كان فيلم "فيوليت نوزيير"، الذي حققه الفرنسي كلود شابرول من بطولة إيزابيل أوبير، واحداً من أكثر الأفلام إثارة للسجال، إذ عرض في دورة عام 1978 لمهرجان "كان" السينمائي، وحصلت بطلته على جائزة أفضل تمثيل عن دور المراهقة المجرمة التي أقامت الدنيا وأقعدتها، حيث قتلت أباها وأمها قبل ذلك بنحو نصف قرن. بالنسبة إلى شابرول الذي جاء مكانه في الطائرة العائدة بنا من نيس إلى باريس في جوار مقعد كاتب هذه السطور وإلى جانبه من الجانب الآخر بطلة الفيلم، أتى هذا الأخير ليضاف إلى ما كان حققه من أفلام ينطلق فيها، كما قال لنا ملخصاً تصريحات صحافية أدلى بها حول الفيلم، من فكرة أن ما يجمع بين معظم أفلامه هو أن العدد الأكبر منها إنما يدور في أجواء وبيوت عائلية، بما في ذلك الأفلام التي تتمحور موضوعاتها حول جرائم أو صراعات، أو ما يشبه ذلك. ومع هذا، فإنه هو نفسه، كما قال مبتسماً، ولكن بحزم، يفضل من بين الألقاب الكثيرة التي أتاحت موضوعات أفلامه إطلاقها عليه، ومنها "مخرج الأفلام البرجوازية"، و"سيد التشويق العائلي"، و"مبدع حكايات المرأة الخائنة"، و"المصور الدقيق للروح الإنسانية". يفضل لقباً يبدو أنه من كان قد أوحى به "مخرج الحماقة"، أي المخرج الذي صور الحماقة البشرية في أفلامه بأقصى وأقسى تجلياتها وهو الذي اعتاد أن يقول "لا شك في أن الحماقة أكثر فتنة من الذكاء بكثير، وهي أكثر عمقاً منه على أي حال. فللذكاء حدود يمكن التوقف عندها، أما الحماقة فلا حدود لها، لذا تسمح للمخيلات بالاشتغال من دون هوادة".
افتتان بالشر والحماقة
في تلك اللحظة ردد شابرول على مسامعنا ما كان قاله قبل ذلك بسنوات إثر ضجة أحدثها عام 1963 فيلم "لاندرو"، الذي كتب له السيناريو بنفسه شراكة مع فرانسواز ساغان، ورأى فيه نقاد كثر "نوعاً من الافتتان بالشر والحماقة في الآن معاً"، أي شر المجرم "لاندرو" الذي اقتبس السيناريو عن حكايته الحقيقية، وحماقة ضحاياه.
وفي جلسة الطائرة التي لم تستغرق سوى ساعة واحدة راح شابرول مستعيناً بنجمته يحاول أن يؤكد أن "فيوليت نوزيير، ليست سوى وحش بشري. غير أن ما قادها إلى ذلك المنزلق الخطير والفاسد الذي انزلقت إليه لم يكن سوى الحياة التي عاشتها باعتبارها فتاة حرة، شابة، وعصرية في مواجهة حماقة الآخرين".
وأردف شابرول لافتاً نظرنا إلى أن أعداء الحداثة من المحافظين لم يكونوا بحاجة إلى أكثر من حكاية فيوليت نوزيير، يوم أن ارتكبت هذه جريمتها، حتى يشرعوا بشن هجماتهم على الحداثة وعلى كل ما تمثله. ففي ذلك الوقت اقترفت تلك الشابة ذات الأطوار الغريبة جريمة اهتزت لها فرنسا بأسرها، ولكن بدلاً من أن تعتبر الجريمة حالة فردية استثنائية، اعتبرت من قبل المحافظين جريمة نابعة من الانفلات الأخلاقي الناجم بدوره "عن غزو الحداثة للمجتمع الفرنسي". وهذا ما أعطى تلك الجريمة مدلولاتها وعمقها في ذلك الحين، ولكن ما الجريمة التي اقترفتها فيوليت نوزيير؟
بدم بارد
بكل بساطة، وكما يروي شابرول في الفيلم، قامت بقتل أبيها وأمها بدم بارد من دون أن يرف لها جفن. فقبل بضع ساعات من مقتل الوالدين خرجت من البيت، ثم عادت بعد حين وهي تحمل في حقيبتها كيسين صغيرين يحتويان على رذاذ أبيض اللون قالت لمن باعها إياه إن غايتها منه أن يخفف الأوجاع المبرحة التي حلت بوالديها. والحقيقة أن فيوليت لم تكن كاذبة في ذلك، فالرذاذ كان هدفه، فعلاً، أن يوقف آلام الوالدين عبر الإجهاز عليهما. كانت المشكلة الوحيدة أن الأوجاع نفسها لم تكن من فعل الصدفة، بل كانت ناتجة عن تسميم فيوليت والديها، قبل ذلك بسم الفئران. إذاً كانت الفتاة قد سممت والديها، لكنهما لم يموتا بسرعة، فأتت بالرذاذ الإضافي ليقضي عليهما نهائياً.
وهي، في انتظار ذلك، تركت البيت بعد أن فتحت صنابير الغاز، وتوجهت إلى مرقص في حي مونمارتر مع صديقها لكي ترقص، ريثما يكون الغاز هذه المرة قد فعل فعله، مما سيوحي في اعتقادها أن والديها قد قضيا انتحاراً.
إذاً، تم كل شيء كما خططت الفتاة، لكن الجريمة سرعان ما انكشفت، وتمكن رجال الشرطة من القبض عليها يوم 28 أغسطس (آب) 1933، بعد أيام من اقترافها. وكان القبض عليها في مقهى في الشانزليزيه، بعد أن كان مار قد تعرف عليها، إذ إن الشرطة كانت قد نشرت صورتها في كل الصحف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم تكن المرة الأولى
كانت فيوليت يوم أن ارتكبت جريمتها في الثامنة عشرة من عمرها، وستعترف بعد الاعتقال بأن تلك المرة لم تكن الأولى التي تحاول فيها أن تقتل والديها، بل سبق لها أن قامت بمحاولة فاشلة قبل ذلك بأربعة أشهر. كما أنها اعترفت بأنها قتلتهما لأنها تريد أن تسرق ما لديهما من مال وتعيش به. كل هذا لا سيما صراحة الفتاة في اعترافاتها، إضافة إلى الصور العارية التي راحت تنشر لها جعلت الصحافة، في تلك الأيام، كما جعلت الكتاب يتساءلون: "ترى كيف حدث لتلك الفتاة، المرحة الضاحكة، وابنة الناس الطيبين الذين يتمتعون باحترام كبير في الحي الذي يقيمون فيه (بالقرب من محطة ليون، علماً بأن الوالد كان يعمل سائقاً للقطار الرئاسي)، كيف حدث لها أن أصبحت وحشاً يقتل أبويها؟ يبدو لنا أن الأمر عائد إلى سوء غرائزها، وإلى مصاحبتها الناس السيئين، ولكن أيضاً إلى ضعف ابويها تجاهها". وهذا ما قالته الصحف يومها.
شفاعة أم
المهم أن فيوليت اعتقلت، وكان لجريمتها، كما كان لاعتقالها ولاعترافاتها، صدى كبير في طول فرنسا وعرضها. وراح الكتاب والفنانون يتفننون في كتابة قطع مستوحاة من حالتها. وكان آخرهم، كلود شابرول الذي حقق عن فيوليت عام 1978 الفيلم المميز الذي عرض في "كان" لتكون له ضجة كبيرة حينها، ويعيد الحكاية إلى واجهة الحياة الاجتماعية، ويذكر الفرنسيين بأن محاكمة فيوليت نوزيير تواصلت طوال أشهر عديدة، وشغلت الشعب الفرنسي كله.
وكان مما زاد من طابعها المأساوي أن الأم كانت قبل وفاتها قد تنبأت بما سيحدث لها على يد ابنتها، وكتبت نصاً تبرئها فيه تماماً، وتعفو عنها. وفي نهاية الأمر، وعلى الرغم من "شفاعة الأم" حكم على فيوليت بالإعدام، الذي كان ينبغي للفيلم أن يختتم على مشهده، لكنه لم يفعل لسبب سنراه بعد سطور، ويطلعنا على خاتمة أخرى للفيلم أتت من حيث لا يتوقع مشاهدو الفيلم الذين لم يكونوا يعرفون الكثير عن الشؤون القضائية الفرنسية.
مع وقف التنفيذ
الحقيقة أن تلك الخاتمة المفاجئة إنما أتت بدورها لتذكرنا بمشكلة أخرى كانت قد طرحت بدورها وأثارت سجالات صاخبة في فرنسا في ذلك الحين، سجالات تواصلت طوال أكثر من 50 عاماً بعد ذلك، إذ منذ 1887، لم يكن أي حكم بالإعدام قد نفذ في حق أي امرأة، حيث إن آخر محكومة بالإعدام حين أعدمت راحت تصرخ وتبكي بشكل أثار أفئدة الناس أجمعين، فصار منذ ذلك الحين ثمة عرف يقضي بألا تعدم النساء حتى ولو صدر حكم عليهن بالإعدام. من هنا، انتهى الأمر بفيوليت إلى أن يصدر عنها عفو يحول دون إعدامها. أما هي فإنها حين صدر الحكم بإعدامها، أفلتت من عقالها وراحت تشتم قضاتها، وتلعن عائلتها، وتندد بمحاميها وبالناس أجمعين، في ثورة عصبية حقيقية أثارت الهلع، ولكنها أثارت كذلك تعاطف مئات وآلاف الفرنسيين الذين راحوا يتابعون حكايتها يوماً بعد يوم، وهم يتمنون ألا ينتهي بها الأمر إلى الإعدام، وتحققت أمنيتهم.