Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الاستمرارية والتغير في السياسة الأميركية

بايدن هو التعبير النموذجي عن مؤسساتية الولايات المتحدة لكن قراراته ستصطدم بعقبات تشريعية

الثبات النسبي في السياسة الخارجية لواشنطن يعود إلى تقاليد مؤسسات صنع القرار الأميركي (أ ف ب)

اعتاد كثيرون في الماضي النظر إلى السياسة الخارجية الأميركية بوصفها ذات "طبيعة مؤسسية" تتسم بدرجة عالية من الاستمرارية. وكان كثير من العرب يميلون إلى ذلك بشكل خاص؛ بسبب الموقف الأميركي المنحاز إلى إسرائيل لدى كل الإدارات الديمقراطية والجمهورية على السواء، وقد عزوا هذه الاستمرارية إلى قوة اللوبي اليهودي بالولايات المتحدة، وثبات تأثير المؤسسات الأميركية.

ولا تقتصر هذه الرؤية على العالم العربي، فقد كانت هناك ملفات أخرى تتسم بدرجة عالية من الثبات النسبي، على رأسها الموقف من كوبا مثلاً قبل إدارة أوباما، وكذلك السياسات الخاصة بتعزيز أسس التحالف الأطلنطي، وغيرها كثير. وفي جميع الأحوال كان التفسير دوماً هو أن الثبات النسبي في السياسة الخارجية الأميركية يعود إلى "تقاليد مؤسسات صنع القرار الأميركي"، وأن من كان يحكم أغلب الوقت بعد الحرب العالمية الثانية في الحزبين الكبيرين كان "كتلة الوسط" في كل منهما، القريبة من الكتلة الوسطية الأخرى.

المؤسساتية في السياسة الأميركية

ناقشت في مقالي السابق أن هذا الأمر كان صحيحاً في الماضي إلى حد ما، وليس بشكل مطلق؛ وذلك أنه من التبسيط المخل النظرة المتماثلة للحزبين الكبيرين، ثم تعمق الاستقطاب في المجتمع الأميركي، خصوصاً مع اختمار التحولات العرقية والثقافية، وتطور كثير من مكونات الفكر السياسي الأميركي، ودون أن أعيد ما ذكرته سابقاً، بحيث أصبحنا الآن أمام مجتمع شديد الاستقطاب بين تيارين متناقضين، وتضاءلت الكتلة الوسطية، وأنه من المهم بدء استشراف التغيرات، وكيف ستنعكس على منطقتنا العربية وفي أي اتجاه.

على أن نقطة البدء هي أن الرئيس المنتخب بايدن هو التعبير النموذجي عن المؤسساتية في السياسة الأميركية، وأنه طوال وجوده في هذه السياسة نائباً برلمانياً ونائباً للرئيس، وما هو معروف عنه، يرشحه لكي يكون أيضاً التعبير عن الكتلة الوسطية والتوازن قدر الممكن في المجتمع الأميركي، وهو توازن بقدر ما يمكنه، فإنه سيكون عليه أيضاً الاستجابة في بعض المسائل أيضاً للكتلة اليسارية التي لعبت دوراً كبيراً في وصوله إلى البيت الأبيض، ومعه نائبة من الأقليات أقرب إلى هذه التيارات التي جاءت بها أيضاً بشكل أو آخر.

تقاربات وتفاهمات

في الواقع، إن هذه الخلفية لبايدن يجب أن تكون الإطار الرئيس لتحليل الحقبة الجديدة، ومعنى هذا أن الآليات التقليدية لدور مؤسسات صنع القرار في واشنطن ستعود إلى حيويتها من جديد. وغالبية السياسات والتوجهات القادمة متوقعة، وبناءً على وحي البرنامج الانتخابي للرئيس بايدن نفسه، يوجد كثير من التوقعات، على رأسها إعادة التماسك لحلف الأطلنطي وللشراكة التقليدية مع الاتحاد الأوروبي، ولفلسفة التشاور الأطلنطية ومحاولة الوصول إلى سياسات مشتركة قدر الممكن تجاه كثير من الملفات، كالعلاقة مع روسيا. كما أنه قد يحدث تقارب تدريجي وتفاهمات في كيفية التعاطي مع إيران، وملفات أخرى مثل كوريا الشمالية، كما سيستمر التنافس مع الصين، لكن بشكل حذر لا يهدد الاستقرار العالمي، ما لم يتصاعد حضورها الدولي بشكل أعلى من المعدلات الراهنة، وهو ما نحتاج إلى بعض الوقت لرصده، كما قد تنشط إلى حد ما بعض مفردات لغة حقوق الإنسان في هذه الإدارة، وإن كان الأرجح أنها ستحكمها اعتبارات العملية ودور المؤسسات.

وسيختفي الحديث عما سمي "صفقة القرن" بشكل تدريجي، ثم كامل، وقد يجري استئناف جديد لفكرة الدولتين، وإن كان هذا بحسب مدى تركز الضغوط العربية والفلسطينية، وقدرتها على خلق زخم جديد، لكن سيبقى السؤال الأكبر: ما الذي تملك الإدارة الجديدة عمله في هذا الملف الفلسطيني في ظل كثير من القيود؟

ويوجد التطور الإيجابي الكبير الخاص باستئناف الولايات المتحدة اتفاقية باريس للتغير المناخي، التي أعلن بايدن نيته العودة إليها فوراً بعد تسلمه الحكم، وتعيينه شخصية ذات خبرات سياسية خارجية واسعة، وهو وزير الخارجية الأسبق جون كيلي، الذي تولى هذه الوظيفة في سنوات أوباما الأخيرة مبعوثاً لشؤون التغير المناخي، وهو ما يعني أن بايدن لا يعيد الاعتبار فقط إلى هذه الاتفاقية، وإنما ينتقل ببلاده نقلة كبرى في تبنيها.

وفي تقديري، فإن هذا التطور من أهم الإيجابيات التي تأتي بها الإدارة الجديدة، وسيمثل نقلة جادة في الجهود الدولية لمواجهة هذا الخطر الكبير، الذي تأخرت الولايات المتحدة كثيراً حتى دعمته في عهد أوباما، ثم تولى ترمب إحداث أكبر نكسة في مسيرته، وأعاده إلى حالة السلبية وعدم الوضوح التي لو كانت قد تواصلت لأصبح الأمر أكثر خطورة على مستقبل البشرية، كما أن هذا البعد يمكن أن يوفر سياقاً لمحاولة بايدن استعادة دانب من الدور القيادي لبلاده، وهو ما سيتوقف على عوامل عدة، وتستحق تناولاً خاصاً مستقبلياً.

براغماتية العلاقات الخارجية

على صعيد السياسة الخارجية أيضاً، من المتوقع ما قد أثاره البعض من احتمالات حول علاقة بعض أشخاص الإدارة الجديدة بتيارات الإسلام السياسي، وفي الواقع إن هذا محتمل، لكن يجب التعامل معه من منطلق طبيعة الإدارة الجديدة تماماً من حيث المؤسسية، وتعدد مراكز صنع القرار، بحيث تصبح القنوات المفتوحة والمتعددة ضرورة في التواصل والتأثير على هذه الإدارة التي ستغلب البراغماتية والمصالح العملية، بشرط الإخراج المحترف في نهج التعامل معها من هذه التيارات، وممن سيتصدى لها كذلك.

وبطبيعة الحال، ستكون هناك تغيرات كبيرة في التأمين الصحي والسياسات الاجتماعية الخاصة بالبطالة، فضلاً عن الضرائب، وغيرها. والحقيقة، إن هذه التغيرات معتادة مع تغير الإدارات الديمقراطية والجمهورية بدرجات متباينة في حدتها من مرحلة سياسية إلى أخرى، ولا تشكل جديداً بهذا الصدد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن، ما هو جديد في الواقع أمران، أولهما مدى سهولة التغيير من عدمه، وهنا سنتذكر أن التغيير الذي مثله ترمب كان حاداً، لكنه وجد مقاومة طوال الوقت، خصوصاً في النصف الأول من ولايته، ونذكر هنا بعديد من مظاهر هذه المقاومة، ففي حالة الانسحاب من اتفاق التغير المناخي، كان هناك رفض واسع لدى الحزب الديمقراطي، وإدارات حكومية كثيرة، واضطر الرجل إلى تكليف لجنة حكومية موسعة من 3000 عالم أميركي حكومي، للإجابة عن السؤال المزمن: هل هو تغير مناخي أم دورات مناخية؟

وعندما جاء تقرير اللجنة بأنه تغير مناخي، وهو ما يتماشى مع تقرير الخبراء الدوليين الذي سبق للأمم المتحدة إعداده، أعلن ترمب رفضه التقرير، مدلياً بتصريحه الشهير بأنه لا يصدقهم، مهدراً بشكل غير مسبوق في التاريخ الأميركي قيمة العلم والعلماء. وهنا قد يمكن توقع أن تغيير بايدن الدفة للطريق العكسي تماماً في هذه القضية وقضايا السياسة الخارجية الأخرى سيجد دعماً حكومياً ومؤسسياً يسهل مهمته، خلافاً لترمب الذي يجب أن نعترف بأنه يملك من خصال العناد إلى حد التصلب، وربما أيضاً قوة شديدة، ما مكنه من مواصلة سياساته هذه بصرف النظر عن موقف مؤسسات الدولة وأغلب أعلامها.

عراقيل تشريعية في طريق بايدن

سيواجه بايدن صعوبة من نوع آخر من تراجع سيطرة الأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب، وترجح استمرار أغلبية الجمهوريين في الشيوخ، ومن ثم فالمتوقع إذن أن تمر التحولات التي سيجريها الرئيس الجديد مع جسامتها بصعوبات تشريعية في مقابل دعم مؤسسات الدولة، كما أنه ليس من الواضح بعد كيف سينعكس تأثير هذا الاستقطاب الشعبي ووجود كتلة ضخمة قوامها أكثر من 72 مليون شخص معادية له بشكل حاد، كما ستواجه الإدارة الجديدة أيضاً عراقيل من عالم تزداد صعوبته، وتتعدد مراكز القوة فيه، وتتراجع قوة بلاده عن التحكم فيه، كما سيواجه بايدن معضلات محتملة من أي تصرفات قد يقدم عليها ترمب في الأسابيع القليلة المقبلة.

أما الأمر الثاني فهو دلالة حجم التغييرات المقبلة وجسامتها كرسالة أخرى مجددة لكل الذين كانوا يريدون التعامل مع الحالة الأميركية الراهنة، بوصفها دورات عادية، وهو ما كان في الماضي، فما نحن بصدده الآن من الضخامة بحيث لا تعرف مثله الدول الكبرى، بل كان هذا من سمات العالم الثالث، حيث إن ضعف المؤسسات يؤدي إلى جسامة التغيرات بتغير القادة والأحزاب الحاكمة، وهنا ليس السبب ضعف المؤسسات، وإنما حدة الاستقطاب في المجتمع وتراجع الكتلة الوسطية في الحزبين الكبيرين، وليدعم هذا ما طرحناه من أهمية متابعة هذه التحولات بوصفها تعبيراً عن سياق تاريخي، اعتبرته تعبيراً عن تراجع إمبراطورية حتى لو كان هذا بطيئاً وتدريجياً، أو على الأقل انطفاء بريقها ولو إلى حين.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل