Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جولييت آدم تنخرط في القضية المصرية تحت رعاية مصطفى كامل

"إنجلترا في مصر": ماذا يفعل الإنجليز في بلد موغل بالحضارة؟

الكاتبة والمناضلة الفرنسية جولييت آدم (غيتي)

خلال سنوات حياته الأخيرة اعتاد المناضل المصري ضد الاحتلال البريطاني لبلاده مصطفى كامل القول إن بين الشخصيات الفرنسية والأوروبية العديدة التي التقاها في الغرب ولم تخذله أو تخيّب ظنه مطلقاً، تقف في المقدمة السيدة جولييت آدم التي أمضت سنوات عديدة من حياتها وهي تناضل إلى جانب القضية المصرية. ولعل اللافت في مواقف تلك السيدة أنها وتحديداً منذ تثبيت الاحتلال الإنجليزي أقدامه في مصر لم تتوقف عن مناصرة القضية المصرية واكتساب الصداقات لمصر في طول أوروبا وعرضها. وهي لئن كانت قد تأخرت في إنجازها كتاباً عن مصر اشتغلت عليه طويلاً وعنوانه "إنجلترا في مصر" فلم تتمكن من إصداره إلا في العام 1922 أي بعد عقد ونصف العقد من رحيل صديقها مصطفى كامل، الذي حدثته عنه طويلاً خلال لقاءاتهما في مصر أو في باريس، فشجعها متمنياً عليها أن يقرأه قبل موته. بيد أنه مات قبل ذلك.

وفاء سيدة ثمانينية

لكن زملاء مصطفى كامل ورفاقه في الحركة الوطنية المصرية، قرأوه وترجموه فور صدوره ونوهوا بالوفاء النادر لتلك السيدة التي كانت تقترب من الثمانين حين بدأت في كتابته ومن التسعين حين صدر. ولقد نال الكتاب شهرة كبيرة واعتبر وصية فكرية وربما تاريخية أيضاً إن لم يكن أدبية من سيدة منصفة كانت لا تتوقف عن التساؤل كيف أُمكن لـ"الهمجيين" الإنجليز أن يفعلوا كل ما فعلوه ببلد كان صاحب إنجازات حضارية وسياسية وإدارية وفكرية وعلمية "يوم كانوا هم لا يزالون يأكلون لحوم البشر"؟

وجولييت، لكي تعطي سؤالها بعداً علمياً وعقلانياً، انكبت في المقدمة الطويلة التي وضعتها للكتاب على تقديم صورة بديعة وإن يشوبها قدر لطيف من حماسة عاطفية، للتاريخ المصري الموغل في القدم تنطلق من كون هذا البلد أماً للحضارات والأديان والتطورات العمرانية، متوقفة بشكل خاص عند ملكات فرعونيات حكمن مصر فأبدعنَ، بخاصة أيضاً عند الملك مينا الذي كان هو المؤسس الحقيقي لمصر كحضارة ودولة وإدارة مركزية، داخلة في تفاصيل مفاجئة – أدهشت المصريين أنفسهم حين قرأوا الكتاب ليكتشفوا لاحقاً مع تطور الدراسات التاريخية أن جولييت آدم لم تكن مغالية في أي حرف كتبته.

 

 

التاريخ للتعبير عن الغضب

غير أن المهم بالنسبة إلى "مدام جولييت" لم يكن التوقف عند الحضارة المصرية القديمة، ولا طبعاً التحدث باستفاضة عن مسار التاريخ المصري المجيد الذي يبدو واضحاً أنها كانت مطلعة عليه بالتفصيل، ولكن ما تخلص إليه على اعتبار أنه من عجائب الأقدار: وهو تمكّن الإنجليز ومن قبلهم العثمانيون من السيطرة على هكذا بلد والنكوص به الى الوراء حضارياً وسياسياً بشكل غير منطقي و"يدعو إلى الدهشة والاستنكار" كما كانت تقول بحزن.

بالنسبة إلى الفرنسيين قد لا تعني حياة السيدة جولييت آدم شيئاً كثيراً، فهي، في أحسن الأحوال، كانت واحدة من تلك النساء اللواتي قادتهنّ حياتهنّ العائلية ثم الزواج بعد ذلك إلى الانخراط في حمأة العمل السياسي عند الحد الفاصل بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. بل ربما اهتم الفرنسيون بها أكثر بسبب بلوغها المئة من عمرها حين رحلت عن عالمنا عام 1936، أكثر مما اهتموا بها بوصفها كاتبة. ومع هذا كانت هذه السيدة تعني الكثير للمصريين، فهي بعد كل شيء، كانت واحدة من الشخصيات الفرنسية التي احتضنت القضية المصرية ودافعت عنها بشدة، من خلال احتضانها الزعيم الوطني الكبير مصطفى كامل، حيث كانت حين وجوده في باريس، تقدمه إلى كبار الفرنسيين والأوروبيين الذين يقصدون دارها، شارحة قضيته مثنية على وطنيته، وهو أمر لم ينسه مصطفى كامل أبداً، كما سوف نرى.

