Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

وليد عوني ينقل الرقم 19 من الـ"كوفيد" إلى المسرح

حركة الأجساد الراقصة والفساتين الملونة والموسيقى تواجه ثقافة الخوف وتكسر الحصار

من مسرحية "ديفيليه 19" للفنان وليد عوني (الخدمة الإعلامية للمسرحية)

منذ أن بدأت جائحة كورونا تضرب العالم، وحتى الآن، وهي تلقي بظلالها الكئيبة على البشرية، وتنشر طاقتها السلبية في أرواحهم. وربما كانت فكرة التباعد الإنساني التي فرضتها، أشد وطأة من الفيروس نفسه وما خلفه من ضحايا. فقد نزعت عن الإنسان إنسانيته ككائن اجتماعي لا يكتمل إلا بتواصله مع الآخرين من بني البشر، وأعلت من شأن الأنانية، والانكفاء على الذات، والبحث الفردي عن ملاذات آمنة.

فنانون كثيرون حول العالم سعوا إلى ابتكار وسائل فنية – كل في تخصصه - لمواجهة الجائحة، أو بمعنى أدق مواجهة ما تفرضه من عزلة، سواء بالتشكيل، أو بالموسيقى، أو بالمسرح، أو بغيرها من الفنون، وإن جاءت في أغلبها عبر "الأونلاين"، رضوخاً لفكرة التباعد وقرارات الإغلاق التي طاولت كل شيء، وإن لم يحقق أغلب هؤلاء ما سعوا إليه، أو جاء سعيهم منقوصاً، يفتقد ذلك الدفء الذي تحدثه الجماعية، والتحام الفنان بجمهوره.

المواجهة هذه المرة كانت مسرحية، حية (لايف)، ووسط جمهور احتل كل المقاعد المصرح بها في مسرح الجمهورية في وسط القاهرة.

 لم تكن المواجهة مجرد عرض مسرحي يطرح واحدة من القضايا التي اعتاد المسرح التعاطي معها، فقد أراد صناعها تحدي الجائحة، ليس بالعرض الحي وسط جمهور فحسب، ولكن أيضاً بطبيعة العرض الذي حمل عنوان  ديفيليه 19"، فإذا كنا بإزاء "كوفيد 19"، فالمواجهة من "جنس الرقم" على سبيل السخرية.

وجهة نظر

هكذا أطلق المخرج والكوريغراف وليد عوني تجربته، أو مغامرته الفنية، من خلال فرقة الرقص المسرحي الحديث، التابعة لدار الأوبرا المصرية - كان هو مؤسسها الأول - متناولاً تأثير فيروس كورونا المستجد على البشرية من وجهة نظر مختلفة، ساعياً إلى استبدال الطاقة الإيجابية بالطاقة السلبية التي نشرها الفيروس، من خلال لوحات راقصة، فيها من الحيوية والإشراق والألوان والزهور المبهجة، ومن فساتين أو ملابس الراقصات الملونة، ما يعبر عن توق الإنسانية إلى عودة الحياة إلى طبيعتها، بعد أن فرضت عليها الجائحة نمطاً  لم يعتده البشر. فهم، أولاً وأخيراً، كائنات اجتماعية تصاب بالذبول إذا لم تتواصل مع غيرها من بني جنسها.

الرقص هنا جاء بمثابة تحد للفيروس، فإذا كان الفيروس يحمل الرقم 19، فإن الـ"ديفيليه" يحمل هو الآخر الرقم نفسه، ويمتلك من القوة وإرادة الحياة ما يمكنه من هزيمة الفيروس. لوحات متعددة قدمها وليد عوني، تصب كلها في خانة المواجهة، فالفتاة تحدث مرآتها، والشاب يبعث برسالة لحبيبته، والرجل يتحمل ألم حقنة اللقاح ليحقق انتصاره في النهاية، وكل ذلك في شكل ساخر ومثير للضحك.

مرح الموسيقى

جاءت اللوحات بمثابة المعركة المحتدمة التي جعلت المرح عنواناً لها، واستطاع الجسد البشري، خلالها، تطويع نفسه، بمرونة ورهافة فائقة، للتعبير عن أدق الخلجات. لم تكن اللوحات الراقصة مفصولة بعضها عن بعض، فثمة ترابط ينتج حواراً غير منطوق، تدعمه موسيقى مشحونة بالقوة والمرح هي الأخرى.

لم يهتم العرض كثيراً بالاتكاء على عناصر تسهم في جعل الصورة البصرية للعرض أكثر إدهاشاً، ولم يحفل سوى بعنصري الرقص والملابس. فهما كانا بطلي هذا العرض، الذي سعى أو اهتم أكثر بإيصال معنى. فأغلب عروض هذه الفرقة تحديداً لا يحفل كثيراً بالمعنى وحده، وينشغل دائماً بالسينوغرافيا عموماً، بما تشمل من ديكور وإضاءة وموسيقى وحركة. لكن تركيز العرض هنا كان منصباً بشكل واضح على المعنى، والتأكيد أن الحياة في تغير مستمر، وأن ما نعانيه اليوم ربما ننتهي منه غداً. وهو ما أشارت إليه فكرة الـ"ديفيليه" حيث يغير الراقصون أزياءهم باستمرار، وكأنهم يحاكون الحياة في تغيرها، ويبعثون رسالة إلى المشاهدين مؤادها أن لا شيء يبقى على حاله، ولا هم يدوم، ولا فرح، وكل يوم، وكل لحظة، هناك الجديد دائماً. لذلك فإن التمسك بالأمل، والسخرية من المأساة ومواجهتها بروح فكهة، هي الحل لجعل هذه الدراما المأساوية تنتهي بشكل مفرح، على عكس ما يتوقع الكثيرون، وما يفضي إليه من انتكاسهم، وانغلاقهم على أنفسهم.

كلمات قليلة

كان واضحاً من خلال اللوحات المتعددة التي قدمها العرض، ومنها لمحات عن تلقي اللقاح وإجراء المسحات والتحاليل، ووضع الكمامات، والتباعد بين البشر، أن الراقصين لا يؤدون باحترافية فقط تسهم في توصيل المعنى، لكنهم يحملون وجهة نظر. وهو ما بدا من خلال الأداء، الذي تخللته كلمات قليلة، لكنه يقول الكثير من الكلام، بمعنى أن الدينامية لعبت دورها في جعل الجسد البشري يترجم بشكل صادق ما يفكر به العقل، وما يحمله صاحبه من وجهة نظر.

وهذا أمر واضح في تجربة وليد عوني الذي يختار راقصيه بعناية شديدة، ليس لأنهم راقصون جيدون أو محترفون، ولكن لأنهم، بالإضافة إلى ذلك، لديهم من الثقافة والوعي ما يجعل لهم في النهاية وجهة نظر، والتي من دونها لن يكونوا مقنعين، ولن يستطيعوا توصيل رسالتهم لجمهورهم، الذي لم يعد الآن نوعياً  فقط، بل أصبح جمهوراً عاماً ينشد البهجة وطرح السؤال، حتى لو اتسم العرض بشيء من الغموض أو عدم وضوح الفكرة بالنسبة له.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تسعون دقيقة من البهجة والمرح، تم انتزاعها من قلب المأساة، عبر أكثر من عشرين راقصاً وراقصة، سعوا إلى كسر حاجز الخوف من "كوفيد19"، في "ديفيليه 19"، وأرسلوا قبلاتهم في الهواء في تحد واضح للأزمة، ومعها رسالة مؤادها أننا في النهاية، كبشر مبتهجين، سننتصر.

الكثيرون من الفنانين يحجمون عن التعاطي مع أعمال فنية تتناول قضية أو أزمة آنية. وهو أمر طبيعي، فلا بد من فرصة، ومساحة زمنية معقولة، لتأمل هذه الأزمة والتعمق فيها، وتقليبها على وجوهها كافة، حتى لا يكون الفن مجرد نقل للواقع لا أكثر. لكن وليد عوني هنا، ومن خلال فكرة بسيطة، تعمق ملياً في الأزمة، وطرح تساؤلاته عليها، ومرر وجهة نظرة بسلاسة وخفة روح، بعيداً من المعادلات الفنية المربكة التي قد تخفي ضعفها بكثير من الإلغاز والشطحات غير المبررة. وتلك قدرة لا تتوافر للكثيرين: كيف تعبر عن أزمات كبرى ومفصلية بشكل بسيط، بل كيف تعبر عن مأساة، يتعرض لها البشر جميعاً، بالبهجة والمرح والتمسك بالأمل، والتأكيد أن إرادة الحياة هي الحل؟

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة