أجبرت جائحة كوفيد-19 البنوك ومن دون سابق إنذار على اعتماد العمل عن بعد كقاعدة جديدة. قد يكون هذا التحول فوضوياً للعديد من البنوك، ولكن يبدو وبشكل متزايد أنه لن يزول مع زوال الجائحة.
ففي بيئة العمل عن بعد لم يعد الموظفون يعملون داخل مساحات فعلية تتحكم فيها البنوك بالكامل، ما يفرض عليهم استخدام الأجهزة التي تُصدرها البنوك بضوابط ومستويات حماية أعلى لدرء مخاطر الاختراق السيبراني، وخصوصاً مع ارتفاع وتيرة الهجمات الإلكترونية خلال ذروة تفشي الوباء ومع موجة الإغلاق التي صاحبتها.
وكانت بنوك في العالم قد أعلنت نيتها الاستمرار في تبني العمل عن بعد حتى بعد انحسار الوباء. فقد ذكر بنك "جي بي مورغان" وبنك "يو بي أس غروب" أن جزءاً كبيراً من القوى العاملة لديها قد يستمر في العمل بعيداً عن المكاتب بشكل دائم أو على أساس التناوب.
وأشار بنك "باركليز" إلى أنه قد لا يجمع آلاف الموظفين معاً في المكاتب. في حين أخبر العملاق المصرفي "أتش أس بي سي" موظفيه في هونغ كونغ، والبالغ عددهم 30 ألفاً، عبر مذكرة إدارية بأنه يمكنهم العمل لمدة تصل إلى أربعة أيام في الأسبوع من المنزل، ويمكن للموظفين اختيار العمل بشكل دائم في المكتب. وجاء في المذكرة أن الموظفين الذين يلتزمون بالعمل يومين أو أكثر في الأسبوع من المنزل لمدة عام واحد على الأقل يمكنهم الحصول على بدل لمرة واحدة قدره 2500 دولار هونغ كونغ (322 دولاراً) لمشتريات العمل عن بعد، بحسب تقرير لإنسايدر نشر في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. وكان بنك "أتش أس بي سي" قد أعلن عن خطط لخفض التكاليف بمقدار 4.5 مليار دولار بحلول عام 2022، بما في ذلك إلغاء نحو 35000 وظيفة.
مجموعة بنك الإمارات دبي الوطني والتحول الرقمي
إلى ذلك، تقول إيمان عبد الرزاق، المسؤولة الرئيسة عن الموارد البشرية في مجموعة "بنك الإمارات دبي الوطني"، إن صحة الموظفين وعملاء البنك وسلامتهم لهما أولوية في قطاع المصارف.
وتضيف عبدالرزاق، "من الضروري دفع عجلة الابتكار في القطاع المصرفي بشكل أوسع، إذ أسهمت الخطوات التي اتخذناها في المجموعة في إطار رحلة التحول الرقمي بهدف تعزيز رقمنة العمليات وسبل تفاعل العملاء بدور محوري في التمكين من التكيف مع الواقع الجديد".
العمل عن بعد قبل الجائحة
وتتابع عبدالرزاق، "كانت ترتيبات ساعات العمل المرنة والعمل عن بعد جزءاً من عملنا قبل الجائحة ومتوفرة لشريحة كبيرة من موظفينا، ومن ضمنها الذين لديهم وضع صحي خاص".
وتشير إلى أن "البنك سارع إلى طرح منصة (أم أس تيمز)، ونقل أكثر من 2100 مستخدم إلى سحابة مايكروسوفت (مايكروسوفت كلاود)، وأصبح تنظيم الاجتماعات والبرامج المخصصة للموظفين ونشاطات برنامج إكستشينجر التطوعي ضمن نشاطات أخرى تتم عبر المنصة".
وعلى صعيد التطلعات المستقبلية، تقول "نرى أمامنا نموذج عمل مختلط يقوم على الدمج بين الهيكليات. وستبقى ساعات العمل المرنة والعمل عن بعد جزءاً من الواقع الجديد، وسنواصل دعم كوادرنا البشرية عبر منهجية مستدامة ورشيدة تحقق التوازن بين العمل والحياة، الأمر الذي يعود بتأثير إيجابي أكبر على أداء الأعمال".
الثقافة المصرفية والرقمية
من جانبه، يقول وضاح الطه، عضو المجلس الاستشاري الوطني في معهد "تشارترد للأوراق المالية والاستثمار"، إن "هناك ثلاثة محاور عند الحديث عن توجه مزيد من البنوك للعمل عن بعد، يتمثل المحور الأول في البنية التحتية الرقمية في الدول التي تعمل فيها البنوك، أي مدى توفر الخدمات ذات النطاق العريض التي تؤسس لتقديم مزيد من الخدمات المصرفية. أما المحور الثاني، فيتمثل في مدى قدرة البنوك على التكيف مع الخدمات الرقمية والعمل عن بعد. فيما يعنى المحور الثالث بالثقافة المصرفية للعملاء.
ويضيف الطه أن "العمل عن بعد يشمل موظفي البنوك والعملاء. والسؤال هنا، هل الثقافة المصرفية والرقمية في البيئة التي يعمل فيها البنك مهيأة للتعامل من خلال الإنترنت؟ وبالتالي المحاور الثلاثة التي ذكرتها هي الأساس في الإجابة على هذا السؤال.
اختفاء ربع فروع البنوك الأوروبية
ويقول الطه "هناك نقطة أساسية هي أن هناك موجة تحول نحو الرقمية بدأت من سنوات وكانت موجهة للعملاء والزبائن". ويتحدث عن دراسة أوروبية كانت قد تنبأت منذ سنوات باختفاء نحو ربع فروع البنوك الأوروبية في غضون ثلاث سنوات تبدأ بعام 2020 وتنهي في 2022.
ويشير إلى أنه "ليس الهدف من العمل عن بعد خفض الكلفة التشغيلية للبنوك فحسب، فيجب أن تكون هناك إنتاجية بالتوازي مع هذا الخفض". ويعتقد الطه "بضرورة استخدام مصطلح ترشيد الكلفة عوضاً عن خفض الكلفة، بمعنى أنه مع خفض الكلفة يجب أن تحافظ الخدمات على مستوى جودتها إن لم ترتفع، أي أنه يُفترض مع خفض الكلفة أن ترتفع جودة الخدمات أو ألا تتراجع عن مستواها الحالي، ولكن في حال تراجعت جودة الخدمات أو قلت الإنتاجية، فهذا يعتبر مؤشراً سلبياً للتحول للعمل عن بعد".
كورونا سرع التحول نحو الرقمنة
ويقول عضو المجلس الاستشاري الوطني في معهد "تشارترد للأوراق المالية والاستثمار"، إن جائحة كورونا سرعت التحول للعمل عن بعد والخدمات الرقمية. وفي ما يتعلق بإمكانية العودة إلى طرق العمل القديمة بعد زوال الجائحة يقول الطه "أنا شخصياً أشك في إمكانية العودة إلى حقبة ما قبل الوباء، نعم هناك بعض الفوائد جنتها البنوك من العمل عن بعد، ولكن هذا يتطلب تكييف التعليمات المصرفية والإجراءات وتحويرها وتعديلها وتطويرها".
ويشير الطه إلى أن بعض أنواع المعاملات المصرفية يحتاج إلى التواصل ما بين الأقسام بشكل وثيق للتأكد من المعلومات المقدمة، وبالتالي هناك معاملات تحتاج إلى أن تُجرى لها بعض التحويرات من دون المساس بجودتها، فأحياناً لا يقتصر الأمر على مسألة الجودة، وإنما هناك مخاطر ينبغي ألا ترتفع مع العمل عن بعد.
الثقافة المصرفية تحتاج إلى تطوير وتوعية
ويرى الطه أن التحول إلى الرقمية بالكامل يحتاج إلى خطط وترتيبات ودراسة، فبعض الخطوات مثل الحاجة إلى تنظيم لقاءات وجهاً لوجه أو عقد اجتماعات أو زيارة مشاريع للتأكد من المعلومات المقدمة للبنك قبل تقديم التوصيات، وبالتالي من الصعب القيام بذلك عن بعد. ويقول "لا يمكننا إجراء جميع المعاملات المصرفية عن بعد، وخصوصاً أننا في دول نامية، وأعني بذلك أن الثقافة المصرفية والاستثمارية في المنطقة لا تزال تحتاج إلى تطوير وتوعية".
انخفاض الكلفة الإنتاجية وعوائد مساهمي البنوك
من جانبه يقول طارق قاقيش، المدير التنفيذي لشركة "سولت" للاستشارات المالية، إن "تحول البنوك إلى الرقمية وعرض خدماتها عن بعد ليس أمراً اختيارياً، فالخدمات المصرفية عبر الإنترنت هي بلا شك أكثر كفاءة. وهناك العديد من العوامل التي سرعت هذا التحول وعلى رأسها جائحة كوفيد-19". ويضيف قاقيش "في البداية، كانت هناك شكوك متعددة بشأن تحول العمل عن بعد، لكن الدراسات أظهرت أن نتائج العمل كانت أكثر إيجابية مما توقعه العديد، إذ ازدادت فرص التعاون والإبداع بين الموظفين وأصبح من الممكن التحكم في مخالفات الموظفين، مما أدى إلى زيادة الإنتاجية. ومن المثير للاهتمام أن العديد من المشاركين لاحظوا أن ساعات عمل الموظفين من المنزل قد زادت مقارنة بعملهم بنظيرتها في المكاتب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتوقع المدير التنفيذي لشركة "سولت" للاستشارات المالية، أن تتجه مزيد من المؤسسات المالية إلى التحول للعمل عن بعد مع انخفاض الكلفة الإنتاجية التي تعد من أهم العوامل لتحقيق عائد أفضل لمساهمي البنوك.
ومن جانب العملاء، يرى قاقيش أن "وجود حلول إلكترونية عوضاً من التعامل وجهاً لوجه، إضافة إلى زيارة فروع البنوك جعلا العملاء يتجهون إلى المعاملات البنكية الإلكترونية بصورة أكبر".
إيجابيات العمل عن بعد وسلبياته
ويقول قاقيش "هناك جانب إيجابي للعمل عن بعد يكمن في خفض الكلفة على الموظف، فهو لا يحتاج إلى قيادة سيارته، وبالتالي تتلاشى كلفة الوقود وتتراجع الملوثات الهوائية، وفي مدن عالمية مثل نيويورك ولندن قد تستغرق رحلة الموظف إلى عمله والعودة منه نحو ثلاث ساعات، مما قد يؤثر على إنتاجيته. ومن الآثار الإيجابية الأخرى تراجع كلفة تناول الطعام خلال أوقات الدوام، هناك كذلك أثر إيجابي اجتماعي إذ يصبح الموظف قريباً من عائلته. إلى جانب أن إتمام المعاملات المصرفية عبر الإنترنت سيستغرق فترة زمنية أقل مقارنة بوجود العملاء في فروع البنوك، مما يوفر الوقت والجهد على العميل".
أما من الناحية السلبية، فيرى قاقيش أن "التحول الرقمي سيقلل من الحاجة إلى الأيدي العاملة، مما قد يرفع مستويات البطالة. وهناك مخاطر الاختراق السيبراني وسرية المعلومات الخاصة بالعميل، وخصوصاً أن الموظف الذي سيعمل من منزله سيكون أمامه معلومات العملاء، مما قد يقود إلى اختراق لحسابات العملاء، ولكن أنا على ثقة كبيرة بأن البنوك والمؤسست المالية الكبرى قد وفرت سبل الحماية للعملاء وحساباتهم حتى ولو كان العمل عن بعد".