Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بدم بارد" لترومان كابوتي الكتاب الذي اخترع الصحافة الجديدة

عندما تُنسى الجريمة وتبقى السجالات الأدبية والفكرية والحقوقية محتدمة

مشهد من فيلم حديث عن كابوتي وكتابه (موقع الفيلم)

على الرغم من البون الشاسع الذي يفصل بين موضوعيهما، فإن ثلاثة أمور أساسية تجمع بين كتاب "إيخمان في القدس" للفيلسوفة حنة آرندت و"بدم بارد" للكاتب الروائي الأميركي ترومان كابوتي، أولها، أنهما صدرا في الحقبة الزمنية نفسها، وبعد ذلك أنهما كانا في الأصل عبارة عن "تحقيقين صحافيين" طويلين أجريا لحساب مجلة "ذى نيويوركر"، والثالث، أنهما يدوران من حول محاكمة ما. أما انتماؤهما معاً، وكل على طريقته إلى نوع أدبي ظهر يومها من خلالهما وسمي "الصحافة الجديدة" (نيو جورناليزم) فكان نتيجة لتلك القواسم المشتركة.

بين نوعين من الجرائم

وفيما عدا هذا لا علاقة مباشرة بين كتاب تابع محاكمة النازي إيخمان في إحدى محاكم القدس ليطلع من ذلك باستنتاجات سياسية دارت من حول مفهوم "عادية الشر" الذي اشتغلت عليه آرندت وكلفها غالياً، وآخر تابع محاكمة قاتلين شابين ارتكبا جريمة رباعية لتنتهي بإعدامهما. لا علاقة مباشرة إلا ابتكارهما معاً ذلك التيار الأدبي الذي يسمح للكاتب من خلال توصيفه أحداثاً موضوعية، بالتدخل العاطفي، مؤثراً على الشكل الذي يصف به الأحداث فتكون النتيجة نصاً مؤدلجاً يجمع بين البعد السياسي والأخلاقي لدى آرندت، وما يشبه الرواية نصاً وأسلوباً لدى كابوتي. وهنا، لا بد من ترك كتاب "إيخمان" جانباً للانصراف إلى الكتاب الذي يعنينا هنا، كتاب كابوتي الذي لا يزال يبدو حياً مشوقاً يدعو إلى التفكير الهادئ وربما الصاخب أيضاً، في أمور عديدة مستعيداً أكثر من أي شيء آخر ذكرى مجزرة ومحاكمة وموقف كاتب لن يمكنه أن ينكر أبداً "افتتانه" بالقاتلين، مثل زميله الفرنسي جان جينيه الذي كتب نصوصاً ومسرحيات لا يخفي فيها افتتانه هو الآخر بالمجرمين.

في قلب الحدث

"بدم بارد" هو في الأصل تحقيق صحافي طويل نشره كابوتي على أربع حلقات أسبوعية في "ذى نيويوركر" قبل أن يعود ويجمعه في كتاب. ونشرت الحلقة الأولى في سبتمبر (أيلول) 1965 بعد سنوات من حدوث الجريمة والمحاكمة والإعدام. ونعرف أن تلك الأحداث الثلاثة حدثت عام 1959 يوم تسلل مجرمان شابان هما بيري سميث وديك هايكوك إلى بيت صاحب مزرعة منعزلة في قرية هولكومب في ولاية كانساس الأميركية، وقد قيل لهما إن صاحب المزرعة هربرت كلاتر الموسر الذي يعيش هناك مع زوجته وولديه المراهقين يخبئ في البيت مبلغاً كبيراً. في الليل، دخل السجينان السابقان البيت وكانت النتيجة أن قتلا العائلة بأكملها من دون أن يعثرا على أكثر من خمسين دولاراً... قبل أن يهربا بتلك الغنيمة المزرية. ولقد اكتشفت الجريمة يومها شابة من الجيران هي رفيقة نانسي البنت الصغرى للزوجين كلاتر اللذين عندهما ابنتان أخريان تعيشان في مدينة قريبة. ومنذ اطلاع الشرطة على ما حدث بدأت تحريات وسط شتى ضروب الشائعات والاتهامات. ما عجل في جعل القضية قضية رأي عام ودفع المجلة النيويوركية العريقة إلى إرسال الكاتب ترومان كابوتي لمتابعة القضية في وقت لم يكن قد تم القبض بعد على القاتلين. وهو توجه بالفعل إلى هناك وقد اصطحب معه صديقة طفولته الكاتبة هاربر لي التي ستعرف من ناحيتها بكتاب روائي تحول إلى ظاهرة من دون أن تكون له علاقة بالقضية نفسها وإن كان قد صدر في الفترة الزمنية نفسها وهو "لقتل طير ساخر" يتناول مسألة العنصرية ضد السود في أميركا العميقة. وطبعاً، هذا موضوع آخر، أما وجود هاربر مع كابوتي في هولكومب خلال الفترة التي تابع فيها القضية فكان لتسهيل لقاءاته مع أهل المنطقة ومن بعد ذلك مع المجرمين، حين تم القبض عليهما وبدأت محاكمتهما التي صاحبتها بعد ذلك السجالات الطويلة العريضة حول حكم الإعدام وحول مفهوم الإجرام نفسه.

على وقع تطور الأحداث

والحقيقة أن العمل على هذا المشروع الكتابي جرى بالتزامن مع تطور الأحداث، إذ تمكن كابوتي من مرافقة هذه الأخيرة مجتمعاً بسكان المنطقة طارحاً عليهم أسئلة كانت تصل أحياناً إلى حدود الاستفزاز، كما التقى أفراداً من أقارب الضحايا قبل أن يُلقَى القبض على سميث وهانوك ويتاح له أن يجري العديد من اللقاءات معهما. ما جعله يتوصل في نهاية الأمر إلى كتابة تلك الحلقات الأربع بشكل يستحق أن يوصف بـ"العمل قيد التحقيق". ولسوف يقول كابوتي لاحقاً إنه عندما بدأ الاشتغال على الموضوع فيما كانت دماء الضحايا لا تزال حارة، والناس يتحدثون حيناً عن صراع عائلي حول إرث، وأحياناً عن مشاكل بين الجيران، وما إلى ذلك قبل أن يكشف المحقق العدلي حقيقة ما حدث ويصدر استنابته بالقبض على السجينين الفارين اللذين كانا ابتعدا مئات الأميال عن المكان أثناء ذلك، ما يؤدي إلى اتهمامهما بالقرائن التي لا يرقى إليها أي شك ويحاكما ويقف الجميع في انتظار تنفيذ حكم إعدام راح كثر، ومن بينهم ترومان كابوتي نفسه، يعارضونه، كلهم انطلاقاً من مبادئ فكرية، أما كابوتي فانطلاقاً من الافتتان الذي أشرنا إليه وبخاصة تجاه بيري سميث المجرم الذي أمضى ساعات طويلة وهو يحاوره، ومن أجله. وفي انتظار قرار المحكمة العليا بوقف تنفيذ حكم الإعدام، راح يؤجل كتابة الصفحات الأخيرة من نصه وهو يقول إنه لن يختم النص قبل أن تحل النهاية الحقيقية، فإما أن يتم الإعدام، وإما أن يلغى "وسيكون الفارق كبيراً بالنسبة إلى ما أكتب". وبالفعل، حين صدر القرار في نهاية الأمر بتنفيذ الإعدام تمكن كابوتي من إقفال نصه الذي سينشر بعد حين. ولقد أدى نشره إلى تحول القضية برمتها من قضية جريمة إلى قضية نص.

حوارات وأحداث مختلقة؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اللافت أن نشر الحلقات ومن ثم الكتاب تم في وقت كان النسيان قد بدأ يغلب الجريمة نفسها خارج ولاية كانساس بل حتى خارج المقاطعة التي شهدت الأحداث. ولكن، مع صدور الحلقات أفاقت القضية كلها من سباتها، وذلك بداية من كانساس حيث نفدت النسخ التي أرسلت من "ذى نيويوركر" خلال ساعات من وصولها، وهو ما حدث لنسخ الكتاب بعد ذلك، علماً أن ملايين النسخ قد بيعت منه قبل أن يترجم إلى عدد كبير من اللغات. بل إن الإحصائيات تفيدنا بأن "بدم بارد" ككتاب أصبح خلال سنوات قليلة تلت نشره ثاني أكثر كتب الجرائم مبيعاً في الولايات المتحدة، كما في العالم كله، بعد كتاب فنسنت بوليوزي حول جريمة عصابة تشارلي مانسون التي راحت ضحيتها الممثلة شارون تيت ورفاق لها. ولقد كان من الطبيعي أن تدور السجالات من حول حديث كابوتي عن الجريمة وضحاياها وعن المجرميْن كما عن الأسلوب الساحر الذي تحدث فيه عن كل ما رآه ولكن أيضاً عما لم يره وسيقول بعض ناقديه طبعاً إنه اختلقه. ولنشر هنا بالتحديد إلى هذا الجانب من السجال.

غابت الجريمة عاش الأدب!

فالسجال هو وحده الذي بقي بعد ما غابت الأمور الأخرى. وكان محور السجال: هل يحق لكاتب يريد أن يصف أحداثاً محددة وقعت حقاً ويتعمق في التساؤل من حولها، أن يختلق لقاءات لم تحصل وينسب إلى أشخاص حقيقيين عبارات لم يقولوها ومواقف لم يعبروا عنها؟ للوصول إلى هذا سينطلق مناوئو كابوتي يجرون تحقيقات ويأتون بشهود ترد أسماؤهم و"أقوالهم" في سياق الكتاب، يؤكدون الآن أنهم حتى وإن كانوا التقوه فإن كثراً من الكلام الذي نسبه إليهم لم يكن دقيقاً.

وفي المقابل أثنى كثر على الكتاب معتبرينه "في نهاية الأمر عملاً فنياً قائماً في ذاته، وبالتالي فإن كاتبه غير مضطر إلى قول الحقائق كما هي، بل يمكنه أن يعدل من التفاصيل على الأقل كما يفعل كتاب الروايات عادة".

ومن هنا كان اللجوء إلى استخدام صفة الصحافة الجديدة لوصف نصوص يبدعها كتاب حول أمور حقيقية ولا يلتزمون خلالها بالتفاصيل الدقيقة. وبهذا كله عاش كتاب "بدم بارد" ليصبح علامة في الأدب الحديث وقمة في إبداع مؤلفه ترومان كابوتي (1924– 1984) وأساساً لما لا يقل عن ثلاثة أفلام سينمائية منها واحد اقتبس من الكتاب مباشرة من إخراج ريتشارد بروكس شارك كابوتي في العمل عليه عام 1967، وبرامج تلفزيونية عدة، إضافة إلى مسرحية غنائية وسجالات أدبية وحقوقية وفلسفية لا تزال محتدمة حتى اليوم.

المزيد من ثقافة