بالأمس القريب، ظهر طفل يدعى متعب، في الثالثة عشرة من عمره، يطالب بحقوق المتأتئين وسط تنازع الحروف وسط حلقة، وهناك عشرات الألوف من نسخة متعب على مستوى العالم يستغيثون وسط جدران العزلة.
ومع فارق الاختلاف إلى ما آلت إليه التجربة التي نالت صدى عربياً واسعاً، فإن التجارب الأخرى تضم صوتها إلى مطالب متعب بحقوق المتأتئين، بحسب تجارب وقصص كثيرة سردها أصحابها لـ"اندبندنت عربية".
المتأتئ بين نارين
يقول علي الدوسري، مؤسس نادي إرادة، "المتلعثم أو المتأتئ بين نارين، فلا هو مصنف ضمن ذوي الإعاقة لتصرف له مكافأة إعاقة، ولا يُعامل بوعي من قِبل الجهات التي ينضم إليها في محيطه المجتمعي".
وكل شيء يبدأ من الأسرة والمحيط المجتمعي، وإذا جاء الكلام عن حقوقه، أبسطها المساحة في التعبير عن نفسه من دون مقاطعته، وهو ما يتحتم على المدرسة بذل جهد مضاعف فيه، لتسليط الضوء على الطلاب المصابين واستيعابهم، ومنحهم التقدير، وتوعية الآخرين لكيفية التعامل معهم، تفادياً لتجارب كارثية شهدتها المدارس، وتسببت في ترك بعضهم مقاعدهم من دون رجعة، كما يقول الدوسري.
الجهل العدو الأول
أوقفه مدرس مادة القرآن أمام 44 طالباً يضحكون ساخرين على سوء مخارج حروفه أثناء القراءة، لكنه لم يكن الموقف الوحيد، بل كان واحداً من بين سلسلة مواجع كادت تكسره، وربما فعلت، قال أحدهم في روايته لبداية تكون اضطراب التأتأة لديه على مقصلة الجهل بطريقة التعامل معه.
ويكمل، "هذه الحال استمرت معي منذ الصف الثاني الابتدائي حتى الصف السادس، أربعة وأربعون طالباً ينظرون لي باستهزاء سنوات متتابعة، وبعضهم ما زلت أعرفه، حينها كانت الشكوى للأهل بمثابة شوكة وسط البلعوم، انعدمت ثقتي سنوات طويلة، حتى وصلت إلى المرحلة التي قررت من خلالها أن أعيش سعيداً، رافضاً أن يمسك أحد زر التحكم بنفسيتي".
وآخر يقول "إذا ما قابلت مصاباً باضطراب التأتأة فعليك تحفيزه على الحديث، بل وشجعه كلامياً، وللأسرة دور بالغ في تحسن صحته ونفسيته، بعض العائلات كانت صاحبة دور رئيس في انهيار ثقة المصاب بنفسه، وذلك سبب في ضعف شخصيته، فحين يصرخ الأب على ابنه ليرفع صوته، يكون غير مدرك تأثير ذلك".
وأضاف مؤسس نادي إرادة "ابن لأحد أصدقائي مصاب بهذا الاضطراب، ذات مرة سخر منه أحد أساتذته في المدرسة لعدم قدرته على الكلام، لم أستغرب ذلك، تفهمت ضيق وعي البعض بسبب تجربة خضتها على مستوى شخصي على مدار ثلاثين عاماً، طلبت منه زيارة للمدرسة، وتحدث مع المرشد الطلابي، حاملاً بحوزته مطبوعات تثقيفية"، لكن الأزمة التي تبدأ في الدراسة لا تنتهي بها، إذ تبدأ معركة أخرى يخوضها المتلعثم بعد تخرجه في معاناة الحصول على الوظيفة التي تجده مستبعداً عنها رغم مهارته.
وبيّن أن "نادي إرادة ساعد قرابة 900 حالة، وكرس جهده من خلال البرامج المتنوعة والأخصائيين لعلاجهم، علماً أن وسائل العلاج في أميركا لا تختلف عن السعودية، وتجربتي من خلال نادي إرادة هدفها اختصار المسافة على الآخرين، لكي لا يمروا بما عشته".
الأسرة أولاً
أحد المتلعثمين يقول "من المدرسة بدأت القصة، حين تعامل معي أحد زملائي بالتنمر، حينها كانت ردة فعلي قاسية، كانت المرة الأولى والأخيرة التي أتشاجر فيها مع أحد ما، أخذنا المعلم إلى المدير الذي لم يعرف سبب الشجار، وكنت أول من تحدث، إلا أن ردة فعل المدير كانت صادمة، حين كرر ما كنت أقوله بطريقة بشعة".
إلا أن الأسرة في هذه الحالة لعبت دوراً بالغ الأهمية في احتوائه "كان لأسرتي بالغ الدور في حالتي، حين لاحظ والدي ما أمر به من صعوبة في النطق، تعامل معي بذكاء، وعليه عُينت وزيراً للمالية ضمن محيطي الأسري، وكان يحمّلني مسؤولية أسرية نظير مبلغ معين، تلك الثقة منحتني مثلها، ثم توسعت المسؤوليات الممنوحة لي ما ساعدني على اكتساب الثقة في نفسي".
ويعتقد الدوسري أن قضية متعب التي ظهرت للوسط الإعلامي ضمن تعاطف مجتمعي كبير، كانت ضمن حالات أخرى كثيرة في قائمة انتظار العلاج، متسائلاً "لدينا أبناء مصابون بهذا الاضطراب، لماذا لم يفعلوا كما فعل متعب؟".
وتبدو الإجابة المتوقعة هي الأسرة "العائلة نجحت في احتواء الأول، فهي والمجتمع محور القضية دائماً، لكن ظهور متعب للملأ يعني أنه في حالة تقبل لحالته، وهو بمثابة اعتراف أنه أمام الأمر الواقع، والأكيد أنه سلم الأمر وظهر رامياً مخاوفه خلف ظهره، ولم يعد للخوف المسيطر عليه تأثير على حياته، سوى أنه يرغب في الحياة الطبيعية، ونستطيع في نادي إرادة مساعدته في إيجاد إخصائي تخاطب جيد في مدينته إذا حدث تواصل بيننا، كما يمكننا ربطه بتجارب الآخرين ومجموعات الدعم ضمن الدورات والبرامج المتوفرة عن بعد"، ذلك لأن العلاج يعتمد على جهده بقدر كبير.
ويتولى المركز توجيه المصابين إلى المهارات وعليه تطبيقها "النادي الذي أسس كوقف يتولى مهمة التوجيه، ونعمل حالياً على إطلاق تطبيق علاجي عن بعد، يستفيد منه جميع المصابين، وينضمون إلى البرامج من غرفهم الخاصة من دون تكبد مشقة الحضور".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ما اسمك؟ السؤال الأصعب
هل الإجابة عن الاسم أمر بسيط، يجيب مؤسس نادي إرادة "كلا بالمرة، وحين نتجاوز شق المدرسة، سنرمي الكرة في ملعب المجتمع. إن استيعاب الإدارة المدرسية أمر في غاية الأهمية، فأول مواجهة تحدث بين المصاب والعالم الخارجي هو السؤال عن الاسم.
وبحسب ما أشارت إليه الجمعية الأميركية العالمية للتأتأة، فهي من أصعب المراحل التي يمر بها المصاب، ذلك لأن هذا السؤال غالباً ما يُسأل من غريب لا يعرفه، فضلاً عن ذلك، لا يمكن للشخص تغيير الإجابة، أحياناً تقف إجابته وسط بلعومه كما الغصة، ما يشعره بالخوف من تقليل مكانته إذا أجاب متلعثماً".
شعرة بين الانتحار والإرادة
يؤكد مؤسس النادي المتخصص في التأتأة، الذي يستعد لتقديم ورقة علمية بالتعاون مع المركز الوطني للصحة النفسية أن "بعض حالات النجاح قادت عشرات الأمثلة للظهور على القنوات التلفزيونية، من ضمنهم من أصبحوا قادة على أشخاص عاديين، ومنهم من فازوا بجوائز، إلا أن ذلك لا يلغي الحال التي يمر فيها البعض من اكتئاب، وحزن لا يوصف، وبعضها الرغبة في الانتحار، والمستفز في بعض القصص هو عدم رغبة الأبوين بعلاج ابنهما خوفاً من نظرة المجتمع".
وأضاف "بعضهم مر بتجربة تناول الحبوب المهدئة التي تصرف من أطباء يستغلون المرضى للحصول على المال، علماً أن التأتأة لا تعالج بالعقاقير".
الإهمال في العلاج
أحدهم بعث لنا برسالة صوتية يقول فيها "تعمدت إيصال صوتي، الخطوة التي لم أكن أخطوها في السابق، قصتي مع التأتأة جاءت في عمر الثامنة بلا مقدمات، وكانت سبباً في عزلتي، وأعترف بإهمالي في جدية العلاج، لم آخذ علاج الاختصاصيين على محمل الجد".
وواصل، "في المرحلة الجامعية قررت العلاج، أعطاني الإخصائيون تمارين وخططاً للعلاج، من ضمنها مد الكلمة، وقراءة ساعة يومياً على الأقل، جاهدت حتى وصلت إلى التمكن في السيطرة، وتحسنت حالتي قرابة 80 في المئة، إلا أني ما زلت أواجه صعوبة في نطق بعض الحروف مثل القاف والصاد والتاء".
ورقة وقلم
ويقول آخر "تجنبت المجتمع، وكانت وسيلتي في التخاطب هي الورقة والقلم، لحجم التنمر الذي عانيته، وقتها لم أزر أي أخصائي تخاطب، وبعد المرحلة الجامعية، قررت البحث عن سبل العلاج، والشجاعة في مواجهة ما يعترضني، ومن خلال موقع "تويتر" لفتني نادي إرادة، وجدت ردة فعل إيجابية، وانضممت إليهم في اليوم التالي، كما كان لتوجيهات أخصائيي النطق والتخاطب دور ملموس".
وتابع، "بدأت تطوير ثقتي، ثم بحثت عن نادي الخطاب "توستماسترز"، وكانت أول خطبي في النادي تحت عنوان (كسر الجمود)، ومن بعدها صار المسرح صديقاً لي، ونصف علاج التلعثم هو المواجهة، وما زال لدي كثير من الأهداف التي أسعى إلى تحقيقها".
واليوم، بات كاتباً صحافياً، وعضواً في نادي الخطابة، ومصمماً، ومؤسس حملة على منصات التواصل الاجتماعي لدعم مجموعات المتأتئين.