Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف نجح بيرس مورغان في استقطاب صناعة الغضب في بريطانيا

بغض النظر عن سبب خروج الإعلامي بيرس مورغان من "آي تي في" فنحن نعلم أنه لم يطرد نتيجة أعوام من تشويه سمعة بعض الأشخاص من ملونين ونساء أو متحوّلين جنسياً

 بيرس مورغان، المذيع البريطاني المثير للجدل، معروف بقدرته استمالة جماهير ضخمة على حساب أي قضية يعتبرها "أخلاقية" (رويترز)

شكّلت في البداية قضية "بريكست"، ثم بعدها مسألة "ميغست" (نسبة إلى ميغان ماركل)، والآن "مورغست" (نسبة إلى مقدّم البرامج بيرس مورغان)، تزاوجاً غريباً من العناصر المتسلسلة التي لم أتصوّر أنها يمكن أن تجلب لي مثل هذا النوع من السكينة. فبعد بثّ المقابلة المروعة لأوبرا وينفري مع دوق ودوقة ساسيكس، التي تحدثت فيها ميغان ماركل عن تدهور صحتها الذهنية خلال الأعوام الصعبة القليلة الماضية، علّق بيرس مورغان بأنه "لم يصدق أي كلمة" مما قالته.

ليس واضحاً ما إذا كان مورغان قد أدرك في حينه أن ذلك كان سيكلّفه منصبه، لكن بعدما أغرق الحلقة التي تلت المقابلة من برنامج "صباح الخير يا بريطانيا" Good Morning Britain، بمشادة كلامية مع زميله آليكس بيريسفورد، تم الإعلان عن إسدال الستارة على عهد مورغان في البرنامج الصباحي الذي تبثّه قناة "آي تي في" ITV. فبعد خمسة أعوام من العمل مضيفاً مشاركاً للبرنامج الحواري "غود مورننغ بريتان" - البرنامج الذي ترنّح بطابعه المثير للغرابة ما بين أسلوبَي "بي بي سي" و"فوكس نيوز" - وجد مورغان نفسه خارج الملعب.

وفي بيان مقتضب، قالت المحطة إنه "بعد مناقشات عدة مع إدارة "آي تي في"، قرر بيرس مورغان أن الوقت قد حان لمغادرة برنامج ’غود مورننغ بريتان". وقد قبلت القناة هذا القرار وليس لديها ما تضيفه". لكن المشاهدين ربطوا بالطبع ما بين سلوكه في الأيام التي سبقت الإعلان، وأكثر من خمسين ألف شكوى ضده تلقتها "أوفكوم" (الهيئة المنظمة لقطاع الاتصالات في المملكة المتحدة)، ورحيله المفاجئ. لكن - بالنسبة إلى رجل أعمال ناجح وتاجر غضب وشخص متحكّم على المدى الطويل ضمن مؤسسة الترفيه البريطانية - تلك هي دوماً النهاية المتوقعة.

وكان مورغان قد وعد على مدى فترة طويلة بأنه سيتوقف عن تقديم هذا البرنامج التلفزيوني عام 2021، قائلاً إنه "يعتزم المضي نحو أفق جديدة"، عندما ينتهي عقده الراهن في نهاية السنة. ومع ذلك، كان رحيله الفعلي خبراً مثيراً للجدل وسريع الانتشار. بعبارة أخرى، كان أكثر بكثير على شاكلة "ظاهرة مورغان".

وسواء كانت مغادرته المحطة بمثابة خطوة منسّقة من جانبه وضرب من العلاقات العامة، أو كانت قراراً صادراً عن محطة "آي تي في" (الحريصة على سمعتها العامة، خصوصاً أنها في خضم حملة تناصر بقوة العمل لحماية الصحة الذهنية على المستوى الوطني)، فإننا نعلم أن مورغان لم يطرد نتيجة أعوام من تشويهه لصورة فئات المجتمع من ملونين ونساء ومتحوّلين جنسياً. على العكس من ذلك، فإن أعوام التعصب الأعمى التي أمضاها على الهواء، لم تضِف بريقاً إلى حياته المهنية إلا من الناحية المادية فقط.

لطالما عرف بيرس مورغان كيف يستميل جماهير ضخمة على حساب أي قضية أخلاقية. إن إلقاء نظرة واحدة على قائمة الفضائح والاستقالات التي قدّمها، هو كفيل بتيبان ذلك. فعام 1995، ترك مجلة التابلويد الأسبوعية "نيوز أوف ذا ورلد" News of the World  (حيث تولّى منصب أصغر رئيس تحرير منذ أكثر من نصف قرن في تاريخ المطبوعات الوطنية) بعد وقت قصير من نشره صوراً لزوجة تشارلز سبنسر (كاثرين فيكتوريا لوكوود) وهي تغادر إحدى عيادات علاج الإدمان في مقاطعة ساري. حتى إن روبرت مردوخ، مالك الصحيفة قال علناً: "لقد تمادى هذا الفتى في أفعاله"، قبل أن يعتذر لمورغان على انفراد بالطبع.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعام 2004، أُقيل مورغان من منصبه رئيساً لتحرير صحيفة "ديلي ميرور" بعد نشره صوراً مزيّفة. وعام 2011، زُعم على نطاق واسع أن مورغان أشرف على قرصنة الهواتف خلال فترة عمله في الصحيفة الشعبية "ذا ميرور"، بعدما أبلغ الإعلامي الإذاعي جيريمي باكسمان "تحقيق ليفيسون" (تحقيق قضائي في ثقافة الصحافة البريطانية وممارساتها وأخلاقياتها) عام 2012، أن مورغان أطلعه أثناء تناولهما الغداء، على طريقة اختراق هاتف محمول. وقد عبّر مورغان عن استعداده لقبول الفضيحة إذا كانت ستحقق له مبيعات وترفعه على سلّم تقييم البرامج (ومذيعيها).

أي نوعٍ من وسائل الإعلام هي التي تسمح لرجل بأن يحتفظ بمثل هذه السطوة الهائلة على إنتاجها لأكثر من 25 عاماُ؟ شخص غالباً ما يقود الانحراف الأخلاقي والغضب الذي يرافقه إلى تحقيق أرباح. ليس سرّاً أن الصحف الشعبية لطالما ازدهرت نتيجة الانتهاكات غير الأخلاقية للخصوصية. فقد كانت تفاصيل أكثر اللحظات إثارة أو مأساوية في حياة الشخصيات العامة، سمة مربحة للصحافة الشعبية لأكثر من 100 عام. إنها طريقة تمت تجربتها واختبارها، وباتت اليوم أسلوباً مردوخياً مميّزاً لبيع الجرائد، التي تستمر بكلفة إنسانية وأخلاقية.

والواقع أن بيرس مورغان، الذي رعا روبرت مردوخ بنفسه حياته المهنية، واجه مقايضة أخلاقية مماثلة في برنامج "غود مورنينغ بريتان"، عندما حقق نسبة قراءات ومشاهدات عالية من خلال تأجيج حروب ثقافية في ما يتعلق بالأفراد المتحوّلين جنسياً وحرية التعبير والانتماء الوطني، وذلك على حساب أشخاص مهمّشين. لكنها تضحية كان على استعداد لتقديمها. أتذكّر ما كتبه يوماً عن الفترة التي أمضاها في أسبوعية "نيوز أوف ذا ورلد" عن أنه "في بعض الأحيان، تبدو الوظيفة وكأنها تلعب دور الإله في حياة الناس. ففي نهاية المطاف، عليّ أن أقرر كل أسبوع من يعيش ومن يموت بسيف الصحيفة".

يُشار إلى أن الكثير من البث التلفزيوني الآن لا يحدث عبر شاشات التلفزة، بل يحصل أكثر عبر وسائل التواصل الاجتماعي. إن برامج مثل "غود مورنينغ بريتان" و"كويستشن تايم" Question Time أو "أخبار القناة الرابعة" Channel 4 News، أصبحت الآن قادرة على توسيع قاعدة جمهورها بشكل كبير من خلال نشر مقاطع قصيرة على صفحات الإنترنت لبعض أكثر النقاشات إثارة للجدل (على سبيل المثال، أكثر من 6 ملايين شخص شاهدوا مقطعاً من قناة "نوفارا ميديا" Novara Media، تتحدث فيه الصحافية آش ساركار (يسارية) مع مورغان، خلال نقاش حول زيارة دونالد ترمب إلى المملكة المتحدة تقول له فيه: "أنا شيوعية أيها الغبي").

في هذا المجال، كان مورغان من دون شك بالنسبة إلى محطة "آي تي في"، ركيزة تثير العدوانية والغضب. وقد لاقى المقدّم الذي يمثّل الرجل البريطاني العادي المدافع عن "المنطق السليم، قديم الطراز"، شعبية واسعة في أوساط الفئات  التي وجدت أنه يعكس آراءها في مواقفه الهجومية على الأقلّيات.

لكن فئة التقدميّين الأصغر سناً الذين كثيراً ما يتبادلون مقاطع الفيديو على منصتي "فيسبوك" و"تويتر"، إضافة إلى التعليقات المفعمة بالغضب، لم يتوانوا بدورهم عن تأجيج النار المشتعلة، الأمر الذي أدّى إلى إثارة وتناقل المزيد من المحتوى - بعد شهر من قيام مورغان بتجريد الأشخاص المتحوّلين جنسياً من إنسانيتهم، من خلال مقارنتهم بطيور البطريق، طرح البرنامج التلفزيوني الصباحي "غود مورنينغ بريتان" السؤال الآتي: "هل يجب إقالة بيرس مورغان بسبب آرائه حول الجنس؟" وتبيّن أنه من خلال القاعدة القائلة إن كل دعاية هي دعاية جيدة، تمكّنت استراتيجية "آي تي في" من تحقيق النجاح.

وفي هذا السياق، أشار الصحافي تيم آدامز إلى أنه في حين أن البديل المؤسسي لـ"غود مورنينغ بريتان"، المتمثّل في برنامج "بي بي سي بريكفاست" BBC Breakfast، يحافظ على موقع الصدارة في استقطاب نسبة عالية من المشاهدة للبث التلفزيوني المباشر، إلا أنه لا يعكس إلا جزءًا بسيطاً من "النبض الشعبي" المتناقل عبر منصات الإنترنت.

عندما غادر بيرس مورغان، خسرت قناة "آي تي في" 200 مليون جنيه إسترليني (حوالي 280 مليون دولار أميركي) من قيمتها في السوق. ويبدو أنه في هذه الحالة النادرة، أعادت القناة حساباتها وارتأت أن قرار رحيله كان أفضل من الكلفة الاقتصادية طويلة الأجل التي ستترتب عليها في حال عدم القيام بشيء. لكن في نهاية المطاف، سيكون مورغان على ما يرام. في الواقع، من المحتمل أن تكون التداعيات الأخيرة في مصلحته. فمنذ ذلك الحين، قال مورغان إن "الحشود المستيقظة" Woke Crowd (الفئات المناهضة للتمييز العنصري والمناصرة للعدالة الاجتماعية) حاولت "إلغاءه"، لكننا نعلم الآن أن الضحايا المتخيّلين للحركات المنادية بـ"ثقافة الإلغاء" Cancel Culture أو "الاستيقاظ" Wokeness أو أي شعار لحركة أخرى قد يختاره اليمين السياسي، هم عادة من يطفون بشكل عام على السطح.

ولنأخذ مثلاً لورانس فوكس، الممثل والمعلّق اليميني الذي أغضب التقدميين في جميع أنحاء البلاد في يناير (كانون الثاني) الماضي، بعدما وصف تصوير جندي من السيخ في الفيلم التاريخي 1917 بأنه "تنوّع قسري" و"نوع من العنصرية". فبعدما حصل على فرصة للتحدث في برنامج "غود مورنينغ بريتان" الصباحي ليؤكد موقفه، نجح أيضاً في الظهور عبر برنامج "كويستشن تايم" (على قناة بي بي سي)، فقال إن "وصفي بأنني رجل أبيض ذو امتياز هو تصرّف عنصري"، واعتبر أنه تعرّض لحملة "إلغاء".

بعد تلك الحادثة، اكتسب المعلق فوكس أكثر من 100 ألف متابع لحساباته على المنصات الاجتماعية، فيما لم تتوقف الدعوات المطالبة باستضافته عبر قنوات التلفزيون الوطنية طيلة عام 2020، ليعلن أخيراً ترشيحه لمنصب عمدة لندن.

الصحافية سارة مانافيس عبّرت عن موقفها من سلسلة تلك الأحداث في مجلة "نيو ستايتسمان" New Statesman قائلة إن "غالبية الأشخاص الذين ’تعرّضوا للإلغاء‘ مثل جي كي رولينغ أو دايف تشابيل أو عزيز أنصاري، إنما يواصلون الاستمتاع بنجاح مستمر على الصعيد التجاري"، مشيرة إلى ظاهرة "جولة الإلغاء"cancellation tour مربحة. إن اللحظات المحمومة والمشحونة بحالة من الغضب الجامح تشكّل بلا شك فرصة للارتقاء بالمسيرة المهنية لأولئك المستهدفين، والشخصيات مثل مورغان تعرف ذلك أكثر من أي شخص آخر.

صناعة الغضب ستكون هي الأخرى على ما يرام أيضاً. فكما أشار كثيرون، يبدو أن قناة "غريت بريتان نيوز"  GB News المرتقبة والتابعة للمذيع اليميني أندرو نيل - تستوحي نهجها من قناة "فوكس نيوز" الأميركية - ستمثّل أفضل رهان لخطوة مورغان الناجحة الآتية على الصعيد المهني، حتى إن نيل نفسه قال  (بعد إقالة مورغان) إنه سيضفي "قيمة مميّزة" على القناة (لو انضم إليها).

في الخلاصة، ومهما آلت إليه الأمور، يتعيّن على أي تقدّمي بريطاني أن يستعد لمواجهة حقيقة حتمية: إن صناعة الغضب البريطانية آخذة في التنامي والتفشّي. بالتالي، سيتعيّن علينا جميعاً أن نتحلى بالذكاء في ما يتعلق بالطرق التي يجب أن نتعامل بها مع الجهات التي تحاول إشعال غضبنا. أما استراتيجيتي الخاصة، فتقضي بالانضمام إلى الصفوف المتزايدة للأشخاص الذين يمتنعون عن المشاركة في منصة محدّدة أو الخوض في نقاشات مماثلة. وإذا ما وصلت طلباتهم إلى بريدي الإلكتروني، فسأرفضها. وإذا ظهرت على حسابي الخاص عبر "تويتر"، فسأتخطّاها وأواصل متابعة التصفّح. ففي النهاية، لم يتم حلّ أي مرض مجتمعي حتى الآن من خلال الخوض في "نقاش عقلاني" خلال تناول رقائق الذرة.

© The Independent

المزيد من آراء