Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سيرة إنريكو كاروزو في شريطين أغضبا عائلته فسحبا من التداول

أعظم تينور في تاريخ الغناء كان صاخبا في حياته و"أميركيا" في حساباته

إنريكو كاروزو مع مغنية الأوبرا الأميركية جيرالدين فارارا في مشهد من أوبرا "جوليان" عام 1914 (غيتي)

حدث ذلك في بداية خمسينيات القرن العشرين، وكان مغني الأوبرا العالمي الشهير إنريكو كاروزو قد رحل عن عالمنا منذ ثلاثة عقود، وبالتالي كان صانعو الفن السابع قد اكتشفوا أن فنهم لم يف بذاك الذي كان ولا يزال يعتبر المغني الأوبرالي الأكثر شهرة في التاريخ، حقه. أي أن الشاشة الكبيرة التي كانت قد بدأت تصوّر سيرا لكثر من الفنانين والسياسيين والشخصيات التاريخية الأخرى لم تقترب بشكل منطقي من سيرته لتقدم ولو فيلماً واحداً عن تلك السيرة. وهكذا شهد عام 1951 إنتاج فيلمين وليس فيلم واحد فقط يتنطح لرواية فصول من حياة ذاك الذي سوف يعتبره بافاروتي وغيره من كبار أوبراليي نهاية القرن العشرين سلفهم الكبير.

من إيطاليا إلى هوليوود

واللافت في الأمر أن واحداً من الفيلمين قد حقق في إيطاليا، بينما حقق الفيلم الثاني في هوليوود من دون أن يكون هناك أي اتفاق مسبق بين صانعي الفيلمين، بل حتى من دون أن يكون ثمة أي تنافس بينهما. بل يمكننا أن نقول، إنه كان ثمة تكامل بينهما غير مقصود يمكن لعنواني الفيلمين أن يعبرا عنه: فالأول الإيطالي، كان عنوانه "كاروزو شاباً"، بينما كان عنوان الثاني الهوليوودي، "كاروزو ناضجاً". أما بالنسبة إلى ما يمكن اعتباره قواسم مشتركة بين العملين، فهناك أولاً بالطبع كونهما يحكيان عن الشخصية نفسها، ثم كونهما استعانا وكل منهما على طريقته بمغنيّ أوبرا حقيقيين لتأدية دور كاروزو وأدوار الشخصيات التي كانت محيطة به في حياته، علماً أن الفيلم الهوليوودي أسند الدور إلى ماريو لانزا الذي كان يعتبر تلميذ كاروزو وخليفته وكانت شهرته في العالم في ذلك الحين لا تقل عن شهرة كاروزو قبل ذلك بجيل.

غير أن الأهم من ذلك كله، قاسم مشترك آخر لم يكن على مثل تلك السعادة: فالفيلمان معاً، وفي الوقت نفسه رُفضا تماماً من قبل أهل كاروزو وأصدقائه. ولكن لئن كان الفيلم الإيطالي قد عرف كيف يمر ويعرض ولو إلى حين، فإن مصير الفيلم الهوليوودي كان أسوأ إذ وصل إلى القضاء الأميركي الذي كان يعرف بصرامة أكبر في ذلك المجال مما أدى إلى منعه من العرض تماماً لا في أميركا ولا خارجها. والحقيقة أن القضاء كان محقاً في قراره النهائي، إذ إن الفيلم أتى مليئاً بالمغالطات التاريخية والفنية مركزاً على غراميات، معظمها متخيّل أو يستند إلى الشائعات أكثر كثيراً من استناده إلى الحقائق التاريخية. باختصار ربما كان الفيلم قد أتى حاملاً من "الخبريات" ما من شأنه أن يرضي أسلاف أصحاب وسائل التواصل الاجتماعي في أيامنا هذه، لكنه يعجز عن تقديم صورة فنية حقيقية لواحد من كبار فناني الأزمنة كلها. وبالتالي اختفى ذلك الفيلم تماماً ما أنقذ سمعة إنريكو كاروزو وحافظ على تراثه الفني في منأى عن المسيئين إليه. ولنعد هنا إلى تذكر هذا الفنان.

المغني الأكثر شعبية

فإذا كانت مغنية الأوبرا اليونانية الشهيرة ماريا كالاس قد عرفت طوال النصف الثاني من القرن العشرين بوصفها صاحبة أجمل صوت في عالم الغناء الأوبرالي، ولكن أيضاً بصفتها واحدة من أوائل مغني الأوبرا الذين كانت حياتهم في عالم العيش الطبيعي خارج المسرح والغناء، تطغى على شهرة حياتهم فوق الخشبة، فإن المعادل الرجالي لماريا كالاس، كان بالتأكيد إنريكو كاروزو، الذي كان خلال الربع الأول من القرن العشرين، واحداً من أوائل مغني الأوبرا الذين أخرجوا ذلك الفن العريق الأنيق والمتكتم حول عوالمه بعض الشيء، من حلقات المسارح والمعجبين، إلى عالم الحياة اليومية.

قد يكون مثل هذا الأمر شأناً عادياً في أيامنا هذه مع الفورة التي يعرفها الإعلام على الصعيد العالمي. ومع انتشار التلفزة التي أضفت، حتى على فن الأوبرا، طابعاً ديمقراطياً لا بأس به، وقد يكون شأناً عادياً بالتالي أن يعرف الناس العاديون أسماء وأشكال بافاروتي ورايموندي وسواهما من أصحاب الأسماء الأوبرالية الجميلة، ولكن حين طبقت شهرة إنريكو كاروزو الآفاق عند ذروة نجاحه، كان الأمر مستغرباً. ولكن لا بأس من القول هنا، بأن شهرة كاروزو قد تكون نبعت من خارج إطار عوالمه الفنية لترتكز إلى الأساطير التي حيكت من حوله، وإلى حياته الصاخبة نفسها، وربما أيضاً بسبب كونه واحداً من أوائل فناني الأوبرا الإيطاليين- والأوروبيين عموماً- الذين كانوا من الحذاقة بحيث يتجهون إلى العالم الجديد لتقديم غنائهم أمام مستمعين خام مستعدين لإعطاء الشهرة والمال لكل من يطربهم فنياً ويعيدهم إلى رقي الفنون الأوروبية القديمة. ومن هنا القول، إن كاروزو يدين بشهرته إلى العالم الجديد بقدر ما يدين بتفوقه الفني إلى العالم الأوروبي القديم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قصر الأحلام قرب فلورنسا

وفي جميع الأحوال، لا بأس من الإشارة إلى أن موت كاروزو وهو بعد شاب، قد أسهم كثيراً في الصورة الأسطورية التي رسمت له في زمننا. ومن المعروف أن كاروزو قد رحل عن عالمنا يوم الثاني من أغسطس (آب) 1921 في مدينة نابولي الإيطالية، بعد أن عانى طويلاً من مرض قاتل أصابه وهو بعد في عز شبابه ونشاطه. ويوم رحل كاروزو بكاه كثيرون ممن كانوا يعتبرونه "أشهر وأعظم تينور عرفه هذا الزمن".

ولعل من خصائص كاروزو التي ركزت عليها الصحافة كثيراً لدى وفاته أنه كان أول مغني أوبرا جمع الموهبة والشهرة والثروة الطائلة في وقت معاً. وهذا ما مكنه خلال سنوات حياته الأخيرة من أن يحقق حلماً كان أثيراً لديه منذ صباه، وهو حلم اقتناء قصر كبير بالقرب من مدينة فلورنسا، حيث إنه اقتنى ذلك القصر الفاخر، بالفعل، وأمضى فيه الجزء الأخير من حياته.

وكاروزو إضافة إلى معرفته الهائلة بالموسيقى وصوته الرخيم، كان صاحب موهبة في الرسم أيضاً، حيث كان لا يكف عن رسم اللوحات كلما قيض له ذلك. وكان يقيم المعارض حيث يتدافع الهواة لشراء لوحاته، أولاً لأنها لوحات جميلة، وبعد ذلك فقط لأن رسامها شخص مشهور. لكن رسم كاروزو لم يكن، بأي حال من الأحوال، يرقى إلى قوة تقنيته الغنائية، حيث عرف عنه أنه إلى جانب جمال صوته وندرته، كان مسيطراً كل السيطرة على تقنيات الغناء ناهيك عن معارفه الموسيقية الواسعة. وكان يقال إن مخزونه من الأعمال الفنية الغنائية لم يكن ليقل عن 67 دوراً أوبرالياً، يبلغ مجموع أغانيها أكثر من خمسمئة أغنية، قيل إنه كان يحفظها كلها عن ظهر قلب، بحيث يكفيه أن يستمع إلى أول نوتة أو نوتتين في أي أغنية حتى ينطلق في أدائها من دون أن يكون قد تمرن على ذلك.

ابن ميكانيكي

ومع هذا كله، فإن كاروزو لم ينشأ في أحضان أسرة فنية، بل إن أباه كان ميكانيكياً يعمل في نابولي. أما الفتى، فإنه أغرم بالغناء الشعبي باكراً، ثم راح يدرس الغناء، حتى أصبح واحداً من أشهر المغنين المحليين. وفي عام 1902 قصد لندن حيث قام بأدوار أوبرالية غنائية حققت له شهرة عاد وعززها في العالم التالي حين زار نيويورك وغنى فيها، ومنذ ذلك الحين ارتسمت علاقة حب وعمل بين المغني والمدينة، حيث من المعروف أنه قدم خير أعماله وأدواره ضمن إطار برامج "أوبرا متروبوليتان"... وهذا ما جعل كثيرين يعتقدونه أميركياً. ومهما يكن فإن كاروزو نفسه تأثر كثيراً خلال مرحلة من مراحله بنمط العيش الأميركي، وبالعقلية الحسابية الأميركية، ويدل على هذا ما قاله يوماً حين أراد أن يلخص سر نجاحه فقال: "كثير من النفس، كثير من الصوت، 90 في المئة من الذاكرة، وعشرة في المئة من الذكاء، إضافة إلى كم هائل من العمل الصعب. وبعض شيء صغير آت مباشرة من القلب".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة