Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ديغافو" عرض مصري يطرح أسئلة جوهرية كوميديا

نص سويسري تلتبس وقائعه بين رؤية كابوسية وبعد فلسفي

لقطة من مسرحية "ديغافو" المصرية (الخدمة الإعلامية للفرقة)

ربما لو أطل هذا العرض المسرحي من نافذة متجهمة، مدعياً الجدية والعمق، لخرج مشاهدوه صفر اليدين متسائلين ماذا يحدث بالضبط، ومن الذي أتى بنا إلى هنا أصلاً؟

"ديغافو" عرض مسرحي يقدمه مركز الهناجر للفنون بدار الأوبرا المصرية، إعداد وإخراج أحمد فؤاد، عن نص "إثبات العكس" للكاتب السويسري أوليفيه شاشياري. والـ"ديغافو"  أو "ديجا فو" (deja vu) بالفرنسية تعني "شوهد من قبل" تحدث لنا بعض المواقف فنعتقد أو نتخيل أنها مرت علينا من قبل، لكننا لا نستطيع الجزم بحدوثها من عدمه، وهي ظاهرة علمية كان أول من تحدث عنها عالم الباراسيكولوجيا الفرنسي إميل بوريك المتوفى عام 1917.

بالتأكيد كان يمكن للمخرج استعمال عنوان آخر للعرض بدلاً من الكلمة الفرنسية، لكن يبدو أنه قصد إلى ذلك ليحيل المشاهد إلى البحث عن المعنى العربي للكلمة، وبالتالي قراءة العرض وفق المعلومات التي أفضى إليها بحثه.

لا يتعرض العمل المسرحي لأية تفسيرات تتعلق بتلك الظاهرة، هذه بالطبع ليست مهمته، لكن ما يحدث لبطل العرض (تامر نبيل) من مواقف، يعتقد أنها مرت به من قبل، لم يكن إلا للقبض على أسئلة جوهرية تتعلق بنسبية الحقيقة، وغياب اليقين، ولا مثالية العالم، وتورط الجميع في ارتكاب الخطايا حتى لو بقدر ضئيل، العالم ليس بريئاً كما قد نظن.

النص مقروءاً يحتاج إلى كثير من الجهد لفك دلالاته وسبر أغواره وتقليبه على الوجوه كافة للخروج بمغزى أو معنى، لكنه في العرض المسرحي مال أكثر إلى البساطة غير المخلة، البساطة التي لم تكتف بالوقوف عند السطح، بل غاصت في العمق لتستخرج المخبوء خلف تلك الأحداث الغريبة التي يمر بها بطل العرض. ومال العرض إلى الكوميديا المعتمدة على الموقف لا على اللفظ، ما خفف كثيراً من جهامته وجفافه، وبسط صورته وإن بشكل نسبي أيضاً، متسقاً مع موضوعه الرئيسي الذي يتبنى فكرة نسبية الحقيقة ولا يعترف بالحقائق المطلقة.

غياب الأسماء

لا أسماء يحملها أبطال العرض، الوحيد الذي يحمل اسماً هو "آدم"- اسمه في النص الأصلي تيو- الذي يجري البحث عنه لاتهامه باغتصاب ابنة الصيدلي، وهو شخصية يخبرنا عنها العرض فقط ولا نراها.

الأحداث كلها تجري في بيت صديق آدم، ونعلم أنها تدور في عصرنا هذا، من خلال الحوار بين الشخصيات، فضلاً عن طبيعة الملابس العصرية (النص مكتوب عام 2005 وترجمته منحة البطراوي).

يفاجأ الصديق بأربعة مقنعين يقتحمون عليه بيته باحثين عن آدم لقتله جراء اغتصابه ابنة الصيدلي. ابنة الصيدلي هي الأخرى غير محدد عمرها وطبيعة شخصيتها، هي ابنة الصيدلي وحسب. ينقطع التيار الكهربائي ويفاجأ هذا الصديق باختفاء المقنعين، ويظن أنه كان كابوساً تعرض له أثناء نومه. وتتوالى الأحداث، جار أو جارة تطرق الباب وتدخل لتحتمي من مطاردة المقنعين، وتحكي بعض المواقف عن آدم وابنة الصيدلي، ثم تنقطع الكهرباء وتختفي. ويدخل غيرها ويحكي بطريقة أخرى ووجهة نظر مختلفة... وهكذا تتوالى الحكايات عن واقعة اغتصاب آدم لابنة الصيدلي، وهل وقعت بالفعل، أم أنها مكيدة للحصول على بيت آدم، بحسب ما جاء على لسان إحدى الجارات؟ وهل الجارة التي تحب آدم، وتعمل على إنقاذه من ورطته، تحبه بالفعل أم أنها كانت تسعى لاستغلاله؟ والصديق نفسه الذي تدور الأحداث في بيته ويتخيل أنها حدثت قبل ذلك، هل تورط في علاقة مع إحدى الجارات أم أنه كان يحلم بذلك فقط؟

أحداث متداخلة وروايات متعددة، وزوايا مختلفة للأحداث تضع بطل العمل، والجمهور نفسه، في حيرة شديدة. لكنها على رغم ذلك تكشف ما وراء الأقنعة، تكشف الزيف والكذب والجشع وغيرها من الخطايا التي يرتكبها البشر ويحسبون أنفسهم منزهين عنها. تكتفي بالكشف فقط من دون إبداء رأي أو إطلاق حكم، تبسط كل ما يعتقد أنه حقائق وتترك للمشاهد طرح الأسئلة والبحث عن إجابات وسط هذا العالم المتلاطم الأمواج، المتعدد الرؤى، المليء بالثقوب، كلما رتقت ثقباً انفتح الآخر وهكذا.

الحس الكوميدي

بدا الحس الكوميدي الذي سيطر على أجواء العرض طوق إنقاذ له من كل هذه التشابكات التي يمكنها أن تجعله غائماً وملغزاً وغير قابل للاحتمال أو التفسير. ومن هنا انتفت مجانية الكوميديا، وتأكد أن اختيارها لم يكن ترفاً بقدر ما كان ضرورة فرضتها طبيعة النص، وكذلك رؤية المخرج الذي تبنى فكرة غياب اليقين، ونسبية الحقيقة، ونجح في جعلها تتسيد المشهد، وتفضي إلى عدم الإشباع وترك الأمور عالقة لتساؤلات المشاهد وسعيه في البحث عن إجابات.

كل ذلك لم يكن ليتحقق من دون تكامل عناصر العرض الأخرى، التي تتطلب وعياً ورهافة في التناول، وعلى رأسها التمثيل. أدى تامر نبيل دور صديق آدم، الذي تدور الأحداث كلها في بيته ويعتقد أن كل ما حدث مر به من قبل، بتوازن دقيق ووعي بطبيعة الشخصية المتسائلة والمتشككة في كل شيء، وذلك بلمحة كوميدية تناسب حالته في تقلباتها وانقلاباتها. وكذلك أحمد السلكاوي في دور الجار الجشع الانتهازي الذي يمكنه أن يبيع كل شيء حتى زوجته نفسها في مقابل تحقيق المكاسب، وذلك بأداء كوميدي يناسب طبيعة الشخصية وينبع من داخلها. وبرعت رحمة أحمد إحدى الجارات في الأداء الكوميدي غير المتكلف والذي يقربها كثيراً من نجمات الكوميديا الشهيرات في مصر، وبخاصة  سناء يونس، هي لم تستعر طريقتها في الأداء لكنها قدمت نفسها بشكل يخصها، وبتلقائية محسوبة أبعدتها عن العشوائية والافتعال، وكذلك بسمة ماهر الجارة زوجة الجار الانتهازي، السيدة المتكلفة اللعوب، الغريبة الأطوار، ومحمد يوسف زوج الجارة خفيفة الظل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

شكل الممثلون معاً فريقاً متآلفاً ومتفاهماً، لم تؤثر الالتباسات الحادثة على إيقاعهم الذي جاء منضبطاً ومسيطراً عليه لصالح العرض ككل.

 ديكور العرض (صممه أحمد أمين) عبارة عن بهو منزل اتسم بالبساطة وبألوانه المبهجة التي تخفف من وطأة الأحداث، وعلى الجدار ساعة حائط متوقفة عن العمل ما يشير إلى توقف الزمن ويتسق مع الأحداث، التي لا نعرف هل هي وقعت بالفعل أم أنها مجرد تهيؤات يعاني منها صاحب البيت.

نجح العرض في تحقيق متطلبات مسرح الهناجر، الذي يميل أكثر إلى العروض النوعية، أو عروض النخبة، لكن ذلك لم يمنعه من أن يكون عرضاً جماهيرياً يحقق المتعة البصرية والفكرية، فضلاً عن كوميدياه التي بدت خفيفة وإن حملت موضوعاً ثقيلاً لا يسلم نفسه إلا بمزيد من الجهد والأسئلة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة