حين تذكر أمام أحدهم عبارة "غرفة العناية المركزة"، سيتخيّل مباشرة جناحاً خاصاً في المستشفى لا يدخله إلا الأطباء والممرضون يرتدون ملابس إضافية وأغطية الرؤوس والقفازات، وحيث الغرف التي تضم أشخاصاً مصابين بأمراض مستعصية وغريبة. هناك تتدلّى منهم الصمامات والأمصال والآلات التي تعمل وتصدر أصواتاً تدلّ على أن المريض يتنفس أو أن قلبه ما زال يعمل. هذا التخيّل ليس بعيداً كثيراً من الواقع، خصوصاً في وقتنا الراهن، إذ تكتظ معظم المستشفيات حول العالم بمرضى كورونا، ويشتكي بعض الدول من عدم قدرته على استقبال أعداد متزايدة من المرضى في الجولة الثانية من انتشار الفيروس بسبب تفشّيه بشكل كبير وسريع، ما أنهك قطاعات صحية كثيرة حول العالم حتى في الدول المتقدمة أو دول العالم الأول.
وتطوّر غرف العناية المركزة ازداد مع الجديد الذي لحق الآلات الطبية وصناعتها منذ منتصف القرن الـ 20، فقد باتت مراقبة المريض تعتمد على عدد كبير من الآلات، كل منها يختص بعضو معين، إضافة إلى الاهتمام بالإضاءة والنظافة والتعقيم، إذ تبدو هذه الغرف وكأنها قسم من مركبة فضائية، ولكن أهمّ ما يميّز وحدات العناية المركزة اليوم هو استخدام آلات التنفّس الصناعي، فقد بدأ استخدام هذه الأجهزة في الجراحة منذ عام 1896، ولكنها لم تستعمل بشكل واسع كوسيلة لدعم البقاء على قيد الحياة إلا في 1952، وكان حينها قد انتشر مرض شلل الأطفال بسبب فيروس لم يكن معروفاً.
غرف العناية المركزة تاريخياً
ويعيد بعض المراجع التاريخية حجر أساس الاهتمام بنظافة غرف العمليات وتطوّر الخدمة في غرف العناية الفائقة إلى الطبيب الأميركي كوشينغ، الذي ومنذ عشرينيات القرن الماضي فرض قواعد صارمة لتعقيم هذه الغرف وللمراقبة الدائمة للمريض، وحتى عام 1931، كان كوشينغ قد أجرى 2000 عملية جراحية لاستئصال أورام في الدماغ، ولكن قبل تطبيق قواعد هذا الطبيب، كان يموت ثمانية من كل 10 مرضى يخضعون لجراحات الدماغ، إلا أن كوشينغ أسهم في خفض نسبة الوفيات إلى ثمانية في المئة فقط، وذلك لأنه وضع إجراءات ومعايير للنظافة في غرفة العمليات لدرء مخاطر التلوث البكتيري التي كانت تهدد أي مريض يخضع لمشرط الجراح، وكان هذا الطبيب أول من أدخل ارتداء القفازات المعقّمة والأقنعة إلى غرف العناية المركزة وفرض على الممرضين مراقبة الجروح بشكل دائم وتعقيمها. وفي سبيل دفعهم إلى أخذ الأمور بجدية، أكبر كان يعتني بجراح المرضى بنفسه بعد انتهاء العملية، كي يحذو العاملون حذوه، وكان أول من اهتم باستخدام الأشعة السينية ومراقبة ضغط الدم للمرضى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وخلال الحرب العالمية الثانية وبعدها في الخمسينيات من القرن الماضي، طُبّقت الأنظمة التي وضعها كوشينغ للعناية بالمرضى بعد العمليات الجراحية في بلدان عدة، تحديداً في أوروبا ما أدى إلى انخفاض عدد الموتى بين المرضى بشكل كبير حول العالم.
ويقول دانييل برايدن، نائب عميد رابطة الاستشاريين في العناية المركزة بالمملكة المتحدة، "العناية المركزة هي تخصص طبي مستقل بذاته، فهي ليست مكاناً بقدر ما هي مجموعة من الإجراءات والقواعد والمبادئ الأخلاقية للعناية بالمريض".
قواعد كوشينغ وتطور إيبسن
قواعد كوشينغ حول التعقيم والمراقبة الحثيثة للمريض أسهمت في تطوير غرف العمليات الجراحية، ومنها أجريت تحسينات على غرف العناية الفائقة، ولكن بسبب وباء شلل الأطفال الذي انتشر في النصف الأول من القرن الـ 20، وكان يصيب عشرات الآلاف من الأطفال حول العالم، وكانت أعداد الحالات تزداد في فصل الصيف، وتكون أعراضه في البداية شبيهة بأعراض الإنفلونزا، وفي بعض الحالات، يغزو الفيروس الجهاز العصبي ويصيب المرضى بالشلل وتتوقف عضلاتهم التنفسية، جاء دور الطبيب الدنماركي بيورن إيبسن.
ففي عام 1952، اكتظ مستشفى بليغدام في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن بمئات المصابين الذين كانوا في حالة صحية متدهورة ويحتاجون إلى دعم تنفسي عاجل، ولم يكن ثمة علاج آنذاك سوى أجهزة التنفس المكيانيكي، المعروفة باسم "الرئة الحديدية"، إذ يوضع المرضى داخل هذا الجهاز، ويُضخّ الهواء لتوليد ضغط سالب داخل أسطوانته لإجبار الرئتين على التمدد فسحب الهواء، وكان هناك جهاز تنفس صناعي آخر أشبه بدرع السلحفاة، يثبّت على صدر المريض للمساعدة في تمدّد الرئتين وانكماشهما.
وبسبب قلة عدد الأجهزة مقابل عدد المرضى الكبير، اقترح طبيب التخدير بيورن إيبسن إدخال الهواء إلى الرئتين مباشرة عبر أنبوب، لكن إجراء هذه العملية عبر الفم إلى القصبة الهوائية كان مؤلماً وقد لا يتحمّله المرضى لفترات طويلة، لهذا اقترح إيبسن استخدام تقنية حديثة نسبياً آنذاك لإدخال الأنبوب عبر فتحة صغيرة في الرقبة، أسفل الحنجرة إلى الرئتين مباشرة.
وكان هذا الأنبوب متصلاً بكيس مطاطي يضغط عليه الطبيب يدوياً لضخّ الهواء، وأسهم حينذاك مئات الأطباء وطلاب الطب وطب الأسنان في ضخ الهواء يدوياً عبر الأكياس إلى رئات المرضى ومراقبتهم، فأنقذت هذه الطريقة التي ابتكرها إيبسن عشرات الأرواح وأقامت المستشفى بعدها أول غرفة عناية مركزة في العالم وخصصت لها جناحاً وفريق تمريض.
وتبنّت مستشفيات عدة حول العالم طريقة إيبسن، التي مثّلت جنباً إلى جنب مع الإجراءات التي وضعها كوشينغ للعناية بالمرضى بعد العمليات الجراحية، نواة لوحدات متخصصة في تقديم العناية المركزة في أكبر المستشفيات.
تصميم غرف العناية المركزة
في العموم، هناك اتجاه عام بأن تساوي مساحة سرير المريض مترين مربعين، وأن تكون هناك مساحة مساوية تقريباً كفسحة كافية للأطباء والممرضين، وعادة ما تكون أجنحة وحدة العناية المركزة مزوّدة بطاقم من الاستشاريين وأطباء التخدير.
وبشكل عام، يكون عدد الممرضين إلى المرضى بنسبة ممرض لكل مريض، بينما ترتفع إلى ممرضين اثنين لمريض حالته غير مستقرة.
ومع تطور الطب، زادت الحاجة إلى وحدات عناية مركزة متخصصة سواء لاعتلال معين أو فئة عمرية محددة، ومن أنواعها، وحدات عناية مركزة لحديثي الولادة، ووحدات عناية مركزة للأطفال، ووحدات عناية مركزة للقلب، ووحدات عناية مركزة للجراحة ووحدات عناية مركزة للحروق.
واليوم، بسبب كورونا، انتشرت حول العالم غرف مخصصة للمصابين بالوباء من بين أكثر المتضررين، أي أولئك الذين يعانون من التهاب في الرئتين أو قصور في التنفّس، وتُفصل هذه الغرف عن باقي أقسام المستشفى كي لا تنتقل العدوى بين المرضى. ومنذ عام، باتت هذه الغرف حاجة ضرورية لكل مستشفى، خصوصاً في البلدان التي عمّتها الجائحة بشكل خرج عن السيطرة، وما زال بعض الدول الموبوءة يعاني حتى اليوم من عدم القدرة على استقبال عدد المرضى المتزايد.