعليم، والتغير المناخي، التي تستعين بالتكنولوجيا من أجل تجاوز الحجج القديمة.
إلا أن تحدي بلير الأكبر لستارمر يتمثل في دعوته للزعيم الحالي إلى تفكيك حزب العمال، ومن ثم إعادة تشكيله من الصفر. فهذا ما كان فعله بلير حين بنى "حزب العمال الجديد"، وهو يعتقد أنه من الضروري إجراء ذلك من جديد. ويصوغ رئيس الوزراء السابق حجته مرة أخرى على نحو بارع بلغة اليسار الراديكالي، الذي يوافق كثير من أعضائه على الدعوة التي يوجهها لإجراء "حوار مفتوح بين أعضاء حزب العمال، وحزب الديمقراطيين الأحرار، و السياسيين غير المنحازين، ممن يتشابهون جميعاً في طريقة التفكير".
من الصعب رؤية ستارمر يجسد بصورة طبيعية هذه المقترحات المتعلقة بإعادة الترتيب لسياسة حزب العمال، إلا أن بلير قد أعطى في الأقل، الزعيم الحالي الأدوات التي يحتاجها للبدء في تنفيذ هذا العمل.
© The Independent