في ركاب غاريبالدي

ولدت جولييت آدم (واسمها الأصلي جولييت لامبر) في عام 1836 في مدينة فربري (مقاطعة داز الفرنسية الشمالية)، لعائلة مولعة بالعمل السياسي، وهذا ما جعلها منذ صباها تهتم بالسياسة وتعبر عن مواقف جمهورية متشددة، في الوقت الذي راحت تظهر فيه ما لديها من مواهب كتابية، إذ نراها، ما إن بلغت الثانية والعشرين من عمرها، تنشر قصصاً قصيرة وروايات، إضافة إلى دراسات كتبتها حول الزعيم الإيطالي غاريبالدي وحركته التوحيدية. ومنذ البداية راحت جولييت آدم تخوض حرباً شعواء ضد تسلط الفاتيكان على السياسة في إيطاليا، كما لم توفر في هجوماتها الاشتراكي "الفوضوي" برودون الذي اعتبرته معادياً لقضية النساء.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولقد أتاح زواج جولييت من عضو مجلس الشيوخ إدمون آدم، أن تختلط بعلية القوم، فأقامت في بيتها صالوناً أدبياً - سياسياً اعتباراً من العام 1877، جمع كبار الجمهوريين الذين كان لا يداعبهم سوى أمل واحد وهو الانتقام لهزيمة كومونة باريس. وفي ذلك الصالون تعرف مصطفى كامل لاحقاً إلى عدد كبير من الشخصيات التي راحت تساند القضية المصرية، بفضل الأسلوب الحماسي الذي راحت جولييت آدم تشرحها به، وهذا ما جعل مصطفى كامل يكتب عن جولييت آدم، في "اللواء" وفي "الايتاندار" صفحات تحفل بالتحية والإعجاب ولا سيما حين زارت مصر وكانت قد بلغت السابعة والستين من عمرها، حيث احتفل بها المصريون احتفالاً كبيراً.

"أميرة طائرة الصيت"

يومها كتب مصطفى كامل تحت عنوان "ضيفة مصر" (24/2/1904): "وقد زارت مصر في هذه الأيام أميرة من أكبر أميرات الرأي والقلم والسياسة، ألا وهي مدام جولييت آدم الكاتبة الفرنساوية الطائرة الصيت. زارت مصر وقد عشقتها من قديم وشغفت بها من عهد شبابها ودافعت عنها بقلمها السيال السنوات الطوال، فلذلك حق لمصر أن ترحب بها وللمصريين أن يقابلوها بالشكر والإعظام. أتمت ضيفتنا العزيزة في اكتوبر الماضي السنة السابعة والستين من عمرها. ومضى عليها خمسون عاماً وهي الكوكب الساطع في سماء الأدب الرائع. نشرت إلى اليوم 22 مؤلفاً من أرقى المؤلفات وأسماها وقد نفدت كلها لكثرة الراغبين في مطالعتها والمعجبين بها. ولو جمعت رسائلها ومقالاتها السياسية لكانت فوق ذلك عدداً وحجماً (...) نعم، منحها الله كل ما يرجوه الإنسان في حياته: مالاً وجلالاً وعلماً وأدباً وسمعة طائرة ونفوذاً كبيراً. وقد استخدمت كل هذه المواهب في خدمة وطنها، فهو قبلتها وفي سبيله تضحي بكل مرتخص وغال. لم أرَ في رحلاتي العديدة ومقابلاتي الكثيرة شخصاً أحب وطنه بهذا المقدار، ولم أجد ثباتاً في الحب كثباتها في حب بلادها (...) ملأ اليأس قلوب الكثيرين من الفرنساويين في رجوع الألزاس واللورين لفرنسا، وبقيت هي قوية الآمال لا تعرف اليأس ولا اليأس يعرفها (...). وكان لضيفتنا الكريمة الشأن الأعلى والدور المهم في تأسيس الجمهورية الفرنساوية والتحالف الفرنساوي - الروسي. وكم تقررت أمور خطيرة في دارها لأن كبار الجمهورية وفي مقدمهم غامبيتا كانوا يسترشدون بأفكارها ويعترفون بأنها صائبة الرأي لا تخطئ المرمى".

دعوة من كليمنصو

والحال أن الفرنسيين، على الرغم من عدم اهتمامهم بأدب جولييت آدم، لم يكفوا عن تكريمها كشخصية سياسية وطنية، وعلى هذا النحو دعاها كليمنصو في 1919 إلى حضور توقيع معاهدة الصلح. أما هي، على الرغم من ضروب التكريم السياسي واصلت اهتماماتها الأدبية، تكتب وتنشر وتؤسّس المجلات التي كانت أشهرها مجلة "لانوفيل ريفو" (المجلة الجديدة) التي أسستها في 1879. أما أشهر كتبها إضافة الى "إنجلترا في مصر"، فهو "ذكرياتي" الذي صدر العام 1904 في ثلاثة أجزاء ويعتبر كبير الأهمية للاطلاع على تفاصيل تاريخ الجمهورية الثالثة في فرنسا. أما من الناحية الأدبية، فاشتهرت لها روايتان أولاهما عنوانها "وثنية" صدرت في 1883 واعتبرت فضيحة، وثانيتهما "مسيحيون" صدرت بعد ذلك بثلاثين عاماً، واعتبرت رداً على الأولى وكشفاً عن تطور جولييت في اتجاه الإيمان.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة