تنتمي رواية الجزائري عبد اللطيف ولد عبد الله، "عين حمورابي" (دار مسكلياني ودار ميم للنشر) إلى روايات التشويق أو بحسب المصطلح الإنجليزي Page-turner والذي يطلق عادة على الأعمال التي تجعل قارئها مرتبطاً بها ويقلب الصفحات باستمرار كي يتابع الأحداث المتسمة بالإثارة. وهذا ليس بغريب على ولد عبد الله الذي كانت روايته الأولى؛ "خارج عن السيطرة" بوليسية. لكن القارئ المتعجل لـ"عين حمورابي" ربما لن ينتبه إلى كثير من التفاصيل المهمة التي بإمكانها أن تحل لغز الرواية والغموض الذي يسكنها بخلطها ما بين الواقع والوهم.
حبكة دائرية
الرواية ذات حبكة دائرية تبدأ من حيث تنتهي الأحداث وتنتهي من حيث البداية، بطلها وراويها في الوقت ذاته هو "وحيد حمراس" الذي يحكي قصته أمام محققين، فهو متهم من الأهالي بأنه هدم قبر أحد الأولياء، فيما تتهمه السلطات الأمنية بخيانة الوطن عبر مساعدة البعثات الأجنبية في سرقة الآثار وفي قتل بضعة مواطنين.
يبدأ "وحيد" حكيه بالهاتف الذي أتاه من زميل دراسته الألماني "دونالد هاردي" كي يشارك بعثة أثرية ألمانية ستنقب في موقع قرب قريته التي هجرها منذ ثماني سنوات إلى ألمانيا، وتتوالى بعدها الأحداث، فيسأله المحقق عن هوية الجثة الثالثة التي دفنها رفقة المشعوذة "نجاة" والمشعوذ "الحمداوي". يسأله عن أسباب قتله ثلاثة أشخاص تربطهم علاقة صداقة؛ الأول "عثمان باي"؛ عمره 35 عاماً، وجد مذبوحاً بجانب المقبرة، والضحية الثانية "فيصل مملوك" وجد مذبوحاً بالطريقة نفسها في درب الصائغين، والثالث التاجر "الحاج محمد"، قتل بطلق ناري. والمشترك بين الثلاثة هو بتر أعضائهم الجنسية، وحشر الخصيتين في أفواههم. ينكر "حمراس" قتله الضحايا، موضحاً أنه رأى شخصاً لا يعرف اسمه في السبعين من عمره يدعوه (أ) هو من قتل الضحية الأولى، ومن المحتمل أن يكون الشخص نفسه قتل الآخرين.
اضطراب عقلي
يطلع المحقق "حمراس" على صور جريمة وقعت منذ ثمانية أعوام لامرأة قتلت رفقة ابنة عمرها عشرة أعوام وطفل في الخامسة من عمره بعد اغتصابهم، فينكر معرفته بأمر هؤلاء... "هذه الصور التقطت لضحايا جريمة حدثت قبل ثماني سنوات، لكننا لا نعرف مرتكبها حتى الآن وما أريده منك هو أن تخبرنا عما إذا كانت توجد علاقة بين ما حدث لهذه المرأة وطفليها وهؤلاء الضحايا الثلاث؟ رفعت رأسي نحو الرجل وأخبرته بيقين لا يشوبه شك أني لم أتعرف على أصحاب هذه الصور. تبادل الرجلان نظرة سريعة والتفتا إلي في اللحظة نفسها - ألم تتعرف على المرأة والطفلين في هذه الصورة؟ هززت رأسي غاضباً من رغبتهما الملحة في توريطي بأي ثمن" (الرواية صـ 252).
يستغرب المحققان من رد حمراس؛ لأن الصور المعروضة عليه هي لزوجته "فاطمة"، وولديهما، وقد وقعت جريمة قتلهم عقب سفره إلى ألمانيا. ومن هنا سيتبين أننا أمام شخص يعاني من انفصام، مع أن الرواية لا تقول ذلك بشكل صريح. فقط تؤكده التفاصيل الصغيرة التي يتضمنها سرده - فلم يكن الشبح (أ) سوى "وحيد حمراس" نفسه، وذلك ما يفسر كثيراً من الأحداث الغريبة التي جرت في الرواية وجعلتها تبدو للوهلة الأولى عملاً فانتازياً، على الرغم من أنها عمل واقعي عن مريض نفسي. وهذا ليس ببعيد عن أسلوب ولد عبد الله، فقد دارت أحداث روايته الثانية "التبرج" في مستشفى حكومي لعلاج المرضى النفسيين.
الأحداث التي تظهر على أنها غير واقعية سرعان ما يقدم لها العمل تفسيرات منطقية، تعزا إلى معاناة البطل من خلل عقلي، مثل أن يغلق الراوي الباب ثم يجده مفتوحاً، الشبح الذي يطارده، السيارة التي يعود بها إلى المعسكر من دون تلفيات فيجدها في الصباح على غير ذلك، العضو الذكري الذي يجده تحت سرير والده المتوفى، والرسالة التي وجدها ضمن مذكراته من (أ): "عزيزي وحيد، أكتب إليك الآن لعلمي بما لحق بك من أذى، نعم أنا أشفق عليك وإن كنت تعتقد أني قاتل وحشي قاسي القلب بشع الوجه مريض الروح فأنت مخطئ تماماً. أكتب لك هذه الرسالة لأخبرك فيها أني قريب منك رفيق بك لكنك لا تشعر بوجودي طوال الوقت" صـ 222.
التكلم مع الموتى
ومن أشكال الخلل العقلي أن "وحيد حمراس" بعد عودته للقرية يطرق باب جار له، فتخرج له امرأة وتدعوه إلى الدخول رغم أنها وحيدة في المنزل وتضايفه على غير عادة وتقاليد أهل هذه المنطقة التي ترفض خلوة الرجل الغريب بامرأة أجنبية عنه. يفضي "وحيد" إلى تلك المرأة التي تدعى "فاطمة" وهي أم طفلين، عن هواجسه والأحداث التي مر بها منذ عودته من ألمانيا. ويصف آخر لقاء له معها كالآتي: "نهضت من الأريكة. رافقتني فاطمة إلى الباب. كان شبح ابتسامة باهتة يعبر شفتيها المطبقتين. ذكرتني بشرتها الشاحبة بتلك الصورة التي عرضها الدركي أثناء الاستجواب. شيعتني بنظراتها المتلألئة وقبل أن أستدير نحوها لأسألها قالت: وداعاً يا وحيد. اعتني بنفسك. كنت لا أزال هناك متردداً عندما انغلق الباب أمام وجهي. عندئذ شعرت بأنه آخر لقاء يجمعنا" صـ 266.
فهذه المرأة التي يظنها "وحيد" حقيقية، لم تكن سوى زوجته المقتولة. تعود إلى "وحيد" ذاكرته عبر صور له مع "فاطمة" وابنيهما. يعود إلى المنزل الذي التقى فيه زوجته منذ قليل، فتخرج له امرأة عجوز يسألها عن الشابة التي تقطن هذه الدار فتنفي وجود فتيات. يظهر لها صورة فاطمة، فتخبره أن صاحبة الصورة ماتت رفقة ولديها منذ ثماني سنوات وتشير إلى المقابر، فيذهب إلى هناك ويقرأ على الشاهد: "المرحومة فاطمة زوجة وحيد حمراس"، وبالقرب منها قبر ابنه وبنته من دون شواهد، فيقرر الانتقام بقتل الثلاثة الذين قتلوا عائلته، وقطع أعضائهم الجنسية، وكذلك قتل الشيخ عبد الوهاب القرشي؛ الرجل المتشدد، لأنه كان يعرف من اغتصب زوجته وابنته ولم يفصح عنه، وكان على علم بأن "الزبير" والد "وحيد حمراس" بحسب الأوراق الرسمية قد ألقى بأمه في البئر بعد أن قتلها.
يتبين الخلل العقلي الذي يعاني منه البطل من خلال توهمه أن هناك شخصاً يدعى (ك) كان يرأس البعثة الأثرية وهو من هدم الضريحين. لكن المحقق يكشف عدم وجود شخصية في البعثة الأثرية بمواصفات (ك)، وبالتالي فهي وهم في رأسه، كما أنه لا توجد في البعثة امرأة تدعى "هيلين بلانك" لكن بالمواصفات نفسها كانت هناك "ماتيلدا"، رفيقته السابقة. ومن خلال ذلك يتضح أن (ك) هو أيضاً "حمراس" وأن سبب تركه ماتيلدا/ هيلين هو أنها شبقة جنسياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الرواية تكشف عن طبيعة الأوضاع في كثير من قرى الدول العربية حول الإيمان بالأساطير والأولياء، ففي المكان الذي تدور فيه الأحداث مقامان كل واحد منهما على قمة جبل؛ أحدهما، يدعى "الحراق"، والثاني، يدعى "المجدوب"، يعتقد الناس فيهما ويتباركون بهم إلا أن هذين المقامين لا يوجد بهما أي أجساد، فهما مجرد هيكلين بناهما أحد الرحالة كإشارة إلى موقع أثري مهم يقع في إحدى المغارات.
تعمل الرواية على نقد العقلية العربية التي تتغذى على الخرافات "كانوا يتكلمون بأشياء غريبة ويتغامزون وكأنني أتيت من كوكب آخر. كنت أفهم مقاصدهم، ولما سألتهم عنك بدأوا يسردون علي خرافاتهم حول الأشباح التي تسكن هذا البيت. كم هم مثيرون للرثاء. لم أكن أدري أن قصص ألف ليلة وليلة حقيقة" صـ 159.
وتدين أحداث الرواية العنف الذي تتعرض له المرأة، فهناك "نجاة"؛ حب "وحيد" الأول التي ضربها زوجها حتى تسبب لها في عاهة مستديمة (العمى)، وكذلك والدة البطل التي ضربها أبوه ليلة الدخلة وكسر أسنانها، وزوجة "وحيد" وابنته اللتين تعرضتا للاغتصاب والقتل، وكذلك مُثِّل بجثة "نجاة" بوصفها مشعوذة وثارت الشبهات حول أنها كانت تخون زوجها. "عين حمورابي" تقدم صورة مخجلة لما تتعرض لها المرأة من اعتداءات مستمرة من دون أن تسطيع الدفاع عن نفسها، وكذلك تكشف الرواية عن القبضة الأمنية التي تحكم ولا يهمها القيمة الأثرية والتاريخية ومستعدة لبيع كل شيء بالمال.