واظب عشرون متدرباً ومتدربة على إحياء مسرح خيال الظل السوري، مواصلين اشتغالهم في ورشة عمل امتدت لثلاثة أشهر في التكية السليمانية في دمشق. وتلقى هؤلاء خلالها دروساً مكثفة في تصميم دمى خيال الظل وصناعتها وتحريكها، إضافة إلى تدريبهم على يد أساتذة متخصصين، على كتابة القصص لهذا النوع من المسرح الشعبي، وتمرينهم على الصوت والإلقاء والتمثيل. وأُسست أول فرقة لمسرح خيال الظل السوري وحملت اسم "ظلال"، وقدمت أول عروضها في دار الأوبرا السورية، والذي جاء بعنوان "محطة ظلال التلفزيونية".
ابتكر المخايلون الجدد 24 شخصية جديدة إلى جانب شخصيتي كراكوز وعيواظ، ونهلت جميعها من الواقع المُعاش والشعبي، وجاءت متباينة في أحجامها وهيئاتها وسلوكها. إذ لا تخضع رسوم خيال الظل للنسب الطبيعية والمرجعيات الأكاديمية في التشريح للجسد الإنساني، فكل شخصية من خيال الظل لها أثرها الخاص تبعاً لدورها المحوري أو الثانوي. وهذا ما انعكس على الدمى السورية الجديدة من حجم وتلوين وزخرفة وإكسسوارات مرافقة، بما ينسجم مع ثقافة الدمية ولباسها، من مثل دمى: "الست بديعة"، و"الفلاح أبو جميل" و"أوليل ملك البحار" و"أبو صفنة" و"الآنسة أم عجئة" و"أبو لمعي" و"الآنسة ضوجة" و"رضا" و"دريم" وسواها.
ويعد هذا التدريب الأول من نوعه في سوريا، وأثمر عن تأسيس أول فريق لمخايلي مسرح خيال الظل، الذي جاء كأول عنصر من التراث الثقافي اللامادي السوري الذي رُشح من قبل "الأمانة السورية للتنمية"، ليُدرج على قوائم الصون العاجل في منظمة اليونيسكو عام 2018. وهو كان على وشك الانقراض من الحياة الثقافية العامة لولا جهود الفنان شادي الحلاق، آخر المخايلين الذين لا يزالون يقدمون عروضاً شبه منتظمة في مقهى النوفرة قرب الجامع الأموي الكبير، وذلك بعد رحيل والده رشيد الحلاق عام 2012 آخر حكواتي في دمشق.
الفرجة الشعبية
ونبعت شخصيات مسرح خيال الظل الجديدة من بحث في شخصيات هذا النوع من الفرجة الشعبية، ومن شخصياتها التي تعود إلى القرن السابع للميلاد، ومنها شخصيات "المدلل" و"أبو الفوارس" و"عنترة" و"الملك الحارث" و"أم شكردم" و"قشقو" و"أبو أركيلة" وسواها. ومعروف أن خيال الظل انتقل من الصين إلى البلاد العربية عن طريق الهند وفارس، ومن ثم إلى مصر عن طريق سوريا، ومن مصر انتقل إلى المغرب العربي. ويعود انتشاره إلى عام 1388 في العراق وسوريا، وقد جاء مع الغزو المغولي على يدي ابن دانيال الموصلي، وازداد انتشاره في دمشق وحلب أواسط القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وقد حرض هذا المسرح الشعبي بنبرته الساخرة ضد حكم العثمانيين وظلمهم، لا سيما إبان انطلاق الثورة العربية الكبرى من مكة المكرمة عام 1916.
ومن الأمور الموثقة أن النادي العربي في دمشق احتفل بجلاء الفرنسيين عن البلاد عام 1946، وكانت خيمة خيال الظل حاضرة وقتها من خلال المخايل صالح حبيب ضمن برنامج احتفاليته. وكانت سهرات خيال الظل الدمشقية بمثابة مسلسلات رمضان هذه الأيام، حيث عرفت دمشق أشكالاً عديدة من الفرجة الشعبية كانت تلبي جزئياً حاجة الجماعة إلى فن المسرح. وكانت خيمة خيال الظل فناً مركباً وأكثر تعقيداً من غيرها من الفنون الشعبية التي راجت في العاصمة السورية في القرن التاسع عشر كصندوق الفرجة والحكواتي وسواها.
ويعمل فريق "ظلال" اليوم على نصب خيمة الظلال في المقاهي الشعبية في دمشق وحلب وحمص واللاذقية، عارضين حكايات ذات أنماط ثابتة، وحبكات درامية مرنة، لتتمدد وتتفاعل بالارتجال مع جمهور المشاهدين، لا سيما في أيام شهر رمضان، مقاربة لأجواء موسم الدراما التلفزيونية السورية.
وخيم مسرح خيال الظل كانت منتشرة في دمشق أوائل القرن العشرين، وعرفت باسم "قهوة الكراكوز"، وهي طليعة فن السينما في البلاد العربية، حيث يضع مدير خيمة "الكراكوز" ستارة من قماش في صدر المقهى، وفي وسطها قطعة مدورة من الخام الأبيض، وفي أسفلها رف من خشب كان يُضاء قديماً بزيت الزيتون، ثم استعيض عنه بالكيروسين، واليوم بالكهرباء. ويقف المخايل خلف الستارة ممسكاً عصاً رفيعة يحرك بها دمى من الجلد، وإذا ظهرت على الشاشة، ظهر خيالها مجسماً من انعكاس الضوء عليها من الخلف.
ويعتبر فريق "ظلال" ناقداً شعبياً وأديباً ظريفاً وحاضر النكتة، وأعجب ما في أعضائه قدرتهم على تغيير وتيرة صوتهم ولهجتهم، محتذين بذلك إرث أجدادهم من الكراكوزاتية المشهورين في دمشق، من مثل علي حبيب الذي درب رائد المسرح السوري أبو خليل القباني على أصوات الشخوص حيث تتوزع أدوار الفصل أو "البابات"، إذ تتلمذ الشيخ القباني عند معلمه، فحفظ منه الموشحات والأدوار، وأخذ ما عنده من الأوزان والألفاظ. ولعل آل حبيب أشهر من مارس هذا الفن في دمشق، واستمر هذا الفن عبرهم أربعة أجيال، ليستمر مع أولادهم عبد اللطيف وعلي وخالد، ثم أحفادهم حبيب وخالد وصالح.
تمثيل وطرب
ويقدم فريق "ظلال" السوري فصوله على لسان شخوصهم بغية أن يبثوا في أذهان مشاهديهم نقداً وتجريحاً، أو مدحاً وطرباً مع بعض الحكم والنوادر، لاجئين إلى إشراك المشاهدين أحياناً بإجراء الحوار بين الشخوص الممثِّلة والمشاهدين. وهذا ما كان رائجاً في مقاهي العاصمة السورية في حي ساروجة والقيميرية والعمارة والبحصة الجوانية.
ويلعب المخايلون الشباب اليوم الدور الأول والأخير في حركات الرسوم وأشكال ظهورها على الشاشة، وذلك أن لكل خيال شكلاً مميزاً في ظهوره، تماماً كما حفلات خيال الظل في ثلاثينيات أو أربعينيات القرن الفائت. وهي كانت تقدم في دمشق مرتين يومياً؛ الأولى بعد الظهر ومخصصة للصغار، والثانية مسائية للكبار، ومن أبرز الفصول في خيال الظل: "الطاحون" و"الحمّام" و"آيا صوفيا" و"شمأرين"... وكانت هذه الفصول وغيرها من أبرز مسرحيات فن الكراكوز التي اعتبرها الدارسون أصلاً من أصول المسرح العربي، لما كانت تفترض شروط عرضها من كمال في عناصر اللعبة المسرحية، ولما امتاز به هذا الفن من انفتاح على الجمهور، وقدرة استثنائية بإشراك المتفرج في اللعبة المسرحية، وذلك عبر توريطه في الحكاية، وإيهامه بواقعيتها من خلال الظلال المتحركة طوال فترة العرض وتعدد الأصوات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويساهم أعضاء فريق "ظلال" اليوم في إنعاش هذا التراث، منصرفين إلى تقديم عروضهم في المقاهي العامة، والمدارس، ومراكز إيواء للمهجرين وعائلاتهم من الحرب. وفي معظم الأحيان يساند هؤلاء المخايلين تخت موسيقى شرقي يتصدر مكان العرض إلى جانب خيمة مسرح خيال الظل، ويتكون من صويت "مغنٍ" ورقجي "طبال" وقانونجي "عازف قانون" ولاعب قصب "نافخ ناي"، وتعمل هذه الجوقة بإمرة الكراكوزاتي، بحسب طبيعة المشهد وشخوصه.
وكان لمسرح الظل أهمية بالغة، إذ يتحدث الشيخ محيي الدين بن عربي عنه في كتابه "الفتوحات المكية" فيقول: "ومن أراد أن يعرف حقيقة ما أومأنا إليه، فلينظر في خيال الستارة وصوره، ومن الناطق بها، فالصغار يفرحون ويطربون، والغافلون يتخذونه لهواً، والعباد العلماء يعتبرون ويعلمون أن الله ما نصب هذا إلا مثلاً".