لم تخسر الولايات المتحدة حرب فيتنام وحسب، بل خسرت أرواح 58 ألف أميركي خلال نحو 20 سنة من الصراع في شرق آسيا، ومعهم تغيرت الدولة الأميركية سياسياً وعسكرياً وثقافياً، وأصبح الأميركيون متشككين في مؤسساتهم السياسية وبخاصة الحكومة، واتخذ الرؤساء الأميركيون قرارات محلية ودولية ما زالت تداعياتها مستمرة حتى اليوم. كما انعكست حرب فيتنام على الحياة الاجتماعية والثقافية في البلاد بشكل فتح آفاق جديدة للنقاش والحوار، فما الذي تغيّر؟ ولماذا أحدثت حرب فيتنام هذه الصدمة الهائلة في حياة الأميركيين؟
في مثل هذا اليوم، 29 مارس (آذار)، من عام 1973، ألغت الولايات المتحدة، القيادة العسكرية الأميركية في فيتنام، ومنذ ذلك الحين، أصبح هذا التاريخ هو "اليوم الوطني لقدامى المحاربين في فيتنام" الذي تحتفل فيه أميركا مع 11 ألف منظمة أهلية بالذكرى الـ 50 لانتهاء الحرب عبر برنامج أُطلق عام 2012 ويستمر حتى عام 2025، لتقديم الشكر والعرفان لنحو تسعة ملايين من قدامى المحاربين (منهم ستة ملايين على قيد الحياة اليوم) على خدمتهم وتضحياتهم خلال واحدة من أطول الحروب الأميركية التي امتدت من الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) 1955 إلى السابع من مايو (أيار) 1975.
حرب بلا هدف
بدأت حرب أميركا الطويلة التي لا تحظى بشعبية، مع فيتنام الشمالية الشيوعية المدعومة من الاتحاد السوفياتي والصين، كتدخل عسكري لمساعدة فيتنام الجنوبية المدعومة من الولايات المتحدة، ومناهضة الشيوعية ووقف تمددها في شرق آسيا، لكنها تحولت إلى حرب استنزاف بلا هدف منظور، وأثبتت خسائرها المتزايدة (58220 مقاتلاً) أن الولايات المتحدة تتحمل الكثير. ومع خروج المتظاهرين المناهضين للحرب إلى الشوارع وهم يحرقون بطاقات التجنيد، قررت واشنطن سحب وحداتها القتالية بحلول عام 1973 قبل أن تسقط فيتنام الجنوبية تحت غزو شامل جرى في عام 1975 من قبل حكومة الشمال الشيوعية وقوات الـ "فيت كونغ".
اهتزاز أميركا القائدة
وعلى الرغم من طعم المرارة بالانسحاب من فيتنام، اعتبر الرئيس الأميركي جيرالد فورد في العام 1975، أنه يمكن لأميركا أن تستعيد الشعور بالفخر الذي كان موجوداً قبل هذه الحرب، وأنه على الرغم من مأساوية الحرب، إلا أنها لا تنذر بنهاية العالم، لا بقيادة أميركا في العالم.
وفي حين يعترف مؤرخون وسياسيون كثر بهزيمة "أميركا القائدة" في فيتنام، إلا أن الجدل ما زال مستمراً حول ما إذا كانت هذه الهزيمة سياسية أم عسكرية، فبالنسبة إلى كثيرين من العسكريين ومنهم كيفن ديلامير، أستاذ الاستراتيجية العسكرية في "كلية الحرب البحرية الأميركية"، فإن "الولايات المتحدة لم تخسر أي معركة ثابتة كبيرة، وأن الغرض من الانخراط في المعركة ليس بالضرورة كسب المعارك، بل تأمين الهدف السياسي، استناداً إلى ما قاله المنظر العسكري كارل فون كلاوزفيتز، بأنه لا يوجد تقييم عسكري بحت للحرب لأنها عمل سياسي بطبيعته، وأن الحرب تُعد عملاً من أعمال العنف لإجبار العدو على تنفيذ إرادتنا".
وفي حين أن فيتنام التي خسرت أضعاف ما خسرته أميركا من الجنود، لم تهزم الولايات المتحدة من الناحية العملية على المستوى الاستراتيجي، فقد تسببت بخسائر كافية لجعل الحرب لا تحظى بشعبية كافية في الولايات المتحدة، ما أجبر الرئيس ليندون جونسون على عدم الترشح لدورة رئاسية تالية، وإجبار الرئيس ريتشارد نيكسون على سحب القوات الأميركية من فيتنام.
ويعتبر ديلامير أن "حرب فيتنام كانت جزءاً من الحرب الباردة التي أثبتت الولايات المتحدة، بعد 15 سنة فقط من خسارتها هناك، أن خصمها الحقيقي الاتحاد السوفياتي انهار وتفكك. لكن الناس لا يميلون إلى النظر إلى ذلك عند التفكير في حرب فيتنام، ولذلك يمكن القول إن أميركا خسرت في فيتنام من منظور الإعلام والعلاقات العامة".
حرب التلفزيون الأولى
غالباً ما يُشار إلى الصراع في فيتنام على أنه "حرب التلفزيون الأولى"، إذ كانت الأفلام تُصوَّر وتُنقَل إلى طوكيو ومنها إلى الولايات المتحدة عبر الأقمار الصناعية، ليجلب التلفزيون المعارك مباشرةً إلى غرف المعيشة الأميركية للمرة الأولى، ومن هنا أصبحت وسائل الإعلام في حرب فيتنام موضع جدل مستمر، إذ اعتقد البعض أن الإعلام لعب دوراً كبيراً في هزيمة الولايات المتحدة عبر ميل وسائل الإعلام نحو التقارير السلبية، ما ساعد على تقويض الدعم للحرب في الداخل الأميركي بينما قدمت تغطيتها غير الخاضعة للرقابة معلومات قيّمة للعدو في فيتنام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع ذلك، خلص خبراء كثر إلى أنه قبل عام 1968، كانت معظم التقارير داعمة للجهود الأميركية في فيتنام، إلى أن صدر تقييم فبراير (شباط) من ذلك العام، الذي أجراه والتر كرونكايت، مذيع أخبار شبكة "سي بي أس" المعروف باسم "الرجل الأكثر ثقة في أميركا"، بأن الصراع كان غارقاً في طريق مسدود، ما اعتبره كثيرون إشارةً إلى تغيير كبير في التقارير حول فيتنام. ويقال إن ذلك ألهم الرئيس ليندون جونسون ليقول، "إذا خسرت تأييد كرونكايت، فقد خسرت قطاعاً واسعاً من الأميركيين". لكن خيبة الأمل الأميركية من الحرب كانت نتاج أسباب عدة، كان الإعلام أحدها فقط، لأن أكثر ما قوّض الدعم للحرب هو مستوى الخسائر الأميركية الذي خفّض مستوى الدعم الشعبي للحرب.
البحث عن الشرف
عندما يتذكر الأميركيون الحرب، يفكرون في صور لمواطنيهم يعانون، ويحسبون عدد القتلى والجرحى ورحلة تعافي المصابين وصور الأهالي وهم في حالة حزن على موتاهم، لكن الأمر لم يكن دائماً على هذا النحو، إذ أتاحت الصحف خلال حرب فيتنام والحروب السابقة مساحةً صغيرة لتصوير أفراد الخدمة العسكرية الأميركية، بينما لم يتحدث الصحافيون أبداً مع الأقارب المفجوعين، وعلى سبيل المثال، ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" بين العامين 1965 و 1975، أسماء 726 فقط من بين 58220 جندياً أميركياً قُتِلوا في فيتنام.
غير أن الجيش الأميركي شجّع على تغيير هذا الأمر مع استمرار حرب فيتنام وتزايد الخسائر، وتضاؤل احتمالات النصر، وانتشار تقارير متزايدة عن الفظائع التي ارتكبها جنود أميركيون، فبحث القادة العسكريون الأميركيون عن طرق جديدة لإبراز قيمة الشرف في صراعات قواتهم، وكانت إحدى الطرق هي تغيير الطريقة التي يكرّم بها الجيش أعضاءه من خلال منحهم الميداليات.
قبل فيتنام، كانت ميدالية الشرف، وهي أعلى جائزة تمنحها الولايات المتحدة، تذهب عادةً إلى الذين فُقدوا أو خاطروا بحياتهم من خلال شن هجوم لقتل جنود العدو. لكن خلال حرب فيتنام، تغيّرت معايير وسام الشرف أكثر، وتم تكريم الذين خدموا لأعمالهم الدفاعية التي أنقذت أرواح زملائهم الأميركيين، بدلاً من قتل المسلحين الشيوعيين.
وردد هذا التحول صدى التغييرات الحاصلة في الثقافة الأميركية الأوسع في الستينيات والسبعينيات التي شهدت تحولًا نحو الاحتفال بالاستقلالية الفردية والتعبير عن الذات، نظراً إلى أن جزءاً متزايداً من الأميركيين حقق مستوى من الثروة لم يسبق له مثيل، وكان ضرورياً تحقيق التقدير والإشباع العاطفي لباقي فئات المجتمع عبر منح جوائز التقدير والتكريم في المدرسة والعمل.
تخفيف الانضباط العسكري
وكانت الطريقة الأخرى التي عدّل بها الجيش الأميركي من نهجه، هي تخفيف قبضته على الانضباط. وتعامل الجيش مع العصيان داخل صفوفه بالسماح لأعضائه بالتعبير عن معارضتهم بعض الأمور. وأدى ذلك إلى توافق في الجيش مع ثقافة التعبير الفردي في العالم المدني الذي جاء منه المتطوعون والمجندون، وجعل ذلك حياة كل فرد أكثر قيمة، والجهود المبذولة لإنقاذ مثل هذه الأرواح تستحق الثناء أكثر من أي وقت مضى، كما أصبحت عائلات الجنود محط اهتمام، وزاد الحرص على احترام أفراد القوات المسلحة وخدماتهم للبلاد بشكل دائم.
إرث فيتنام الدائم
وأدى تركيز الجيش على أفراد الخدمة العسكرية في السنوات الأخيرة من حرب فيتنام إلى خلق إرث دائم في ما يتعلق بكيفية تسامح الأميركيين مع خسائر الحرب، فقد انقلبت غالبية الأميركيين ضد حرب فيتنام عندما تجاوز عدد القتلى الأميركيين 20 ألفاً، ولكن في العراق، استغرق الأمر 2000 قتيل فقط ليعارض معظم الأميركيين الحرب.
ولعل أحد أبرز عناصر إرث فيتنام أيضاً، هو أن الولايات المتحدة أصبحت تدير الحروب بطرق مصمَمة لتقليل الخسائر وتجنّب أسر أي من جنودها، من خلال القصف عالي الارتفاع وعبر طائرات "الدرون" المسيّرة والمركبات المدرعة الثقيلة، لكن ذلك أدى إلى زيادة الخسائر في صفوف المدنيين والحدّ من التفاعل بين القوات المدنية والأميركية ما زاد من صعوبة كسب دعم السكان المحليين في أماكن مثل العراق وأفغانستان.
التجنيد بالتطوع
لم تجعل حرب فيتنام من الأميركيين دعاة سلام، لكنها جعلت المدنيين الأميركيين أكثر اهتماماً برفاهية وحياة قوات بلادهم، كما تطلّب إلغاء الرئيس نيكسون آلية التجنيد وتحويل الجيش إلى قوة من المتطوعين قبل انتخابات عام 1972، معاملة المجندين باحترام أكبر، وظهر ذلك في استمرار تكريم أفراد الخدمة العسكرية بدرجة عالية.
لكن هذا التحول العميق في مواقف الجمهورية الأميركية تجاه قواتها المسلحة، كان بالنسبة إلى البعض عملية غير عادلة حيث التحق بالجيش بعض الذكور فقط، بينما لم يلتحق الرجال الذين كانوا قادرين على تحمل تكاليف الالتحاق بالجامعة، ولم يتم تجنيدهم حتى أواخر الحرب. ولم يحل ذلك مشكلة الظلم بعدما انسحبت معظم النخب الأميركية من الخدمة العسكرية.
بدلاً من ذلك، تحملت الطبقة العاملة الأميركية بشكل متزايد عبء الموت والإصابات منذ الحرب العالمية الثانية، وكشفت دراسة لجامعة ممفيس، أن الفارق في الدَخل بين أُسر الجنود وأُسر المدنيين يتزايد باستمرار لصالح المدنيين الذين لا ينخرطون في الخدمة العسكرية، وإذا استمرت هذه اللامساواة في الازدياد، فسيتزايد معها الاستياء، ويتسع الانقسام بالفعل بين العسكريين والمدنيين، ما يشكل خطراً على الدولة الأميركية. ولذلك يطالب البعض بالعودة إلى روح التجنيد العسكري على قدم المساواة للجميع.
الاندماج في الجيش
لم يكن كل شيء عن الحرب سلبياً، فقد جمعت فيتنام شباناً من خلفيات عرقية وإثنية متنوعة، وأجبرتهم على الوثوق ببعضهم البعض داخل بوتقة لعبت دوراً هائلاً في دفع أميركا نحو الاندماج الحقيقي.
مع ذلك، وحتى مع استمرار فيتنام في إعادة تشكيل الولايات المتحدة حتى الآن، فإن مكانة تلك الحرب في وعي الأميركيين الوطني آخذة في التراجع، ليس فقط لأن 65 في المئة من الأميركيين حالياً هم دون سن الـ 45، ولا يستطيعون تذكرها، بل أيضاً لأن حروب الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، وتواجدها العسكري في سوريا، وصراعها مع الإرهاب، تدفع بالصورة الذهنية عن فيتنام إلى الخلف أكثر.
التأثير السياسي
وغيّرت حرب فيتنام الطريقة التي ينظر بها الأميركيون إلى السياسة، إذ اعتادوا كذب القادة السياسيين منذ ذلك الوقت، سواء تعلق ذلك ببعض أحداث الحرب أو أعداد الجثث أو الحديث عن معنى التهدئة، فثار جدل واسع بين الناس عن "فجوة المصداقية" في كلام الرئيس ليندون جونسون، كطريقة لطيفة للقول إن الرئيس يكذب. وبحلول نهاية الحرب، كانت تلك العبارة لا تزال تُعتبر كلمة سيئة، لكنها حوّلت الأميركيين من سذاجة الاعتقاد في المصداقية المطلقة للقادة السياسيين، إلى السخرية التي تعكس خيبة الأمل بالحكومة، وهي عبارة تشير إلى مستنقع بيروقراطي يهدد الديمقراطية، ويقضي على قوة الشعب ورغبته في إحداث التغيير.
تغييرات سياسية
ونظراً إلى التناقض بين تجنيد الأشخاص بعد بلوغهم سن 18 عاماً، بينما لا يجوز لهم التصويت في الانتخابات الرئاسية، أدرك الرئيس نيكسون أهمية هذه الشريحة انتخابياً، وقدم اقتراحاً أقره الكونغرس والولايات بتعديل الدستور لخفض سن التصويت إلى 18 سنة، وهو ما دعم نيكسون للفوز بدورة رئاسية ثانية حين ذهب 55.4 في المئة من الناخبين الشباب إلى صناديق الاقتراع في عام 1972، التي كانت أعلى نسبة لدى تلك الشريحة في التاريخ حتى ذلك الوقت.
وتمثل حرب فيتنام درساً مهماً لواضعي سياسات الأمن القومي الأميركي، فتعلم السياسيون درساً مفاده بأن الخروج من الحرب، أكثر تعقيداً من الدخول في الصراع، بخاصة بالنسبة إلى الديمقراطية الأميركية. وخلال سنوات الرئيس رونالد ريغان، قدم البنتاغون عقيدةً حول المشاركة العسكرية تتطلب أهدافاً سياسية واضحة، ودعماً عاماً قبل الانخراط فيها، واستراتيجية خروج معدة مسبقاً.
وهكذا اتبع الرئيس جورج بوش الأب هذه المبادئ أثناء حرب تحرير الكويت في عام 1991، لكن بعد عقد من الزمان، عادت دروس فيتنام إلى الظهور مع عودة القوات الأميركية إلى العراق حيث وجدت نفسها عالقة في حرب برية تفتقر إلى حل سياسي ودبلوماسي واضح.
نتائج الخروج من فيتنام
وأفرزت ضغوط الخروج من فيتنام عواقب بالغة الأهمية اتخذها الرئيس نيكسون في البيت الأبيض، فكانت سياسة الانفتاح على الصين مدفوعةً برغبة قوية لإعادة ضبط المواجهات في الحرب الباردة بوقت كانت القوات الأميركية تغادر فيه شرق آسيا. وكان لرحلة نيكسون إلى بكين تأثير على الأحداث المستقبلية، أكبر بكثير من هبوط رواد الفضاء الأميركيين على سطح القمر في ذات الفترة، وهي سياسة جعلت الصين بعد بدء انفتاحها على الغرب في أوائل عام 1972، قوة اقتصادية وسياسية عالمية.
كما أدت فضيحة "ووترغيت" إلى استقالة نيكسون في عام 1974، وهي الاستقالة الرئاسية الوحيدة في تاريخ الولايات المتحدة، ولا شك أن رحلة نيكسون إلى الصين واستقالته عقب الفضيحة، شكلتا معاً السياسة الأميركية لعقود، ولا يمكن بأي حال فصل ما جرى من أحداث وآلام في فيتنام عن هذين الحدثين المؤثرين في ذات التوقيت.
تغيير الموسيقى
لا يزال جزء من هوية الأميركيين الوطنية يحتفل بفكرة أن كونك "أميركياً" يعني أن تتفاعل ضد شيء ما، وأحياناً ضد مؤسسة الحكم في أميركا نفسها. وكان ذلك سائداً بشكل خاص على مدى نحو 20 سنة من حرب فيتنام، وهي الفترة التي تناغمت خلالها الاضطرابات السياسية مع الاضطرابات الثقافية الهائلة. واستقر مركز هذا التغيير في قلب الحركات الاجتماعية والسياسية المتنوعة في ذلك الوقت، التي اعتمدت على التعبير الفني ولوّنت حقبة حرب فيتنام بتعليقات مؤثرة على واقعها المرير في مواجهة الموت والاضطراب. ومهدت هذه الثقافة المضادة طريقاً جديداً عبر إنشاء موسيقى جديدة استمرت مع مرور الزمن.
وكانت الخلفية السياسية لحرب فيتنام معقدة وفوضوية، نشأت عبر مزيج من مجتمع متجذر في الخطاب المعادي للشيوعية، والحاجة إلى إظهار القوة الأميركية حول العالم، واستمرت هذه الخلفية على مدى عقدين من الزمن، ما ترك الأمة الأميركية في حيرة مما تعنيه الحرب حقاً في السياق التاريخي.
بالنسبة إلى البعض، كان الهدف هو إقامة ديمقراطية مستقرة والقضاء على النفوذ الصيني في فيتنام الجديدة، وبالنسبة إلى الآخرين، كان سبب الصراع في فيتنام غامضاً، معركة طويلة الأمد ليس لها هدف واضح أو نهاية في الأفق، وعلى الرغم من أن الأجيال الأكبر سناً والأكثر محافظة أبقت على إيمانها بضرورة الحرب، إلا أن أصواتها كانت غير ممثلة إلى حد كبير في الحركات الفنية في ذلك الوقت.
الفن المتمرد
ظل فنانو موسيقى الريف أو الـ "كانتري ميوزيك" مثل ميرل هاغارد داعمين للحكومة طوال معظم فترات الحرب، ولكن بالمقارنة مع شعبية الأناشيد الثقافية المضادة، فقد طغت رسائلها المؤيدة لأميركا.
في البداية، اكتسبت الحرب دعماً من غالبية الأميركيين، ولكن مع مرور الوقت وتزايد عدد الوفيات، بدأ المنظور الوطني في التحول نحو التناقض، في حين أن عدد السكان الهائل البالغ نحو 80 مليوناً من مواليد الخمسينيات بدأوا جهوداً لمناهضة للحرب. كما تفاقم دافع القلق لدى هذه الحركة الشبابية بسبب التجنيد العسكري، ما نقل التمرد الأميركي إلى موسيقاهم، وهي وسيلة كان التواصل من خلالها ممكناً عبر القوة العميقة للأغنية، حتى أصبحت هذه الألحان وجهاً مميزاً لهذا الجيل ولفترته الزمنية على حد سواء، بعدما امتلأت بأغاني مليئة بالروح وبرسائل تغيير على الرغم من كل الصعاب.
واستمرت روح الحرية في النضال من أجل معتقدات البشر مستمرةً في قلوب الموسيقيين ومعجبيهم خلال حقبة فيتنام احتجاجاً على الحرب ومن أجل دعم السلام، وهو اتجاه لا يزال يؤثر على الموسيقى في الولايات المتحدة حتى اليوم، وعلى السينما فيها.
وشكّلت حرب فيتنام صدمةً وطنية غيّرت الثقافة الأميركية جذرياً بما في ذلك السينما، التي أنتجت أكثر من 35 فيلماً مختلفاً عن هذه الحرب وسعت إلى إعادة تجسيد تجربة الجنود الأميركيين الذين يقاتلون في الخارج لجمهور السينما الأميركية من وجهة نظر الجندي الفرد، التي لا تتعلق بالضباط أو بشخصيات مشهورة في التاريخ العسكري، بل بجوهر الحرب الشخصية لجنود المشاة.
وتناقضت أفلام عدة حول المعارك في فيتنام غالباً، مع الروايات البطولية التقليدية التي سادت أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، وركزت بدلاً من ذلك على قصة حرب تنتهي بالفشل والهزيمة، وهي نتيجة غامضة للغاية لدولةٍ اعتادت على الانتصار مثل الولايات المتحدة، الأمر الذي رأى باحثون فيه أن فيتنام تمثل اضطراباً في القصة الأميركية وتظل موقعاً صادماً ينتهك كل صور وافتراضات الهوية الأميركية من خلال التركيز على الشعور بالخزي القومي في غياب وجود أثر للعاطفة.
ذاكرة وطنية
لكن الذاكرة التي تشكلها هذه الأفلام تُعد وطنية بشكل واضح، كما قال الباحثان في مجال الإعلام كارينا أفيارد وألبرت موران اللذان لاحظا أن هذه النوعية من الأفلام وجِهت إلى الجمهور الأميركي بالأساس، وليس الجمهور التجاري العالمي، لأن مشاهدة الفيلم تتعلق بالأشخاص الذين تجري مشاركة التجربة معهم، فضلاً عن اللحظة الزمنية والمكان الذي تحدث فيه، في وقت تعترف فيه الأفلام بالتضحيات التي يقدمها الجنود من أجل الأمة لتصبح مشاهدة هذه الأفلام جزءاً من الهوية الأميركية للمشاهد.
وفي حين أن أفلام الحركة التجارية قد تسجل أرقاماً قياسية أعلى في شباك التذاكر، فإنها عادة ما تحصل على درجات منخفضة من قِبل النقاد، ونادراً ما تفوز بأي جوائز فنية في حفل توزيع جوائز الأوسكار، لكن على النقيض من ذلك، تمكنت أفلام القتال الجادة عن حرب فيتنام أن تكون أفلام حركة ناجحة لدى النقاد واستحقت الجوائز الكبرى، بعدما حرص معظم صانعي أفلام المعارك على تمثيل الجنود الأميركيين في الحرب بطريقة تسهم في الحوار الوطني المتغيّر باستمرار، حول الجنود والمحاربين القدامى وأسَرهم، النابع من الإلحاح الأخلاقي والحب العائلي، وهو عنصر حاسم في إضفاء أهمية على أفلامهم.
محاسبة الهزيمة
ونقلت هذه الأفلام كيف تفكر أجيال الشباب خلال الحرب، وهو تأثير تضخَّم لاحقاً في الثمانينيات مع انتشار أفلام الفيديو حتى أصبحت جزءاً من الثقافة العسكرية الشعبية. كما دفعت هذه الأفلام ذات الرؤية الأخلاقية، السينما الأميركية إلى منطقة جديدة، حيث يجب محاسبة الهزيمة الأميركية وحيث يمكن أن تكون تصرفات الحكومة والجيش مفتوحة للنقاش.