تضرِب حال الاستعصاء السياسي بجذورها عميقاً في لبنان، مما يجعل التغيير نحو الأفضل ضرباً من المستحيل. ولا تعود بداية هذه الحال إلى لحظة الانهيار الكبير في خريف 2019، ولا إلى الأشهر التي سبقته، بل يمكن تحديد موعد حديث لتبلورها مع اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في فبراير (شباط) 2005. فقد كشف ذلك الاغتيال والتطورات التي أعقبته، مدى تجذّر معضلات ثلاث في الحياة السياسية اللبنانية، وقدرتها الفائقة على منع أي تقدم على طريق حل الأزمات المتراكمة.
لقد قادت سياسة الاغتيالات المتمادية بعد فبراير 2005 إلى تطويع المناخ السياسي ليكون جاهزاً لتقبل شروط وبدع اتفاق الدوحة في عام 2008، من تعيين مُسبق لرئيس الجمهورية إلى تحديد حصة له في مجلس الوزراء فإلى اختراع الحصول على حصة الثلث التعطيلي في المجلس إياه، وصولاً إلى تكريس إلغاء نتائج الانتخابات النيابية، فلا أكثرية تحكم ولا أقلية تُعارض، وإنما سلطة توافقية، بمعزل عن نتائج اختيارات المواطنين، محورها حزب مسلح يتولى الإدارة في حضور شكلي لبقية الأطراف مهما كان حجمها التمثيلي.
كانت تجربة ما بعد اتفاق الدوحة تمريناً طويلاً على إنهاء معنى الدولة، تُوج في النهاية بمنع إجراء الانتخابات الرئاسية عامين ونصف العام، بهدف تعيين شخص محدد في منصب الرئيس، ليس لسبب، سوى أنه يحوز رضى الحزب المسلح إياه بامتداداته المحلية والإقليمية.
كشفت تلك النتيجة بشكل لا لبس فيه أن لبنان غادر نهائياً موقع الدولة إلى موقع النظام السائد في بلدان ما يسمى "محور الممانعة"، وتحديداً في سوريا وإيران، وذلك هو جوهر مشكلة البلد الحالية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وبعد زيارتين تخللتهما مبادرة أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كتبت صحيفة النخبة الفرنسية "لوموند" في افتتاحيتها أنه يجب التمييز عند الحديث عن لبنان بين الدولة والنظام. في الدولة يستند الحكم إلى مؤسسات يُنظّم الدستور عملها، أما في النظام فإن الدستور والمؤسسات تتحول إلى غطاء لمن يمسك بالسلطة، عائلات أو جيش أو حزب. ولبنان هو أقرب إلى النظام وليس إلى الدولة، فالسلطة فيه هي في يد تجمع من الأحزاب الطائفية، يتعايش في إطارها وجهاء وزعماء حرب ووصوليون، ومجموعة من أغبياء السياسة إلى متخصصين في السياسة السياسية، والجميع منشغل ببقائه في السلطة، ويتفنن في وضع العقبات أمام كل محاولة تزعج مصالحه.
صارت السلطة في لبنان تبعاً لذلك خارج المؤسسات، تتحكم بها من جهة "أوليغارشية" سياسية مالية، ومن جهة ثانية "حزب الله" المرتبط عضوياً بإيران، والذي يعتبر سلطة موازية يموّل نفسه من خارج النظام المصرفي، ويؤسس لنظامه المالي والاجتماعي الخاص عبر جمعيات مالية وتعاونيات استهلاكية ومساعدات اجتماعية.
إنه "يغمض عينيه" عن مفاسد شركائه الـ "أوليغارشيين" ويستفيد منها، مقابل صمتهم عن سلاحه وحساباته الإقليمية.
يعود تعذر تشكيل حكومة إنقاذية لبنانية جديدة إلى تشابك المصالح المذكور، وإلى عامل ثالث يرتبط بعجز حال الاحتجاجات التي اندلعت في 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 عن التحول إلى تيارٍ شعبي جارف يفرض موازين قوى مختلفة. صحيح أن إيران تحتفظ بلبنان ورقة تفاوض مع الغرب والعرب في سياق انتظار نتائج المفاوضات غير المباشرة مع الإدارة الأميركية الجديدة، وهو ما يجعلها في موقع المعترض والمعرقل لأية تسوية لبنانية داخلية برعاية غربية - عربية، غير أن مصالح بعض القوى الداخلية اللبنانية المتصلة بمستقبل موقعها في السلطة توفر الغطاء للموقف الإيراني، وتكاد تزيحه من واجهة المشهد أحياناً، فلا يمكن للبنان، وهو في حال السقوط الحر التي يعيشها، أن ينتظر رفع العقوبات الأميركية عن طهران، خصوصاً أن المرشد علي خامنئي يريد فحص نتائج هذا الرفع، كما لا يمكنه انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية في 18 يونيو (حزيران) المقبل، وتسوية اشتباكات نظام الملالي وترتيب أوضاعهم في المنطقة من اليمن إلى سوريا والعراق، إلا أن فريقي "حزب الله" و"مافيا السلطة الفاسدة" في لبنان لا يمانعان من هذا الانتظار في سبيل تقديم خدمة لإيران من جهة، وضمان استمرار موقعهما الحاسم في السلطة من جهة ثانية، ولا يحول من دون غايتهما تلك لا دستور ولا مؤسسات، بعد أن تم إفراغهما من مضمونهما ومرجعيتهما.