Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اليهود في بلاد العرب... أثر بعد عين

يوجد 13 معبدا ومقابر في مصر وبعض منازل "قنبر علي" تحمل طابعهم العمراني بالعراق و52 محلا تجاريا في سوريا واندماج بالنسيج الاجتماعي في المغرب وتونس

كنيس يهودي في القاهرة يعرف باسم معبد الإسماعيلية أو كنيس عدلي (أ ف ب)

هل كان اليهود، كأبناء دين سماوي ومجموعة بشرية ذات طابع متجانس، مكونا من مكونات المنطقة العربية مترامية الأطراف؟ هل يؤخذ هذا الأمر، سواء من جانب الناس العاديين أو النخب، كحقيقة تاريخية ثابتة، أم أنه يعد من متغيرات الجغرافيا السياسية التي عصفت بها رياح الحروب القومية، وتناقضات العقائد؟

أين هم يهود المنطقة العربية؟ من بقي منهم؟ وكيف يعيشون ووفق أية شروط؟

هنا محاولات للإجابة عن هذه الأسئلة من مصر واليمن والمغرب والعراق وسوريا وتونس ومنطقة الخليج العربي.

يهود مصر من الازدهار إلى الهجرة

تذكر الطبيبة والمؤلفة الأميركية اليهودية أوفرا بلوخ جيدا ذلك "الشعور الجميل" الذي كان ينتاب جدتها وأخواتها عندما كن يتحدثن عن الإسكندرية، التي لجأن إليها مع أمهم الأرملة عندما كن صغارا، هربا من الاضطهاد العثماني في يافا.

عائلة بلوخ، واحدة من آلاف العائلات اليهودية الأوروبية التي هربت إلى الشرق الأوسط ثم مصر بحثا عن ملجأ آمن من جحيم الاضطهاد خلال الحرب العالمية الأولى. أخبرتنا أوفرا، التي تعيش في نيويورك، "توفي جدي وأصبحت جدتي الكبرى (جدة أمي) أرملة بخمسة بنات، كانت تعيش في يافا حتى انقلب علينا الأتراك، اضطرت الأرملة الشابة اللجوء ببناتها إلى مصر واستقر بهن الأمر في الاسكندرية. لا أعرف تفاصيل عن حياتهن هناك لكنني أتذكر ذلك الشعور الجميل الذي كان ينتاب جدتي واخواتها عندما كن يتحدثن عن الإسكندرية".

جزيرة ألفنتين

على مدار التاريخ، قطن مصر آلاف العائلات اليهودية، كما استقبلت أعدادا كبيرة منهم في مطلع القرن العشرين في ظل اشتداد موجات الاضطهاد خلال الحرب العالمية الأولى وفي الفترة السابقة لها. تذكر الكاتبة الألمانية، جوردن كرامر في كتابها "اليهود في مصر الحديثة 1914-1952" أنه حتى عام 1948، حيث إعلان دولة إسرائيل، كان يوجد نحو 80 ألف يهودي في مصر.

وقال الكاتب ورئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، محمد أبو الغار، الذي صدر له عده مؤلفات بينها كتاب بعنوان "يهود مصر من الازدهار إلى الشتات" ويستعد لنشر كتاب جديد عن الموضوع نفسه، إن وجود اليهود في مصر يعود إلى بضعة عقود قبل الميلاد في جزيرة ألفينتين في مدينة أسوان حيث كان لهم معبد ومقر وتم توثيق ذلك. ثم جاءت الهجرات المتتالية خاصة في عهد محمد على باشا وصولا إلى القرن العشرين.

اندمج اليهود في مصر ومنهم كثيرون حملوا الجنسية المصرية، ففي ذلك الوقت كانت مصر لديها قانون يصفه الكثيرون بـ"الليبرالي" صدر عام 1929 يتعلق بمنح الجنسية لكل من ولد على الأراضي المصرية أو أقام فيها عشر سنوات. لعب اليهود دورا بارزا في الاقتصاد والتجارة والفن والثقافة وغيرها من مناحي الحياة المصرية، وعلى سبيل المثال جمع الكاتب المصري سليمان الحكيم سيراً ذاتية للعديد من اليهود البارزين في المسرح والسينما المصريين، ولاحظ أن غالبيتهم كانوا في الصفوف الأولى من الوطنيين الذين رفعوا شعار مصر فوق الجميع وفوق كل ديانة أو مذهب.

تأسيس إسرائيل وبداية الألم

بينما كانت تسير الأمور على ما يرام ليهود مصر، وقعت تطورات سياسة مقلقة مع اشتعال الحرب العالمية الثانية، ثم الشروع في إنشاء دولة إسرائيل. البداية كانت عام 1937 عندما ألغى النحاس باشا اتفاقية الامتيازات الأجنبية، وفي عام 1946، أصدر النقراشي باشا قانون العمل الذي يلزم الشركات المساهمة ألا يقل عدد المصريين العاملين بها عن 90 في المئة، مما زاد التضييق على اليهود. وبحسب أبو الغار "في هذه الأثناء تصاعد مناخ عدائي عام ضدهم، ولم يحصل على الجنسية سوى الأغنياء الذين دفعوا رشاوى". يضيف، "معظم اليهود كانوا مصريين وطنيين غير مؤمنين بالفكر الصهيوني. والأغنياء منهم كانوا على وعي أن إقامة إسرائيل تعني رحيلهم من مصر، ولم يتبرعوا بأموال ليهود فلسطين".

أثير جدل قبل سنوات بشأن حقيقة اضطرار اليهود المصريين للتخفي وراء أسماء مسلمة، هربا من الاضطهاد الذي واجهوه في مصر، لكن أبو الغار يؤكد عدم وجود دلائل على هذا الأمر، ومع ذلك لا ينفي تعرضهم لسوء معاملة مع البدء في إنشاء إسرائيل واعتقال بضعة مئات من الشباب اليهود المتبقين بعد نكسة عام 1967. ويوضح أن خروج اليهود من مصر تم على ثلاث مراحل؛ الأولى تتعلق بمغادرة الأغنياء ممن تربطهم صلات قوية بالسلطات المصرية وذلك بدافع القلق من المشهد السياسي، ثم وقعت موجتي خروج بين عامي 1948 و1954 ثم الرحيل الأضخم في عام 1956.

يوضح، "أن الطبقة الوسطي من اليهود، أصحاب الأعمال التجارية الصغيرة والموظفين، كانت الأكثر ضررا، فنحو 20 في المئة رحلوا في الأربعينيات إلى أوروبا والولايات المتحدة، ثم رحل 15 في المئة مع هجوم إسرائيل على غزة وقتل جنود مصريين. وجاء الرحيل الأكبر بعد العدوان الثلاثي عام 1956، في ذلك الوقت نشأ تيار شعبي واسع معادٍ لليهود لأن الحكومة والشعب اعتبروهم مؤيدين لإسرائيل".

لكن يذكر كتاب "شتات اليهود المصريين" لجويل بينين، أن الأمر لم يتعلق بالتضييق والضغط النفسي فقط، إذ إن اندلاع الأعمال القتالية بين مصر وإسرائيل الناشئة حديثا في 1948، نتج عنه اعتقالات ومصادرة الأصول التجارية اليهودية وإلقاء القنابل في حارة اليهود وعلى المتاجر اليهودية وسط القاهرة والقيام بعمليات هجوم عشوائي. كما كان هناك هجوم فج معادٍ للسامية في الصحافة المصرية.

بين نوفمبر (تشرين الثاني) 1956 وحتى منتصف 1957 رحل أغلب اليهود المتبقين في مصر؛ فالضغط الشعبي والحكومي جنبا إلى جنب مع التسهيلات الضخمة التي وفرتها إسرائيل والمنظمة اليهودية العالمية، ساعدا على دفعهم للرحيل بأعداد ضخمة. يذكر أبو الغار أنه في عمارة الإيموبيليا الشهيرة وسط القاهرة، كان يوجد مكتب مُصرح به، يوفر تذاكر الطيران أو السفن، لليهود الذين يرغبون في الرحيل، ويقول "كان هناك معاملة سيئة وضغط نفسي وفي الوقت نفسه تسهيلات بالخروج، كما أصدرت الحكومة قرارا بالخروج بلا عودة ونزع الجنسية المصرية عمن يرغب في الرحيل".

شهدت سنوات خروج اليهود بين 1948 و1956، خطابا دينيا ملتهبا أحيانا، بحسب بينين. ويذكر أنه في فبراير (شباط) 1953، قام وزير الأوقاف الشيخ أحمد حسن الباقوري بإلقاء خطبة في الإذاعة الحكومية، قال فيها إن "اليهودية لم تعد دينا بل مذهبا عنصريا مثل النازية ومن ثم ينبغي تدميرها على يد شعوب العالم الحرة".

التراث اليهودي

بعد مرور أكثر من ستة عقود على الخروج الكبير لليهود، لم يتبق في يومنا هذا سوى بضعة أفراد يمكن عدهم على أصابع اليد، وتراثا دينيا وثقافيا ثريا، تقوم الدولة المصرية على إحيائه وتطويره بالتعاون مع جمعية "قطرة لبن"، المعنية بالحفاظ على التراث اليهودي.

بحسب لقاء صحافي سابق مع ماجدة هارون، رئيس الطائفة اليهودية في مصر، يتبقى 13 معبدا يهوديا في مصر ومقابر البساتين التي تعود لعصر الدولة الطولونية، التي جرى تطويرها لتحويلها إلى منطقة سياحية، بالإضافة إلى مكتبات يضمها معبدين؛ معبد القرائيين ومعبد شارع عدلي. يتميز كل معبد بتراث معماري مختلف على حسب الفترة التي بُني فيها، وتضم المكتبات مجموعة من الكتب والمخطوطات التاريخية.

وفي 10 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أعلنت الحكومة المصرية عن تخصيص 1.3 مليار جنيه لإحياء التراث اليهودي في البلاد. والعام الماضي، أعادت الحكومة افتتاح معبد إلياهو هانبي في الإسكندرية، الذي يعود تاريخ تأسيسه لعام 1354، ذلك بعد عمليات ترميم بتكلفة 64 مليون جنيه، كما تشارك الحكومة في مشروع تطوير مقابر البساتين ومعابد أخرى.

آخر يهود العراق طبيب الفقراء

وفي العراق، كان اليهود يمثلون المكون الثالث من سكان بغداد بعد السنة والشيعة حتى منتصف القرن الماضي، بحسب باحثين، إلا أن جاليتهم باتت لا تعدو سوى أربعة أفراد وفق آخر الإحصاءات. مثلت وفاة الطبيب اليهودي ظافر فؤاد الياهو في 15 مارس (آذار)،2021 حدثاً لافتاً، إذ يعد أحد أواخر اليهود العراقيين المقيمين في بغداد.

ويلقب الياهو، وهو طبيب متخصص بجراحة العظام وعمل في مستشفى الواسطي الحكومي في بغداد، بـ"طبيب الفقراء". ونعته أوساط أكاديمية وسياسية وطبية. هو مواليد 1960، تخرج في كلية الطب بجامعة بغداد عام 1984، ومارس مهنة الطب طوال السنوات الماضية، ويعد ضمن أقلية يهودية رفضت مغادرة العراق على الرغم من دعوات الهجرة التي وجهت إليه طوال السنوات الماضية، بحسب مقربين.

الصراع بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود

 

 

 

قال الحاخام باشي ساسون خضوري، رئيس الطائفة اليهودية في العراق في ثلاثينيات القرن الماضي، عام 1936 مع تفاقم الصراع بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود، إن "يهود العراق جزء من الشعب العراقي". ولعل ما يدلل على عدم رغبة اليهود حينها مغادرة العراق، هو قيامهم بالعديد من المشاريع الجديدة والمدارس والأنشطة الاقتصادية والثقافية.

سبقت هجرة يهود العراق أحداث ما يطلق عليه بـ"الفرهود" عام 1941، وهي عمليات نهب تعرضت لها الطائفة في البلاد استمرت ليومين. وتشير أبحاث إلى أنها أدت إلى سقوط نحو 3 آلاف بين قتيل وجريح من بينهم. وحرضت حكومة رشيد عالي الكيلاني على النهب الذي طاول ممتلكات في بغداد، بعد قيامه بما يعرف بـ"انقلاب مايس" عام 1941.

وقال باحث، رفض الإفصاح عن هويته، إن "ما حصل في أحداث الفرهود كان نتيجة فراغ سياسي، وسرعان ما عادت الطائفة اليهودية إلى قوتها من الناحية الاقتصادية، فضلاً عن أن الحكومة الملكية شكلت لجنة تحقيق وأصدرت تقريراً يكشف المسؤولين عن الحادث". ويذكر الباحث أن الحكومة في حينها "حاكمت المتهمين وأعدمت بعضهم في ساحات عامة، فيما زج آخرون بالسجون". وعبر الباحث عن اعتقاده بأن "ضرب المكونات الاجتماعية والأقليات الدينية بدأ بالآشوريين عام 1933 ومرت باليهود وانتهى بكل مكونات المجتمع العراقي".

أحياء اليهود

وعلى الرغم من انتشار اليهود في معظم المدن العراقية، فإن حضورهم في بغداد كان لافتاً، حيث أسسوا "حي التوراة" ضمن منطقة "قنبر علي"، وقد تعرض إلى عمليات نهب ضمن حوادث "الفرهود" الشهيرة.

وما زالت أحياء منطقة "قنبر علي" تدل على الطابع العمراني اليهودي، على الرغم مما تعرضت له من إهمال. ويشير باحثون إلى أن العديد من "الشناشيل" التي تحتوي على نجمة داود تدل على عائديتها إلى أسر يهودية.

وإضافة إلى أحياء اليهود الشهيرة في بغداد، انتشر اليهود في غالبية المدن العراقية، مثل الموصل والناصرية والبصرة وسامراء. وهناك مئات المواقع التراثية اليهودية في تلك المدن. وبرز في العراق من اليهود مثقفون وفنانون وسياسيون، وأشهر هؤلاء كان ساسون حسقيل الذي كان وزيراً للمالية لسنوات بعد عام 1920. ويشير الباحثون إلى أنه كان أول من أسس للنظام المالي في العراق.

بداية النزوح

بدأت موجات هجرة اليهود العراقيين بعد النكبة الفلسطينية وقيام إسرائيل عام 1948، خصوصاً في العامين 1950 و1951، إذ غادر نحو 120 ألف يهودي عراقي. وجاء ذلك بعد إصدار الحكومة العراقية قانوناً يسقط الجنسية عن كل يهودي غادر أو يغادر العراق، وسميت السنة التي تم فيها تشريع هذا القانون بين أوساط اليهود العراقيين بـ"سنة التسقيط".

وأشار الباحث إلى أن عام 1950 مثل محطة فارقة في تاريخ يهود العراق، إذ كانت هجرتهم من البلاد "سياسة منهجية"، لافتاً إلى أن "كتباً عدة تبين وجود أكثر من جهة من مصلحتها تهجير يهود العراق لأسباب اقتصادية وسياسية، بينها الحركة الصهيونية".

ولفت إلى أن "الحكومة العراقية كانت تعتقد بأن أمواج اللاجئين اليهود من الدول العربية ستسهم في تهديم الدولة الناشئة، إسرائيل، لأن اقتصادها لن يتحمل تلك الأعداد"، مردفاً "كانت تلك السياسة جزءاً من استراتيجية الصراع".

ويعتقد الباحث أن "العراق دفع ثمن تلك الاستراتيجية بخسارة جزء أساسي وحيوي من الطبقة الوسطى المتمثلة في اليهود"، لافتاً إلى أن "الطائفة اليهودية كانت تمثل المكون الثالث من حيث العدد في بغداد، بعد الطائفتين السنية والشيعية".

حزب البعث ونهاية الوجود اليهودي

مثل وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1968 جرس إنذار لما تبقى من اليهود العراقيين، في واحدة من أكثر فترات العراق قمعاً للجميع، إلا أن قمع الطائفة اليهودية كان مختلفاً، إذ أصبحت في دائرة الشك الدائم مع اتهامات جاهزة بالتعامل مع الصهيونية والقيام بإعدامات علنية لهم.

ولعل الإعدامات العلنية عام 1969 لنحو 13 يهودياً في ساحة التحرير بتهم التجسس مثلت جرس إنذار لما تبقى من الطائفة الذين كانوا يبلغون نحو 15 ألفاً. ويرى الباحث أن "اليهود باتوا يشعرون حينها بأن هذا النظام يتبنى عداءً صريحاً لهم". وكان لتوقيع النظام العراقي عام 1970 اتفاق مارس (آذار) مع القوى الكردية أثراً في زيادة نزوح اليهود العراقيين، إذ أتاح للمهربين الاتفاق مع عائلات يهودية لتهريبها عبر كردستان إلى إيران ومن ثم إلى إسرائيل.

يهود إقليم كردستان

يختلف الوضع نسبياً في إقليم كردستان عن بقية مناطق العراق في ما يتعلق بوجود اليهود، لا سيما خلال السنوات القليلة الماضية، إذ أقر برلمان الإقليم في 2015، قانوناً يعتبر اليهودية "ديناً محمياً" ويعطي الحق لها بممثل رسمي.

وتقول حكومة الإقليم إن نحو 400 عائلة من أصل يهودي تعيش في الإقليم، لكنها اعتنقت الإسلام وسجلت رسمياً كمسلمة.

وفي تصريحات سابقة، قال شيركو عثمان عبدالله الممثل الرسمي لليهود في الإقليم، "لا أعرف عدد العائلات اليهودية التي ما زالت تعيش في كردستان لأن معظمها يمارس الدين بالخفاء طالما أن القول نحن يهود يعتبر موضوعاً حساساً في العراق والشرق الأوسط". وتقع أكبر مقبرة لليهود العراقيين في أطراف مدينة الصدر الشيعية شرق العاصمة بغداد، حيث يرقد فيها نحو 4 آلاف يهودي عراقي.

اندماج اليهود في سوريا لم يحل دون هجرتهم

شأن اليهود في سوريا كغيرها في المنطقة العربية، إذ عاشوا استقراراً اجتماعياً واقتصادياً حتى بروز التوترات المتصاعدة بين المسلمين واليهود إثر حرب فلسطين عام 1948، حين تدفقت الهجرات المتتالية من مناطق انتشارهم في مدن كحلب ودمشق والقامشلي.

لكن هجرة اليهود من سوريا مرت بعدة مراحل، بدأت بعد حرب فلسطين حيث هاجر نحو خمسة آلاف من أبناء الطائفة "الموسوية"، كما يطلق عليهم في القيود والسجلات المدنية، وليصل تعدادهم بحسب إحصاء عام 1957 إلى نحو 30 ألفاً.

أما الهجرة الكبيرة، فكانت عقب حرب يونيو (حزيران) 1967، حين أسفرت "النكسة" عن احتلال إسرائيل لمرتفعات الجولان. بعدها، بقي نحو أربعة آلاف يهودي في سوريا، إلا أن الدعوات كانت تنشط لاستقطابهم.

تناقصت الأعداد مع مرور الوقت، لتصل إلى نحو 20 شخصاً يعيشون في حارة دمشقية قديمة تسمى "الأمين"، وهي حارة اليهود، أو خارجها، لكن غالبيتهم من كبار السن بعد أن هاجر الشباب والأطفال.

وتقول الطائفة اليهودية في دمشق "في ظل التعايش الديني عاش اليهود في دمشق كجزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع الدمشقي، فكانت العائلات اليهودية كمثيلاتها من المسيحية والإسلامية من حيث الحقوق والواجبات".

وخصصت الطائفة، التي تقلص عددها بشكل كبير في تسعينيات القرن الماضي، علاوة على اندلاع الحرب السورية الأخيرة، صفحة رسمية على وسائل التواصل أشارت من خلالها إلى العائلات اليهودية في دمشق تاريخياً، التي وصلت إلى نحو 200 عائلة، وفق ما ذكر أحد الرحالة اليهود من أصل 900 عائلة موجودة في أنحاء سوريا. فيما يروي الرحالة اليهودي بنيامين هشيني (بنيامين الثاني) بعد زيارته لدمشق عام 1848 أن هناك 600 عائلة يهودية في دمشق.

يهود حلب والبندرة

اشتهر يهود سوريا بأعمال التجارة والصناعات التراثية، والذهب والصرافة والعمل في البنوك، ومثلت حلب كمدينة اقتصادية مركز استقطاب لهم. ورصد كتاب بعنوان "تاريخ اليهود في حلب"، للباحث الراحل محمود حريتاني، طبع عام 2008، أن واحداً من خانات المدينة فيه 52 مستأجراً يهودياً، فضلاً عن وجودهم في الأسواق المركزية.

وكتب حريتاني "لعب اليهود دوراً اقتصادياً كبيراً كشركاء وعاملين مع البيوت التجارية الأوروبية، كما جاءت جاليات يهودية إيطالية من ليفورنو وجنوة والبندقية ومن إسبانيا والبرتغال واليونان لتقطن في حلب في الخانات كالأوروبيين، وفيما بعد في أحياء حديثة كالجميلية والصليبة الصغرى والتلل وغيرها".

ولم يعرف اليهود، القاطنون في بلاد الشام، أي رغبة في السفر إلى فلسطين سوى لأداء الزيارات الدينية كالطائفة المسيحية، مع تشابه كبير في العادات والتقاليد مع المسلمين والمسيحيين.

وأطلقت تسمية "بندرة" على حي سكنه اليهود في حلب، ولكن في حقيقة الأمر لم يكن هناك حي يسكنونه منعزلين عن غيرهم، بل عاشوا في أحياء فيها المسيحيون والمسلمون معاً، ومن أشهرها العزيزية، والإسماعيلية، والجميلية، وحي بحسيتا الذي يقع في وسط المدينة.

وعلى الرغم من الهجرة الواسعة، فإن أملاك أبناء الطائفة لا تزال تخضع للقانون من دون التصرف بها، إضافة إلى المعابد وأماكن العبادة القديمة وحتى المدارس الخاصة بهم.

الهجرة الواسعة

تشابهت عادات اليهود في سوريا مع عادات وتقاليد كافة السوريين، ولا يمكن تفرقة اليهودي عن غيره إلا في المناسبات الدينية أو الاجتماعية. ووثقت الدراما السورية فترة حياتهم ومعيشتهم في سوريا، ومن أبرز تلك الأعمال مسلسل "بواب الريح" عام 2014 للمخرج مثنى صبح، وأدى فيه الفنان السوري دريد لحام شخصية اليهودي يوسف آغا، شيخ كار النحاسين.

بدأ اليهود بتصفية أموالهم فعلياً عام 1942 والهجرة إلى لبنان، التي ازدادت عام 1947 مع تصويت الأمم المتحدة بشأن إنشاء دولة إسرائيل، وتسليم فلسطين أمورها إلى هيئة الأمم. وأوكل المهاجرون أموالهم وأرزاقهم إلى من ظلوا في البلاد من صغار الكسبة، حيث سافروا إلى تركيا، ومنها إلى قبرص ثم إسرائيل.

لقد أوجد اليهود شبكة منظمة تقوم بنقلهم ليلاً إلى الحدود السورية ـ التركية. وتشير وثائق المهاجرين التاريخية إلى اتجاه أغنياء اليهود للسفر نحو الأميركيتين أو اليابان، بينما اتجه الذين أقاموا في لبنان إلى أوروبا.

ومع ذروة التوترات الإقليمية وإثر الصراع العربي الإسرائيلي والهجرة المتلاحقة، جُمدت أملاك المستأجرين اليهود بموجب مرسوم صدر في أبريل (نيسان) 1966، وأصبحت تدار من قبل لجنة من وزارة الداخلية.

اليهود في الخليج... مكون طارئ في النسيج أم أصيل؟

إلى عهد قريب لا يذكر اليهود في دول شبه الجزيرة العربية إلا على سبيل تاريخ مضى، لكن الانفتاح الذي شهدته منطقة الخليج في السنوات الماضية، أعاد تناول العرقية إلى نطاق واسع، تجاوز أحاديث المجالس والروايات الشعبية، إلى الشاشة الصغيرة وجدليات التواصل الاجتماعي والسجال السياسي.

ومع أن موجة ما أطلق عليه "اتفاقات إبراهام" 2020، ضاعفت الاهتمام باليهود في المنطقة الخليجية، فإن التحول الذي أحدثه الاتفاق ظل سياسياً أكثر منه اجتماعياً وتاريخياً، فلم تجب النقاشات التي تبعته مثلاً عن المكون اليهودي في الخليج، ما حقيقته؟ هل هو متخيل أم واقع على الأرض لا يمكن نكرانه؟ وإذا كان كذلك، فهل وجوده أصيل أم طارئ؟

تلك الأسئلة وسواها لم تكن وليدة الاتفاق، فقد اهتم باحثون خليجيون بها في مرحلة مبكرة من العقد الماضي، من دون ربط الجانب التاريخي والاجتماعي بالسياسي الحديث، وبين أولئك الباحث الكويتي يوسف المطيري الذي لفت في كتابه "اليهود في الخليج" الذي صدر عن دار "مدارك" 2011 إلى أن تاريخ اليهود في الخليج لم يكن مطموراً في السابق، وإنما الظروف المحيطة التي صاحبت وجود دولة إسرائيل بعد 1948م والصراع العربي معها، هي التي نشأ عنها السكوت عن ذلك المكون في العصر الحديث، بينما هو شائع في الماضي من دون أي حرج.

بينما يتجاوز نبيل الربيعي الباحث العراقي المتخصص في تاريخ هذه الأقلية في العراق الحديث وجودها في الخليج من عدمه، إلى الخوض في تفاصيل حياتها بين دول ومدن البحرين وعمان والأحساء والكويت، من خلال بحث مستفيض سماه "تاريخ يهود الخليج"، كان أحدث من سابقه، إذ صدرت طبعته الأولى في 2019 عن دار "الفرات"، مضمناً إياه العديد من الوثائق والصور، وهو الذي استفاد من تجربته السابقة في كتابة سفر ضخم من "جزءين" عن الشريحة نفسها، 2016، بعنوان "لمحات من تاريخ يهود العراق".

وفي بحثه يلفت الربيعي إلى أن غياب الوجود اليهودي سوى المناطق التي ذكر من الخليج، يعود إلى أن دولتي قطر والإمارات في ذلك الحين لم تكونا مثل نظيراتهما في الأمن والنشاط الاقتصادي، ما جعلهما غير جاذبتين للعرقية كي تهاجر إليها.

لماذا الإنكار؟

ويعتبر أن واقع الإماراتيين الاجتماعي لم يكن حينها مهيأ لتقبل وجود غير المسلمين، "ويدلل على ذلك عدم افتتاح أي مركز تنصيري هناك، فقد حاول جيمس مورديك الطبيب في الإرسالية العربية الأميركية عام 1901م استئجار محل في سوق الشارقة لبيع الكتب المسيحية، لكن أهل الشارقة رفضوا ذلك"، وفي قطر لم يكن التسامح الديني أفضل حالاً، "فقد جاء إلى قطر يهود ومسلمون من بغداد لبيع سفينتين محملتين بالتمر 1905م، فكان الشيخ قاسم آل ثاني (حاكم قطر) لا يسمح لليهود بدخول إمارته، فقرر يهوديان إخفاء هويتهما ودخول مدينة البدع لبيع حمولة السفينتين، فلما علم الأهالي بالأمر قتلوا أحدهما، وهرب الآخر إلى القطيف".

لكن مع ذلك، ينتقد الباحث العراقي تجاهل الباحثين المكون اليهودي في الخليج، حتى جعل ذلك أحد المبررات التي دفعته لتخصيص مؤلف يتناول حياتهم وطقوسهم ونشاطهم، فيسجل بصراحة أن "المصادر المختلفة محلياً أغفلت تقديم معلومات دقيقة عن تاريخ الأقلية اليهودية في الخليج، وعملت بشكل متعمد على تقديم المعلومات المغلوطة لتاريخ هذه الأقلية وعلاقاتها مع المجتمعات المحلية".

واعتبر أن تناول قصة "الأقلية اليهودية"، ظل شائكاً في المنطقة، ما جعله اليوم أكثر حاجة للتمحيص والتدقيق عند نقاشه أكثر مما سواه، "لأكثر من سبب، مثل دور الحكومات القومية التي سيطرت على الشرق الأوسط، ومارست ضغوطاً كبيرة على اليهود رغم الدور الاجتماعي والاقتصادي الذي لعبوه فيها"، فضلاً عن الظروف الدينية والاجتماعية التي قال إنها سهلت اختراق المتطرفين المشهد.

وفي المجمل، لا تختلف قصة وجود المكون اليهودي على ساحل الخليج، عن بقية المكونات الأخرى القبلية والعرقية الموجودة في المنطقة، فأكثرهم هي الشريحة التي قدمت من العراق، خصوصاً في الكويت والبحرين، بينما أتى المشهورون في عمان من اليمن وبلاد فارس، فيما كان أصل يهود الأحساء (شرق السعودية)، تجاراً ومساعدين ماليين للواء الحاكم العثماني الذي ظل طويلاً في الواحة العريقة قبل أن يجليه منها الملك عبدالعزيز 1913م.

لكن بالنظر إلى العقود الأخيرة، فإن الوجود اليهودي في الخليج ظل محصوراً في "البحرين، والكويت"، فبينما لم يصمد يهود مسقط أمام تنافس الهنود تجارياً، أجلى السعوديون الحامية التركية بمن فيها من يهود وأتراك وبقية المكونات، إلى البحرين، حيث انطلق الجميع إلى وجهته.

ولا يشير الباحثون في هذا السياق إلى يهود نجران، على الرغم من تداول وسائل التواصل الاجتماعي تسجيلاً لمواطن إسرائيلي تداولته حسابات تل أبيب الرسمية، يدعو السلطات السعودية إلى السماح له بزيارة قبور أجداده في مدينة نجران (جنوب السعودية)، التي قال إنه خرج منها، وهو لم يزل صغيراً.

يهود في نجران أم عمال يمنيون؟

ويقول الكاتب السعودي محمد الساعد، إنه وثق في مقابلات أجراها مع عدد من أعيان المنطقة، تذكرهم للوجود اليهودي في المدينة، وأنهم كانوا صاغة للذهب والمجوهرات، وعرفوا بالمهارة في صناعة الخناجر الحربية (الجنابي) التي لا تزال تقليداً شائعاً بين أهالي المنطقة، وإحدى سمات مقتنيات الزينة المتوارثة لدى رجالها حتى اليوم.

وروى نقلاً عن أحد الضباط المعمرين في المنطقة، أن "الأقلية اليهودية في نجران كانت جزءاً من النسيج الاجتماعي قبل خمسينيات القرن الماضي، ويذكر تجربته مع أحد أفرادها الذي يدعى العم هارون، إلا أن ضجيج القومية العربية، والضخ الإعلامي الذي تبع قيام دولة إسرائيل، أشعر العائلات اليهودية بالخطر، ما دفعها إلى الرغبة في الرحيل، من دون أن يواجهوا أي ضغط من جيرانهم المحليين".

ونقل الساعد أن المصدر الذي تحدث إليه كشف له عن بعض ملابسات رحيل المجموعة، إذ قال "إن العائلات قبل أن تحزم أمتعتها طلبت الإذن من أمير المنطقة حينئذ، وهو الأمير فهد السديري، الذي قام بدوره بإبلاغ الرياض رغبة مواطنيها، فكان الاستفسار الأهم من الحكومة في عهد الملك سعود، يومها، السؤال عما إذا كانت المجموعة تقوم بذلك بإرادة ذاتية أم نتيجة ضرر أو ضيق تتعرض له؟ فكان الجواب من نجران يفيد بأن الفئة المذكورة لا تعاني أي مضايقات، فجاء القرار النهائي بالسماح لهم بالرحيل وتمكينهم من حمل أموالهم، وتأمينهم حتى يصلوا إلى مقصدهم، وهو "صعدة"، أقرب نقطة حدودية مع اليمن".

وهكذا، انضم يهود نجران إلى بني عمومتهم في اليمن، التي عرفت بأقلية يهودية ذائعة الصيت، وتداولت وسائل الإعلام، أخيراً، أن البقية الباقية منهم رحلت من البلاد، إذ "أنهى الحوثيون وجود الطائفة في اليمن بترحيل آخر ثلاث أسر من البلاد. ويبلغ عدد أفراد الأسر 13 شخصاً من الذكور والإناث"، وتتخذ جماعة الحوثي من "الموت لأميركا، اللعنة على اليهود"، شعاراً لخطابها السياسي والديني.

وحسب المعلومات المتداولة بين الأوساط الاجتماعية، فإن الشريحة النجرانية من اليهود، لم تكن ذات جذور قديمة في المنطقة، وإنما جاءت على هيئة عمال وأرباب تجارة وصناعة، تبحث عن رواج سلعتها، وأنهم امتداد ليهود صعدة المعروفين فكانت عودتهم إلى نسيجهم أسهل، إلا أن الكاتب الساعد يرفض هذه الرواية، ويعتبرها تعكس الحرج السائد من المحيط الرافض لأي صلة باليهود، نظير التشويه الذي آلت إليه الأقلية بسبب الخطاب القومي والإسلامي الذي تلاقى به في العقود الماضية، "وإلا فإن اليهود كديانة وأمة، لا ينسحب عليها ما يقال عن إسرائيل".

وأضاف، "لا يعرف تحديداً متى استوطن اليهود في نجران، إلا أن بعض المصادر وصفتهم بأنهم الذين وجدوا في منطقة نجران جنوب شبه الجزيرة العربية - قبل البعثة النبوية - وعملوا في التجارة وصياغة الذهب وحرفة صناعة الخناجر والسيوف وغيرها، ينتسبون إلى (بني الديان)، وهي تسمية عبرية لقبيلة تنتسب إلى بني الأزد قطنت نجران، واعتنقت اليهودية".

"بساط الريح" قد يفسر أسباب الهجرة
 
ولفت إلى أن أعدادهم في عام 1932م قدرت في مصادر بسبعة آلاف، حتى وصلوا عام 1948م إلى نحو 260 شخصاً، كان يعمل معظمهم في الحرف والمهن اليدوية، كما اشتغل القليل منهم في الرعي والزراعة. أما الأحياء التي سكنوها في نجران فقال إن أهمها "القابل، ورجلاء، والحضن، ومراطة، والجربة، وبير دار، ووسط صاغر، والحوية، ودحضة، والقلح، والعوكلة". وأكد ما حكاه في مقالة له من دون أن تنفيها الجهات التاريخية في البلاد، أن أولئك اليهود "بقوا ذميين، لا يؤذون، ولا يتحرش بهم، بل جزء من النسيج الاجتماعي بكل تفاصيله وتنوعه وثرائه".

وربما تفسر عملية "بساط الريح" التي جرى تنظيمها في ذلك الوقت، هجرة الفئة النجرانية من اليهود، إذ تقول المصادر اليمنية فيما وثقته "اندبندنت عربية"، "إن العملية التي مرت عليها سبعة عقود لترحيل اليهود اليمنيين إلى إسرائيل، وأطلق عليها (بساط الريح) أو (البساط السحري)، جرت في ديسمبر (كانون الأول) من عام 1948، حين بدأت الوكالة اليهودية بترحيلهم عبر عدة رحلات جوية، نقل خلالها 65 ألف يهودي يمني إلى إسرائيل".

ولم تكن تلك الهجرة الأولى من نوعها لليهود اليمنيين إلى إسرائيل، ولا الأخيرة، بيد أنها كانت أكبر وأهم الهجرات، لا سيما أنها جاءت في ظروف سياسية معقدة إثر تداعيات حرب نكبة فلسطين.

ويقول الباحث اليمني المتخصص في شؤون الطائفة اليمنية اليهودية محمود طه، إن "هجرة اليهود اليمنيين إلى إسرائيل عبر عملية بساط الريح لم تكن الأولى، إذ تعود بدايات هجرة اليهود اليمنيين إلى القرن التاسع عشر".

وإذا تقرر الوجود اليهودي في معظم مناطق الخليج والجزيرة العربية قبل الصراع مع إسرائيل، فإن تأثيرهم أيضاً كان ملموساً في المناطق التي وجدوا فيها، خصوصاً في جانب التجارة وحركة الأموال، تبعاً للشخصية اليهودية الشائعة في التصور الغربي الذي تلخصه رواية ومسرحية "تاجر البندقية"، وهي صورة قال الباحث السعودي المتخصص سعد البازعي، "إنها كانت مهيمنة على اليهود في الثقافة الغربية حتى بعد تحرير الأقلية من "الغيتو" بعد الثورة الفرنسية، وغزو الأقلية أميركا وأنحاء من أوروبا كعلماء ومثقفين، نال كثير منهم جائزة نوبل".

ولكن على الرغم من تلك الصورة، فإن يهوداً خليجيين برزوا مؤثرين في الحقل السياسي والثقافي، كما في حالة الشقيقين صالح وداوود الكويتي، الذي ذكر الباحث يوسف المطيري "أن الأخير كان أبا الأغنية الكويتية الحديثة بعد العراقية".

وفي البحرين، اشتهرت على سبيل المثال عائلة نونو بثقلها التجاري والسياسي، فكانت هدى نونو سفيرة للمنامة في واشنطن سنوات عدة، مثلما لا يزال إبراهيم عميد الأقلية اليهودية في الجزيرة الصغيرة، مستشاراً لملك البحرين، ونانسي خضري نائبة في مجلس الشورى (البرلمان)، وعضو في أهم لجانه المخولة بالشؤون الخارجية والدفاع والأمن الوطني، على الرغم من أن جميع أفراد الأقلية في البحرين لا يتجاوزون 50 فرداً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن بين أغرب ما تدونه الأبحاث التاريخية عن تعلق المكون اليهودي بالخليج، اقتراح إحدى الشخصيات العبرية البارزة في القرن الماضي على البريطانيين إقامة دولتهم الموعودة على أرض مدينة الأحساء الاستراتيجية، شرق السعودية، وهي منطقة خصبة على شاطئ الخليج، تضم أكبر واحات النخيل في العالم طبقا لما أورده الباحث العراقي نبيل الربيعي في دراسته "تاريخ يهود الخليج".

لكن البريطانيين أجابوا عن المقترح المقدم من جانب المتحدث باسم الدولة اليهودية المقبلة الطبيب الروسي مالرو ثستيرن بأنه "بصرف النظر عن الاعتراض العام لإدخال عنصر جديد في الجزيرة العربية، وبصرف النظر عن المشكلة التي هي مثار الجدل حول مرغوبية إقامة دولة يهودية في أي مكان، هناك أسباب خاصة لاعتبار المواقع المختارة لكل من تمركز الفرق اليهودية (البحرين)، وللإقامة النهائية للدولة اليهودية في الأحساء غير ملائمة تماماً"، حسب ما جاء في نص الوثيقة التي نشر الباحث الربيعي نصها وصورتها في كتابه المذكور سابقاً.

وكان مالرو قد وجه المقترح إلى اللورد البريطاني فرانسيس بيرتي 1917م قبل وعد بلفور، يقضي بتجهيز "جيش من اليهود قوامه 120 ألفاً في البحرين تضمه بريطانيا تحت قيادتها (كانت تحتل البحرين وقتها) لغزو واحتلال منطقة الأحساء، وأن تعقد معاهدة موقتة مع الأتراك من أجل خلق دولة يهودية على الخليج العربي"، وفقاً لما وثق الباحث نبيل الربيعي الذي أضاف أن اللافت في المقترح أنه جاء بعد أن هاجرت الأقلية اليهودية المقيمة في الأحساء من المنطقة في ذلك الوقت.

ورجح أن هناك عدة أسباب، أدت إلى هجرة الأقلية من الأحساء، "لذلك لا يمكن اعتبار هجرتها منها طرداً نتيجة ظهور الحركة الصهيونية أو القضية الفلسطينية على مسرح الأحداث وما نتج عنها من صراع عربي - إسرائيلي، لأن الأقلية هاجرت من الأحساء منذ العقد الأخير من القرن التاسع عشر بسبب اضطراب الأوضاع الأمنية في الأحساء وانتشار الفوضى"، قبل أن يضاف إلى ذلك سبب آخر هو استيلاء الملك عبد العزيز على الأحساء، وانتهاء فترة حكم العثمانيين لها، فهاجرت الأقلية بشكل نهائي.

ويرجح الباحث عدم صحة ما أورده الرحالة شيزمان من كون عبدالله بن جلوي الذي عينه الملك عبدالعزيز أميراً على الأحساء هو الذي أخرج اليهود من المنطقة 1914م، وإن صح ذلك فإنه ربما استثنى أسراً يهودية قليلة ذكر أن أحد الباحثين قال إنها "بقيت في الأحساء حتى عشرينيات القرن العشرين".

الخليج خارج مطالبة تعويضات إسرائيل

لكن منظمة العدالة لليهود من الدول العربية (JJAC)، وهي مجموعة دولية تضم عدداً من المنظمات اليهودية، كانت أكثر دراية بالمكون اليهودي في المنطقة، إذ استثنت دول الخليج قاطبة من المطالبة بأي حق للأقلية في الدول العربية، وهي التي قادت حملة قانونية وسياسية، دعمتها تل أبيب على نطاق واسع للمطالبة بحقوق من تسميهم اللاجئين اليهود الذين طردوا من أوطانهم قسراً، وصودرت أموالهم، قبل أن تؤويهم إسرائيل، وتطالب أخيراً بتعويضهم بنحو 250 مليار دولار، على غرار تعويضات "هولوكوست" وملاحقة الألمان، في رد مباشر على المطالبة الفلسطينية والعربية بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، كأحد شروط التسوية العصية على قبول أي من الطرفين.

وتقول المنظمة على موقعها الرسمي، إن "القيود التي تفرضها الدول، التي غالباً ما تقترن بالعنف والقمع، أدت إلى حدوث نزوح جماعي لليهود، بينما كانت النتائج متشابهة، أصبحت الحياة لا تطاق، وتشرد اليهود من نحو 10 دول في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. والنتيجة، هي اقتلاع أكثر من 850 ألف يهودي من الأراضي التي عاشوا فيها هم وأجدادهم لأجيال"، وذلك منذ 1948م حتى 2012 في كل من "عدن والجزائر ومصر والعراق ولبنان وليبيا والمغرب وسوريا وتونس واليمن"، حسب الجدول المفصل الذي نشرته المنظمة.

ولا تقر معظم الدول العربية بالمزاعم الإسرائيلية، إذ جاءت هجرة معظم اليهود في بلدان عربية عدة، على خلفية إنشاء تل أبيب كيانها السياسي، ودعوة أبناء الأقلية إلى الوطن الجديد، ولا يزال المتبقون منهم في بلدان مثل المغرب يجدون قبولاً اجتماعياً وحظوة عند صناع القرار السياسيين.

أما في الخليج، فإن تجمعاً جديداً أطلق على نفسه "رابطة المجتمعات اليهودية الخليجية"، نشأ بعد عقد كل من الإمارات والبحرين معاهدة سلام مع إسرائيل، وهي رابطة تقول عن نفسها أنها "تتولى أمور وشؤون الجاليات اليهودية في البلدان الخليجية الست فيما يخص النواحي الدينية والعقائدية والطقوس والمناسبات الاجتماعية والدينية، وأيضاً الأمور التي لها علاقة بالتربية والتثقيف اليهودي"، ولا يقتصر نشاطها على المواطنين، وإنما تهتم بتقديم خدماتها لكل السكان من الديانة، وتتخذ من الإمارات مقراً لها.

وفي وقت رحبت فيه سلطنة عمان بخطوة السلام مع إسرائيل التي أقدمت عليها جارتاها الإمارات والبحرين، لا تزال كل من الكويت وقطر والدولة الكبرى في المجموعة السعودية، ترفض الانضمام للاتفاق الذي جرى برعاية أميركية، إذ تؤكد الرياض تمسكها بمبادرة السلام العربية التي تقضي بأن تطبيع العلاقة مع تل أبيب مشروط بتسوية القضية الفلسطينية.

إلا أن توافق أكثر دول مجلس التعاون الخليجي مع إسرائيل في رؤيتها نحو التهديد الذي تمثله طهران، جعل التقارب بين الطرفين يحظى بالقبول أكثر من ذي قبل، وإن بقيت الحساسية القديمة والتشكيك في صدقية تل أبيب محل تناول في نقاشات المهتمين على وسائل التواصل الاجتماعي، ما يلقي بظلاله على الانفتاح الذي تراهن عليه إسرائيل بين شعبها ومواطني دول الخليج، لدى إنشائها قبل بضع سنين ما تسميه سفارة إسرائيل في دول الخليج الافتراضية.

الوجود اليهودي في المغرب

رغم تشارك اليهود الذين سكنوا في البلاد العربية نفس الواقع والأحلام والمصير، فإن واقعهم في المغرب كان مميزاً، إذ عرفوا في مراحل عديدة تعايشاً مع باقي المغاربة المسلمين، ومنع المغرب تسليمهم للنظام النازي باعتبارهم مواطنين مغاربة، ومكنهم احتراف غالبيتهم مجال المال والأعمال من العيش في رغد في ظل حماية الحكام المغاربة المتعاقبين.

يرجع باحثون بداية الوجود اليهودي في المغرب إلى عهد الإمبراطورية الرومانية، حيث تعايشوا مع سكان البلاد الأصليين من الأمازيغ، لكن الكاتب اليهودي، يؤاف شاحام، يشير إلى أن "التقاليد اليهودية تدعي أن استقرار اليهود في المغرب يعود إلى ما قبل ذلك، إلى أزمنة الكتاب المقدس، فذرية سكان قرية "إفران الأطلس الصغير" اليهود يروون أن آباءهم، رجال الملك سليمان، وصلوا إلى المغرب على سفن الفينيقيين".

ويعتبر شاحام أنه "في أيام الإمبراطوريتين الرومانية والبيزنطية، واجهت الجالية هزات قوية، لكنها استمرت في النمو، وتظهر شهادات تاريخية أخرى أن الرومان طردوا 30 ألف يهودي إلى المغرب بعد تدميرهم الهيكل اليهودي، كان هؤلاء أوائل اليهود في المغرب"، معتبراً أنه حين كانت الأندلس ساحة صراعات تاريخية بين العالم المسيحي والإسلام، حافظ يهود المغرب على هويتهم الدينية على الرغم من الضغط "المسيحي" الشديد، الذي أكرههم على تغيير دينهم، أما مع صعود الإسلام، فقد تحسن وضع اليهود، بعد أن حظوا بمكانة "أهل الذمة" كما في سائر أنحاء العالم الإسلامي، لكن لم يطبق جميع الحكام قوانين الذمة بالطريقة عينها، ما جعل وضعهم بين مد وجزر.

ويشير إلى أنه تحت سلطة الأدارسة في القرن التاسع، كانت حالة اليهود متقلّبة، باعتبار أن مؤسس السلالة، إدريس بن عبد الله، الذي كان من نسل علي بن أبي طالب، كان قاسياً تجاه اليهود، لكن ابنه استقبلهم بالترحاب، ودعاهم إلى الاستقرار في مدينة فاس، التي كانت قد أنشئت قبل سنوات معدودة، فأضحت المدينة مركزاً للحضارتين الإسلامية واليهودية على حد سواء، بحسب تعبير الكاتب.

فترة الاستعمار الفرنسي

مع بداية الاستعمار الفرنسي للمغرب، عملت قوات الاحتلال على خلخلة التوازن في العلاقات الذي كان سائداً بين يهود ومسلمي المغرب، لكن اليهود في المقابل عملوا على كسب قوات الاحتلال لصالحهم، كما استغلوا ظروف الحرب العالمية الأولى للاغتناء نظراً لتخصصهم في المجال التجاري واعتماد أحدث التقنيات الغربية.

يؤكد الكاتب المغربي، محمد كنبيب، في كتابه "يهود المغرب 1912-1948" أنه على امتداد العصور وإلى حدود إقرار نظام الحماية (1912) شكل يهود المغرب الأقلية الدينية– الإثنية غير المسلمة الوحيدة في البلاد. وكان عددهم يتجاوز عدد يهود تونس والجزائر مجتمعين، بل كانوا يشكلون أهم جالية يهودية في العالم العربي برمته.

التجارة والمال

تخصص اليهود بشكل عام في مجال التجارة والأعمال، واستطاع العديد منهم تحقيق ثروات طائلة على الرغم من الأزمات التي عرفها المغرب خلال الاحتلال الفرنسي وخلال فترات الحرب.

ويؤكد الكاتب محمد كنبيب أنه إضافة إلى وظائف يهود المغرب التقليدية "في مجالات المال والمبادلات التجارية بمختلف أصنافها الداخلية والخارجية، لا سيما البحرية منها، والحرف والمخالطات في القطاع الفلاحي، وبموازاة معها تميزوا فعلاً باندماجهم داخل المجتمع المغربي بصفتهم أحد مكوناته المتعددة".

ويعتبر الكاتب أنه كان من شأن المكانة المتميزة التي كانت لليهود على مستوى المبادلات الداخلية والخارجية للمغرب، ومهام الوساطة التي كانوا يقومون بها تقليدياً بين مواطنيهم المسلمين والأوروبيين، وتقدمهم في مجال التكوين العصري، إضافة لدورهم كمحطة لإعادة نشر المستجدات التقنية الواردة من الخارج، أن تؤدي إلى تحسن سريع لشروط عيشهم، وإضافة إلى هذه العوامل، فإن اندلاع الحرب العالمية الأولى بعد انصرام أقل من سنتين على توقيع عهد "الحماية"، وضراوة مقاومة القبائل، وحشد كل الموارد البشرية والمالية داخل التراب الفرنسي ما بين عامي 1914 و1918 لفائدة المجهود الحربي بأوروبا، قد وفرت بمنطقة الحماية الفرنسية شروطاً إضافية، سهلت من حيث المبدأ لجوء الإقامة العامة الفرنسية بكثافة للحصول على خدماتهم، وبالفعل استغل عدد من اليهود تأسيس النظام الجديد، و"تقدم عمليات التهدئة" لتنمية معاملاتهم، وتمكن الذين كان لديهم إمكانيات مهمة من تحقيق أرباح هائلة بحكم تموينهم للجيوش، بينما اكتفى آخرون بفتح دكاكين داخل "المراكز" العسكرية، أو ارتياد الأسواق التي أحدثها الفرنسيون.

ويشير الكاتب كذلك إلى كون فرنسا تبنت سياسة إقامة علاقات مصالح مع بعض المكونات الاقتصادية- الاجتماعية، والدينية- العرقية للمجتمع المغربي، مما يحمل على الظن شروع فرنسا، غداة توقيع عقد "الحماية" (1912) في الاستجابة لتطلعات اليهود، لكن الأمور سارت في الواقع على غير هذا المنوال، إذ عملت الإقامة العامة الفرنسية في إطار "السياسة الأهلية" على الإبقاء على اليهود في إطار وضعيتهم السابقة. مؤكداً أن العلاقات التقليدية بين اليهود والمسلمين، اتخذت منحى جديداً، وتطورت باتجاه التباعد والتنافر بين المجموعتين، بفعل التفكك السريع لقاعدة المادية، والنسيج الاقتصادي التقليدي، اللذين كان يشكلان إطاراً مشتركاً للتكامل والتساكن، وكذلك غياب أرضية مشتركة بينهما لتخطي الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي خلقها الاستعمار، وأصبح السواد الأعظم بين عامة اليهود والمسلمين يتخبطون فيها، وتعمق هذا التنافر والتدهور في العلاقات بين المجموعتين، بفعل "حياد" ولا مبالاة اليهود المعلنة تجاه المطالب الوطنية لمواطنيهم المسلمين، وانعكاس الأحداث والاضطرابات التي عرفتها الساحتان الأوروبية والشرق أوسطية.

موسم الهجرة

في غضون قيام إسرائيل، ومع تصاعد رغبة العديد من اليهود المغاربة للهجرة إلى هناك، تساهلت قوات الاحتلال الفرنسي في ذلك الاتجاه، حيث تزعم بعض التقارير مغادرة 70 ألف يهودي المغرب آنذاك، ومن جانبه حظر الملك محمد الخامس هجرة اليهود من بلاده، معتقداً أن تلك الهجرة ستقوي قوة الكيان الجديد.

من ثم بدأ التفكير داخل الأوساط اليهودية حول إيجاد مخرج لقرار العاهل المغربي، إلى أن عمل "الموساد" على تطوير آليات سرية للعمل على تسريب ما تبقى من يهود المغرب، الذي قدر عددهم بـ150 ألف فرد، وتمكن بالفعل من ذلك على دفعات.

وبحسب إحصاءات غير رسمية لا يتعدى عدد اليهود حالياً بالمغرب 4 آلاف فرد، يقيمون بالمدن الكبرى كالعاصمة الاقتصادية الدار البيضاء، وأكادير، وفاس، ومكناس، والصويرة، ويواصلون العمل في المجال الذي تخصص فيه أجدادهم؛ مجال المال والتجارة والأعمال.

يهود تونس يعيشون حركة هجرة متواصلة

لا تختلف ظروف يهود تونس كثيراً عن ظروف مواطنيهم، فالأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تعيشها تونس انعكست على الكل، من دون استثناء، إذ يقول جاكوب ليلوش (تونسي يهودي) صاحب مطعم سياحي في منطقة حلق الوادي بالعاصمة التونسية، إنهم يعيشون ظروفاً صعبة ككل التونسيين، وتأثروا أيضاً، بالوضع العام في البلاد.

وأكد ليلوش أن "الممارسات العنصرية" ضدهم قليلة جداً، ولم تؤثر في تعايشهم مع بقية شرائح الشعب. وأضاف ساخراً "وهل ما زال للتونسيين وقت للعنصرية أو غيرها من هذه الممارسات؟ الوضع الاقتصادي الصعب، والصراعات السياسية، لم تترك لنا أي مجال للتفكير بموضوعات أخرى".
وتابع ليلوش، الذي شارك في الانتخابات التشريعية الأخيرة كناشط في حزب "الاتحاد الشعبي الجمهوري"، أنه لا يريد إعادة التجربة. وأكد استقالته من الحزب، معتبراً أن "الحياة السياسية في تونس ليست على ما يرام، وتحتاج إلى وقت طويل لتسترجع عافيتها"، إلا أنه قال إنه لا يفكر في الهجرة، كما أن أغلب اليهود الذين يعرفهم في تونس لا يرون أن الهجرة فكرة جيدة في ظل الوضع العالمي المتأزم، سواء على المستوى الاقتصادي أو الصحي.
​​​​​​​
مخاطر التقسيم الطائفي

ويعيش في تونس، اليوم، نحو 2000 يهودي، 1200 منهم موجودون في جزيرة جربة (جنوب شرقي تونس)، وينتشر الباقون بين مدينة حلق الوادي وحي لافيات بالعاصمة، حيث يعيشون في وئام مع جيرانهم المسلمين. ويتميز أغلبهم بنشاطهم الاقتصادي البارز على الرغم من قلة عددهم، إذ يعملون عادة في تجارة الذهب والمطاعم وفي وكالات السفر.

وعلى الرغم من بعض التجارب السياسية النادرة، عرف يهود تونس بابتعادهم عن عالم السياسة، وسبق لهم أن رفضوا المشاركة في الحراك الشعبي ودخول البرلمان كنواب للشعب. ورأى كبير حاخامات يهود تونس، حاييم بيتان، أن ابتعادهم عن عالم السياسة يجنب البلد مخاطر التقسيم الطائفي.

وكان الحاخام بيتان أخبرنا في تصريح سابق، "إنه عندما يتم استدعاؤنا فنحن جاهزون من أجل تونس. نحن نعيش بسلام، وبكل احترام مع أبناء بلدنا وإخواننا المسلمين".

ويعيش أغلب اليهود التوانسة في جزيرة جربة، في منطقة تسمى "الحارة الكبيرة"، وبيوتهم محاذية لجيرانهم المسلمين، ويتبادلون الزيارات والهدايا في المناسبات الدينية والأعراس، ويتشاركون العادات والتقاليد ذاتها في الملبس والمأكل. كما يدرس أبناؤهم في المدارس ذاتها التي يرتادها أبناء المسلمين. ويمتازون بمهارتهم في مجال الطبخ، إذ تستقطب مطاعمهم الكثير من التونسيين والسياح من مختلف الشرائح والديانات. ويعتبر تعايش الديانتين في جربة قصة نادرة من قصص التسامح الديني في العالم.

وكان نحو 100 ألف يهودي تونسي هاجروا إلى إسرائيل وأوروبا منتصف القرن الماضي، بسبب الخوف من الانتقام، وأيضاً بسبب الفقر. في السياق ذاته، لم يُخفِ الناشط السياسي جاكوب بيريز، الذي يعيش بين تونس وفرنسا، قلقه من هجرة من تبقى من اليهود في تونس بسبب الظروف الصعبة التي يعيشها كل التونسيين "فاليهود جزء لا يتجزأ من الشعب، ويعيشون التحديات الاقتصادية والاجتماعية ذاتها، لكنهم يتعرضون أحياناً إلى مضايقات عنصرية من بعض الأفراد". واستدرك بيريز "لكن على الرغم من ذلك لا نستطيع الابتعاد عن تونس، ولا نستطيع أن ننكر أصولنا التي نعتز بها، لا سيما أن الإسهام في إخراج تونس من هذه الأزمة مسؤولية كل التونسيين".

وراجت منذ سنوات أخبار تؤكد أن وسائل إعلام إسرائيلية عدة أجمعت على وجود خطة حكومية سرية لاستقدام يهود من دول عربية، والضغط على السلطات التونسية، لتوفير حماية للجالية اليهودية. كما وزعت إسرائيل تقريراً ضم أشرطة فيديو تبين "آثار تدمير 80 قبراً يهودياً، وتدنيس معبد يهودي، وتصريحات نسبت إلى شخصيات سياسية ودينية تونسية تسهم في تنامي أجواء العداء لليهود"، بحسب تصريحات صدرت عن السلطات الإسرائيلية آنذاك.

ووجه نائب رئيس الحكومة الإسرائيلية في تلك الفترة، سيلفان شالوم، دعوةً علنية إلى الجالية اليهودية في تونس للهجرة إلى إسرائيل. واستنكر الدعوة آنذاك، رئيس الجالية اليهودية في تونس، بيريز الطرابلسي، ووصفها بـ"المستفزة والمغرضة".

الهجرة وتقلص الدور

ووصل عدد اليهود في تونس إلى أكثر من 100 ألف في فترة الاستقلال في عام 1956. وامتدت هجرة اليهود التونسيين لمدة 20 سنة، منذ إنشاء إسرائيل في عام 1948 إلى حرب عام 1967.

وتاريخياً، يعود وجود اليهود في تونس إلى القرن السادس قبل الميلاد، تزامناً مع خراب هيكل سليمان. ووجدت أقدم الآثار المادية للمعابد اليهودية قرب حمام الأنف، أو قليبية، على الساحل الجنوبي لتونس، وتعود إلى الفترة الرومانية.

وليهود تونس والعالم موعد سنوي لزيارة كنيس "الغريبة" في جربة، الذي يتمتع بمكانة خاصة لديهم، فهو أقدم معبد يهودي في أفريقيا، ويضم، وفق ما يقول البعض، واحدة من أقدم نسخ التوراة في العالم. ويؤدي اليهود هناك الصلوات، ويشعلون الشموع، ويقدمون الذبائح الخاصة بهم، وينشدون أناشيد دينية، ويتناولون نبيذ "البوخة"، المستخرج من التين، ويشتهر بصناعته يهود تونس دون سواهم.

وعرفت تونس طيلة تاريخها حضوراً متميزاً للعنصر اليهودي الذي كان يمثل دائماً مكوناً أساسياً من مكونات المجتمع، وكان له أثر كبير في الحياة الاقتصادية، إلا أن هذا الأثر تقلص بشكل كبير بعد هجرتهم الجماعية. وعلى الرغم من تقلص عددهم بقيت منازلهم وعقاراتهم شواهد على قوة حضورهم في تونس، إذ تنتشر في معظم مناطق البلاد.
 
 
 
اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات