Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ماكس رينهارت الرجل الذي أعاد اختراع الإخراج المسرحي

عمل المخرج وحده يحول "تاجر يونكرز" إلى "هالو دوللي"

ماكس رينهارت خلال التدريبات على إحدى مسرحياته عام 1935 (غيتي)

إذا كانت حكاية المغناة المسرحية الشهيرة "هالو دوللي"، التي تواصل عرضها في برودواي منذ بدئه في عام 1964 لتتحول لاحقاً إلى فيلم شهير كما إلى أغنية تفوقه شهرة من أداء لويس آرمسترونغ بالعنوان نفسه، تذكّر بشيء فإنما تذكّر بتلك الحكاية المتعلقة بالتلحين الموسيقي. تقول الحكاية، إن رفاقاً لواحد من كبار الموسيقيين الأوروبيين استنكروا مرة إقدام زميلهم هذا على تلحين نص شعري يرونه ركيكاً، فقال لهم مبتسماً "هاتوا لي دليل الهاتف الهولندي، وأنا كفيل بتلحينه بشكل يحظى بإعجابكم". أما وجه الشبه بين الحالين، فهو ما عبر عنه المخرج المسرحي النمساوي الشهير ماكس رينهارت يوماً حين بدأ يعمل في المسارح الأميركية وعُرض عليه عمل رأى رفاقه أنه لا يليق بتاريخه المسرحي الكبير، فقال لهم مبتسماً "سأقوم بإخراج هذا العمل لأريكم كيف سينهض به الإخراج إلى أعلى".

عرض مسرحي رائع

من الناحية الفنية سيتبدى رينهارت على حق لأن النص الذي اعتبر ركيكاً تحول بين يديه إلى عرض مسرحي رائع. ومهما يكن فإن النص كان من كتابة ثورنتون وايلدر الكاتب المسرحي الأميركي الكبير صاحب التحفة "بلدتنا". لكن ذلك العرض الذي قدم يومها على خشبة فرقة غيلد المسرحية بعنوان "تاجر اليونكرز" لم يحقق نجاحاً بل لم يصمد سوى 39 عرضاً. ولكنه لاحقاً تحت اسم "هالو دوللي" صمد لنحو 2850 عرضاً متتالياً. بيد أن حكايتنا ليست هنا.

حكايتنا هي حكاية عولمة فن المسرح التي كان رينهارت من أساطينها. وهنا، حتى وإن كان العرض، قبل أن يصبح أميركياً خالصاً قد استعيد مع رينهارت في برودواي في محاولة من هذا الأخير لأمركته، فإنه كان في الأصل نصاً إنجليزياً أتى عام 1835 عبارة عن مسرحية فصل واحد عنوانها "يوم مضى بشكل جيد". لكن الكاتب النمساوي يوهان سنتروي حول تلك المسرحية القصيرة وبالعنوان نفسه إلى مسرحية من ثلاثة فصول تدور أحداثها في فيينا. ثم بعد اشتغال رينهارت عليها عام 1938 كما أشرنا، طلب مهرجان أدمبورغ الاسكتلندي من ثورنتون وايلدر أن يعدل فيها ليجعلها اسكتلندية تقدّم في المهرجان. ولسوف يقول وايلدر لاحقاً، إنه في الحقيقة لم يجرِ فيها أي تعديلات جوهرية غير تبديل بسيط في أسماء الأماكن معترفاً بأنه تعلم من رينهارت أن الإخراج وحده كفيل بإحداث أعمق التغييرات، وبأنه أسهم في الإخراج الاسكتلندي بنفسه مستذكراً جهود رينهارت وتعليماته.

تحويل العادي إلى تحفة

مهما يكن من أمر، فلا بد أن ينبهنا هذا الكلام إلى أن العرض الذي قدمه وايلدر في المهرجان المذكور باسم "وسيطة الزواج" أو "الخاطبة"، هو واحد من تلك الأعمال الفنية التي تتضاعف قيمتها مرات عديدة، إن اشتغل عليها فنان حقيقي يعرف كيف يحول أي موضوع إلى تحفة. وهذه المسرحية التي من المؤكد أنها تدين بالكثير إلى رينهارت بما في ذلك تحولها لاحقاً إلى ذلك العرض والفيلم والأغنية المرتبطين به، تحمل إضافة إلى ذلك، البعد العولمي الذي كان رينهارت يؤمن بأن المسرح إنما خُلق لنشره. ونعرف أن رينهارت استشهد على فكرته بالكيفية التي نقدم بها المسرح اليوناني اليوم وبالكيفية التي يستحوذ فيها العالم كله على شكسبير وغيره. وهي الطريقة نفسها التي مكنت مسرحية ذات موضوع بسيط عن دوللي التي تعمل وسيطة زواج لكنها إذ تسعى هذه المرة للاستحواذ لنفسها على أحدث زبائنها هوراس فاندرغيلدر التاجر النيويوركي المعتبر الذي كان كلفها بإيجاد عروس له، فكانت هي العروس وسط أحداث هزلية ومواقف معقدة، مكنتها من التحول إلى عمل استعراضي كبير.

بداية لندنية في نص "عربي"

والحال، إن هذا كان دأب رينهارت الذي كانت انطلاقته العالمية الأولى خارج بلده النمسا من لندن في مسرحية قال، إنه اقتبسها عن الليالي العربية، لكن المهم هنا ليس النص، بل إن الإخراج كان من الضخامة والحيوية بحيث أدى إلى ولادة انعطافة جديدة في تاريخ الإخراج المسرحي وفي لندن على الأقل. ونعرف أن المخرج  نمساوي، سبق له أن اختبر أساليبه الجديدة في فيينا كما في مناطق عدة من العالم الجرماني، وذلك انطلاقاً من 1903، أي العام الذي قرر فيه أن يتوقف عن التمثيل المسرحي ليتحول إلى الإخراج فيحدث في هذا العالم ثورة ما بعدها ثورة.

ونعرف أن رينهارت اشتهر على نطاق واسع في طول أوروبا وعرضها في ذلك الحين كرجل من كبار رجالات المسرح، أما السنوات العشر الأخيرة من حياته قبل وفاته عام 1943، فقد قضاها في الولايات المتحدة إثر فراره من النازية، مثل غيره من كبار مبدعي أوروبا في ذلك الحين، في 1933. والحال أن أميركا عرفت كيف تحول ذلك الذي اعتبر أعظم مخرج مسرحي في عصره، إلى رجل سينما أيضاً، لكن هذه قصة أخرى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عناصر الفرجة

عندما وصل رينهارت إلى لندن باستعراضه الأول خارج وطنه كان في الثامنة والثلاثين من عمره، وكانت شهرته قد سبقته بوصفه الفنان الذي افتتح للمسرح عصراً جديداً، يحل الإخراج الاستعراضي فيه مكان الحبكة والموضوع كعنصر مسرحي له المكانة الأولى، وهذا ما جعله يمعن في استخدام الأدوات التقنية والديكور والإضاءة، ويتفنن في تحريك الجموع المسرحية كنقيض لسيطرة النجوم الممثلين على اللعبة، كما سعى إلى إيجاد أفضل السبل لدمج العناصر الغنائية والموسيقية في صلب العمل من دون أن يقوده ذلك إلى الاكتفاء بتقديم العمل الأوبرالي. ومن ناحية أخرى كان في طليعة المخرجين الذين استعادوا في المسرح الأوروبي الحديث، أسلوب المسرح اليوناني القائم على جعل الخشبة المسرحية، حلبة تتوسط قاعة العرض يحيط بها الجمهور من كل مكان (باستثناء الخلفية المكرسة للديكور) بحيث يشعر الجمهور بتورطه واندماجه في العمل. أما الحركة المسرحية الدرامية نفسها، فكان غالباً ما يستعيض عنها بديكورات استعراضية ضخمة ذات رسوم أفقية وعمودية تتنوع بتنوع الفعل الدرامي المسرحي نفسه.

كان ما جاء به رينهارت وطوره في ذلك الحين يشكل ثورة مسرحية حقيقية، خصوصاً وأن مسرحياته الاستعراضية كانت غالباً ما تتطلب قاعات فسيحة وبالتالي جماهير غفيرة من المتفرجين. ومن هنا كان يقدم بعض تلك الاستعراضات في قاعات السيرك، ولا يفوته للمناسبة أن يدمج ألعاب السيرك في الفعل المسرحي نفسه. وهذا ما كان يقتضيه، بالطبع، اختيار نصوص ضخمة مبررة لضخامة العروض. فكان اختياره "أوديب الملك" و"ألف ليلة وليلة" ومسرحية "المعجزة" ثم "حلم ليلة صيف" و"ماكبث" و"يوليوس قيصر" لشكسبير و"آغاممنون" لاسخيلوس التي قدمها في نيويورك فاكتشفه العالم الجديد من خلالها ليكتشف بالتالي انفتاح آفاق مسرحية واسعة أمامه.

هارب من هتلر

هذا الاكتشاف الأول للعالم الجديد، حققه ذاك الذي كان قد ولد عام 1873 في بادن بالقرب من فيينا، سيتلوه اكتشاف ثان حين هجرته إلى أميركا هرباً من النازية، وسيشمل الاكتشاف هذه المرة، اكتشاف فن السينما، حيث نرى هوليوود وقد اجتذبته في 1935، ليساهم في تحقيق فيلم مقتبس عن "حلم ليلة صيف" لشكسبير. وكان العمل من النجاح بحيث إن العروض انهالت على رينهارت لتكرار التجربة، لكنه تباطأ في الاستجابة لأنه لم يتمكن أبداً من أن ينظر إلى تجربة السينما نظرة جدية هو الذي كان يؤمن بالعلاقة الوثيقة بين حضور الجمهور وحضور العمل جسدياً. لذلك اكتفى بأن يرعى، في الولايات المتحدة نجاحات وأعمال سينمائيين كانوا في الأصل من المهاجرين الألمان الذين تربوا على يديه ومروا عبر "مسرحه الألماني" قبل أن تجتذبهم الولايات المتحدة والسينما ومن بينهم، بول ليني ومورناو وإرنست لوبيتش وكونراد فيدت. ومن ناحية أخرى لئن كان ماكس رينهارت قد استنكف عن تقديم جزء من حياته ونشاطه للسينما، فإنه قدم لها ابنه المخرج غوتفريد رينهارت الذي كتب العديد من السيناريوهات للسينما الهوليوودية، كما أخرج بعض الأفلام الناجحة وأهمها "مدينة من دون رحمة" (1961) الذي لم يكف عن القول بأنه مدين لأبيه بالفضل في تحقيقه على تلك الشاكلة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة