Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نظرية الأوتار علميا وفلسفيا (الحلقة الأولى)

المعضلة التي واجهها العلماء هي أن نظريتي الكمومية والنسبية تدمران بعضهما بعضاً في حالة توحيدهما معاً

ألبرت أينشتاين (أ. ف. ب.)

بعد أن استقرت المفاهيم العلمية الحديثة والمعاصرة على أن القوى التي تتحكم بالطبيعة والكون هي: القوة الكهرومغناطيسية، والقوة النووية الشديدة، والقوة النووية الضعيفة، والقوة الجاذبية. القوى الثلاث الأولى نفهمها وفق النظرية الكمومية، وهي دراسة أصغر كمّية من الطاقة الموجودة في مكونات الذرة. لذلك تختص هذه النظرية بالصغائر المادية، التي ركَّز عليها ماكس بلانك (1858 - 1947)، ونيلز بور (1885 - 1962) وغيرهما من العلماء الكموميين، وحققت نجاحات باهرة في الفيزياء، وبسببها أمكن إنتاج الحاسوب والليزر والأقمار الاصطناعية وغيرها الكثير.

أمَّا القوة الأخرى، فنفهمها حسب النظرية النسبية، التي وضعها ألبرت أينشتاين (1879-1955)، إذ تبحث في الكتل الهائلة الحجم للمادة من الكواكب والنجوم والمجرات، ولذلك فهي تختص بالكبائر المادية، ولقد حققت أيضاً نجاحات فيزيائية مذهلة.

بيد أن المعضلة التي واجهها العلماء قاطبة هي أن هاتين النظريتين الكمومية والنسبية تدمران بعضهما بعضا في حالة توحيدهما معاً. رغم أن أينشتاين أنفق العقود الأخيرة من حياته بالعمل المثابر من أجل الوصول إلى تحقيق "نظرية التوحيد الكبير"، إذ يجمع في معادلة واحدة كل القوانين الفيزيائية الرئيسة في الجاذبية والكمومية، لكنه لم يفلح قط.

بداية النظرية  

في عام 1968 كان الفيزيائي الإيطالي جبريل فينيزيانو (1942) منشغلاً في البحث عن بعض المعادلات الرياضية، التي تصف القوى النووية الشديدة، التي تحافظ على تماسك نواة الذرة، وفي مكتبته عُثر على كتاب يعود إلى عالم الرياضيات السويسري ليونارد يولر (1707 - 1783)، إذ ساعده على كشف السلسلة، التي يمكن أن تصف التفاعل الحاصل بين الجُسيمات المتفاعلة بقوة، واستغرب كيف أن هذه المعادلة الرياضية، التي تصف تلك القوى وصفاً فعلياً أن تكون مهملة، كونها مجرد فضول رياضي. كما أن هذا الاكتشاف الذي اقترن باسمه كان الخطوة التمهيدية لتأسيس نظرية الأوتار، رغم أنها في ذلك الوقت لم تظهر بالشكل الذي يمكن أن تؤدي إلى نظرية جديدة في الجاذبية الكمومية. 

بيد أن الفيزيائي الأميركي ليونارد سسكيند (1940) اكتشف أن معادلة يولر لا تقتصر على وصف الجُسيمات فقط، فالرموز الرياضية تصف أكثر من شيء، منها أنها تقدم متحولات تصف اهتزازات، وتصف خيوطاً، فقام بدراستها بعناية وجدية، ووجد أنها عملياً تصف خيوطاً مهتزة، مثل الخيوط المطاطية حرة الطرفين. علاوة على أن هذه الخيوط، إضافة إلى صفتها في التمدد والتقلص، فهي تهتز بشكل دائري أيضاً. وحاول سسكيند أن ينشر بحثه، لكن تم رفضه بدعوى عدم أهميته علميا.ً  

وطيلة مرحلة السبعينيات انزوت النظرية وعلماؤها في الظل المهمل، رغم أن جون هنري شوارتز (1941)، بدأ بوضع تعديلات مهمة للنظرية مع الجاذبية، وافترض أن حجم تلك الأوتار أصغر بمئة مليار جزء من نواة الذرة. لقد كانت النظرية تعاني مشكلات عويصة، منها: تنبؤها بوجود جُسيمات عديمة الكتلة تستطيع أن تنطلق بسرعة أكثر من سرعة الضوء، مما يجعلها في تضاد مع النظرية النسبية، وكانت النظرية أيضاً تتنبأ بجُسيمات عديمة الكتلة تماماً، فهي لا مرئية، ولا يمكن التحقق من وجودها كونها منطوية على ذواتها. فضلاً عن احتياج النظرية إلى عشرة أبعاد بدلا ًمن الأبعاد المكانية التقليدية: الطول والعرض والارتفاع، مع البُعد الرابع الزمني. ناهيك بأن نتائج النظرية الرياضية متضاربة مع بعضها بعضا، حيث تعطي أرقاماً تتناقض مع معادلاتها.

ورغم أن شوارتز استطاع أن يحلّ المعضلة، التي تعرَّض لها زميله ومواطنه الأميركي ستيفن وينبرغ (1933) في "النموذج القياسي"، الذي يفتقد لوصف الجاذبية على المستوى الكمي، فإن النظرية استمرت بالظل، ولم تحظَ باهتمام العلماء. ومع ذلك فقد واظب شوارتز بالتعاون مع الفيزيائي البريطاني مايكل كرين (1946)، إذ بعد سنوات عديدة تمكنا من التوصل إلى حل المشكلات الرياضية في النظرية، لا سيما في العام 1984 عندما توصلا إلى إلغاء فكرة الخروج عن القياس في نموذج نظرية الأوتار الأولى، وهذه الرؤية سُميت: "آلية كرين– شوارتز"، حيث كانت منطلق ثورة "نظرية الأوتار الفائقة". وأخذت النظرية بوصف القوى الأربع المسيطرة على هذا الوجود الطبيعي والكوني.

وتنص النظرية على أن الوجود الحقيقي للمادة يكمن في قطع متناهية الصغر من أوتار مهتزة، وحسب تناسب كل وضع اهتزاز مع جُسيم معين، ويحدد هذا الاهتزاز شحنة الجسم وكتلته. وبذلك فإن دقائق الذرة أو الجُسيمات الأولية من إلكترون ونترون وبروتون ليست هي الوجود التكويني في الذرة، حيث لا وجود ذرياً أصلا.ً ونصَّت أيضاً على أن هذه الأوتار الدقيقة لها القابلية في التمدد إلى غشاء هائل عظيم بحجم الكون المتعدد الأبعاد، أي أن الكون ليس أكثر من غشاء واحد ضمن فضاء أوسع متعدد الأبعاد. مثل القطعة الواحدة، التي يمكن تقسيمها إلى أجزاء، فالكون ما هو إلا قطعة واحدة، وعليه هنالك أكوان أخرى متعددة، قد تكون مشابهة لهذا الكون، أو لها قوانينها الفيزيائية الخاصة فيها.

ولقد أدى هذا الاكتشاف إلى تهافت العلماء على هذه النظرية بنحو كبير، إذ أوصلوا الأبعاد إلى 26 بُعداً، ثم تقلَّصت إلى 10 أبعاد. ومع ذلك، فإن الأبعاد الأربعة هي المألوفة، وبغية ربطها بالأبعاد الإضافية الأخرى لنحصل على وصف علمي للكون، تم فرض التكوير للأبعاد الستة الإضافية في حيز صغير من الفضاء، فإذا كان حجم هذا النطاق هو (33–^10)، فإنه لا يمكن رصد هذا الحجم بشكل مباشر بسبب صغره المتناهي. لذلك نستمر في فهمنا المتبَع عن الأبعاد الأربعة المعروفة، مع وجود تلك النقط أو الأوتار الصغيرة المتصلة على مدى المكان والزمان.

وفي العام 1996 بالاعتماد على نظرية الأوتار تمكَّن كل من أندرو سترومينغر (1955)، وكومرون فافا (1960)، من بناء نوع معين من الثقوب السوداء بنفس الطريقة من بناء ذرة هيدروجين عبر ترتيب معادلات مستمدة من النظرية الكمومية، التي تصف ارتباط الإلكترون بالبروتون. وكذلك استناداً إلى أبحاث جاكوب بكنشتاين (1947 - 2015)، وستيفن هوكينغ (1941 - 2018)، أكد سترومينغر وفافا أن نسبة الفوضى كانت هائلة في أنواع معينة من الثقوب السوداء. وشكَّلت هذه النتائج مفاجأة كبيرة، إذ لم يستطع أحد أن يفهم كيفية امتلاك جسم بسيط كالثقب الأسود لهذه الكمية الهائلة من الفوضى في داخله. بل حتى الحسابات لم يكن باستطاعتها إعطاء فكرة واضحة عن هذه النتائج الصادمة والمدهشة.

وبناءً على هذه النتائج تمكَّن سترومينغر وفافا من تحديد القيمة الصحيحة للفوضى، التي تنبأ بها سابقاً هوكينغ وبكنشتاين. صحيح أن هذه النتائج كانت نقلة نوعية في علم الفيزياء، قد حققتها نظرية الأوتار، إلا أن الثقوب السوداء، التي أتت بها هذه النتائج، لديها القليل فقط من القواسم المشتركة مع الثقوب السوداء الواقعة في مراكز المجرات. ومع ذلك، فإنها تقدم رؤية جوابية على المسببات الفيزيائية من جهة، وتوضح حسابات العلاقة بين الأوتار والجاذبية من جهة أخرى.

ورغم أن رواد هذه النظرية يرون أنهم حققوا الجمع بين النظريتين المتنافرتين: النظرية النسبية والنظرية الكمومية، أو في تفسيرهم الشمولي الجامع لقوى الكون الأربع، فإن هذه النظرية بالقدر، الذي قدمت فيه طرحاً فيزيائياً جديداً للطبيعة وللكون، بالقدر الذي نسجت حول نفسها خيالاً علمياً هندسياً يقوم على فرض الرياضيات الوهمية في فهم الوجود بأسره.

"نظرية كل شيء"

وإذا كانت هذه المجموعة من العلماء الوتريين الفيزيائيين والرياضيين والفلكيين غالوا في مواقفهم وأفكارهم، حتى سمّوا نظريتهم "نظرية كل شيء"، لأنها شاملة جامعة، ومنها "نظرية إم"، التي وضعها إدوارد ويتن (1951) في العام 1995، الذي أدمج فيها بقية النظريات الوترية الخمس مع أبعادها الحادية عشرة، وقالوا إنها هي النظرية النهائية للفيزياء، بل وإنها نظرية القرن الحادي والعشرين، لكنها ما زالت تنتظر الإثبات والبرهنة المختبرية على فرضياتهم وتنبؤاتهم العلمية، فإن علماءً ومفكرين آخرين ذهبوا على الضد من ذلك، حيث دحضوا مفاهيم نظرية الأوتار جملةً وتفصيلا.ً بل إن ويتن نفسه أكد أن نظريته بحاجة إلى كثير من الرياضيات بغية تطويرها وفق صيغ جديدة تساعد أكثر في فهم مضامينها. وهذا يعني أن ويتن يطالب بحل المشكلة بمزيد من التعمق في المشكلة الوترية نفسها، بدلاً من اللجوء إلى البساطة في إيجاد حل سهل ومفهوم يُنهي حالة الغوص بمعضلة هذه النظرية المادية.

ومع هذا، فإن أهمية النظرية تكمن في أخذها القوة الجاذبية بعين الاعتبار، وكذلك في استيعابها على توحيد القوى والجُسيمات، التي تتكون منها الذرات الناشئة أصلاً من "الكواركات"، التي هي أصغر من مكونات الذرات: إلكترونات وبروتونات ونيترونات. إذ تعتقد هذه النظرية أن تلك الكواركات هي مادة على شكل أوتار أو خيوط في منتهى الصغر من الطاقة تهتز بعدة اتجاهات ونواحٍ، وفي كل اهتزاز معين لها يعطي الجُسيم خصائص مختلفة. إذ قد يشكل الاهتزاز جزيئاً مكوناً لذرات المادة أو الشحنة أو الطاقة أو الجاذبية. فالكون كله عبارة عن أوتار تعزف موسيقى متناسقة.

وهكذا صارت نظرية الأوتار أو النظرية الخيطية عبارة عن مجموعة أفكار فيزيائية تستند إلى معادلات رياضية معقدة في فهم التركيب الكوني، وأن القاسم المشترك لتلك الأفكار من العلماء ينص على أن المادة مكونة من أوتار ذات حلقات من الطاقات مفتوحة، وأخرى مغلقة، ويبلغ صغرها أن لا سُّمكَ لها، فهي ذو بُعد طولي واحد، مثل الخط. وإن هذه الأوتار هي أساس العناصر الدقيقة في مكونات الذرات.

الكون ليس وحيداً

ومن مفاهيم هذه النظرية أن العالم أو الكون ليس وحيداً في وجوده، إنما هناك عوالم وأكوان أخرى عديدة موجودة، وإنها متصلة ومتداخلة مع بعضها بعضا. وبهذا فإن الحيز الواحد في العالم أو الكون قد يكون مشغولاً أيضاً بأكثر من جسم عبر عوالم وأكوان مختلفة. ومن الممكن معرفة كل شيء من خلال معرفة تلك الأوتار، التي يتشكل منها الوجود بأسره. فكما نعرف أوتار العود أو الكمان ونغماتها المختلفة، فإن الكون يعمل وفق أوتاره النغمية، التي علينا معرفتها ليس إلا.

بعبارة أخرى، إن الذرات في المادة انطلاقاً من العالم الطبيعي وأجساد كائناته الحية وصولاً إلى الكواكب والنجوم المتناثرة في الكون الفسيح، تتكون من أوتار دقيقة مهتزة، وبمقدورنا معرفة العالم والكون من خلال معرفة الأوتار ونغماتها، تلك الأوتار التي تراها النظرية، رغم أنها عائمة حرة في الفضاء، لكنها تحت توتر أو ضغط تفسّره عبر معادلة رياضية، تصل فيها إلى أن مربع طول الوتر عبارة عن مقدار صغير جداً يصل إلى 10^-13 سم، أي أصغر بمئة مليار مرة من نواة الذرة. وأن الأوتار على نوعين: مغلق ومفتوح، الأول يمكن أن يتحوَّل إلى مفتوح. والثاني لا يمكن أن يتحوَّل إلى مغلق.

كما أن نظرية الأوتار جعلت من فكرة ألبرت أينشتاين: الانتقال عبر الزمن، أو الانتقال بين مكانين ذات بُعد شاسع في لحظات قصيرة، مسألة ليست مستحيلة، وذلك بتجاوز المفهوم الأفقي المسطح للمكان الطبيعي أو الكوني، وأن نتصوَّر المكان يحتوي على طيات عمودية. وبذلك تكون فكرة الانتقال بين المسافات الزمنية أو المكانية البعيدة بشكل علّوي وليس سطحياً، وذلك من خلال ثقوب دودية، وهي ممرات دودية داخل الثقوب السوداء، بيد أن هذه الفكرة ما زالت ضمن خيالات الرياضيات.

المزيد من آراء