Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إثيوبيا بين التفتيت والدولة المركزية

الإمبراطور والعسكر فشلا في حفظ الوحدة فهل ينجح آبي أحمد؟

لاجئون إثيوبيون ينتظرون توزيع طعام الغذاء في مخيم "أم الراكوبة" على الحدود الإثيوبية - السودانية (رويترز)

لم تسترِح إثيوبيا المتعبة طوال السنوات المتعاقبة منذ عام 1974. قبل ذلك، كانت تستكين إلى فقرها وعزلتها في ظل إمبراطور صنع لها موقعاً خاصاً في أفريقيا، مستنداً إلى تاريخٍ عريق جعل من بلاده إحدى أقدم الدول المستقلة في العالم، باستثناء فترة الاحتلال الإيطالي (1936-1941) بعد غزوها من قبل الزعيم الفاشي بينيتو موسوليني.

كان هيلا سيلاسي آخر أباطرة الدولة. هو "قوة الثالوث"، بحسب معنى اسمه باللغة الأمهرية، إحدى لغات الإمبراطورية الثمانين. وهو في لقب آخر أطلقه على نفسه "الأسد القاهر من سبط يهوذا المختار من الله ملك إثيوبيا". وهو في الذاكرة الشعبية محرر بلاده من الاستعمار الإيطالي ومؤسس منظمة الوحدة الأفريقية، الاتحاد الأفريقي لاحقاً، وفي عيون أنصاره حيٌّ لم يمُت بل يقترب إلى مصاف الآلهة.

عام 1974 كان مفصلياً في تاريخ البلد. أدت المجاعة التي طاولت ملايين السكان والاتهامات الموجهة إلى حكم الإمبراطور بالفساد والقمع، إلى تحرك مجموعات من العسكريين، نظمت انقلاباً عسكرياً بقيادة الجنرال أمان عندوم الإريتري الأصل، واستولت على السلطة بالقوة لتبدأ التصفيات الداخلية ولتظهر بوادر الانقسامات القومية والعرقية بأشكالها المختلفة .
كانت إثيوبيا موحدة على مضض في زمن الإمبراطور.

وحدها إريتريا شهدت قيام حركات تطالب بالاستقلال لم تحقق هدفها إلا إثر سقوط منغستو هيلا مريام في 1991.

البذور الأولى للانقسام الحاد بدأت تزدهر في سياق صعود منغستو. كان الرقيب في الجيش رجلاً مغموراً لكن طموحاً. أول القتلى على لائحة تصفياته صديقه وقائده الجنرال أمان عندوم، الرئيس الأول للمجلس العسكري الانتقالي بعد الإطاحة بالإمبراطور. تسلّم مهماته في 12 سبتمبر (أيلول) 1974 ليتم اغتياله على يد "مقرّبين" بعد شهر ونصف الشهر في 23 نوفمبر (تشرين الثاني) من العام ذاته.

عام 1977 كان حاسماً في تثبيت سلطة العسكري الصاعد، ومفصلياً في تبلور المطامح الجهوية لقوميات الإمبراطورية الآفلة. وباسم فرض "الاشتراكية العلمية"، اندلعت حرب أهلية ضد عناصر "الحركة الشعبية الثورية لعموم شعوب إثيوبيا" ذات الميول اليسارية.

كان لا بد من حفلة تصفيات جديدة راح ضحيتها هذه المرة رئيس المجلس العسكري (الدرغ) الجنرال تفاري بنتي وعدد كبير من أعضاء المجلس خلال اجتماع رسمي في 3 فبراير (شباط) 1977.

كنتُ في أديس أبابا (كلمة أمهرية تعني الزهرة الجديدة) في مهمة صحافية نهاية ذلك العام. وأُتيح لي أن أزور "ساحة الجريمة" حيث تمت تصفية الرفاق على يد رفاقهم الآخرين، في مبنىً عادي، بعيداً من قصر الإمبراطور يحيطه حراس يفتشون الداخلين بحثاً عن أسلحة، والسبب منع تكرار ما جرى بسبب السماح للقادة والمرافقين الدخول بأسلحتهم إلى قاعة الاجتماع.

قال لي المرافق إن الخلاف مع الجنرال تفاري سببه وضعه "مصلحة إثيوبيا فوق مصلحة الاشتراكية"، وهو ما أدى إلى التخلص منه ومن شركائه في عملية قتل داخل الاجتماع وعلى الأدراج (!)، لينفرد منغستو بالقيادة حتى إسقاطه وفراره إلى زيمبابوي (1991).

ساعد الهجوم الصومالي لاسترجاع أوغادين، الإقليم الخامس من أقاليم إثيوبيا، في وضع الأساس لحقيقتين ستتكرّسان لاحقاً، الأولى نزعة الانفصال التي ستمتدّ إلى مجموعات أُخرى، والثانية توطيد سلطة منغستو الذي سيجعل الساحة الرئيسة في العاصمة مِسكل، ساحة ماركس وإنغلز ولينين، وسيدعو الاتحاد السوفياتي إلى مساعدته وقد فعل ذلك، وانخرط آلاف الجنود الكوبيين وإلى جانبهم مئات اليمنيين الجنوبيين المزوّدين بأحدث الأسلحة السوفياتية، ينقلها جسر جويّ ضخم، في معركة أوغادين ودفع الجنود الصوماليين إلى الحدود.

تحوّلت إثيوبيا سريعاً إلى إنجاز سوفياتي في القرن الأفريقي. وولدت مشاريع لم يكتب لها الاستمرار، منها تشكيل جبهة من ليبيا معمر القذافي وإثيوبيا واليمن الجنوبي والصومال. لم تولد الجبهة فعلياً، فقد انهار الاتحاد السوفياتي، وسبقه إلى الانهيار نظام اليمن الجنوبي، وفي ذلك التوقيت كانت المعارضة التي تشكّلت لإطاحة منغستو تتقدّم لتمسك بالعاصمة وتقلب النظام، وكان على رأسها عناصر الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي التي تواجه اليوم الحكومة المركزية برئاسة الدكتور آبي أحمد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


طوال فترة حكم منغستو الذي ينتمي إلى القومية الأمهرية، كانت المشاعر القومية لدى المكوّنات الأخرى تتفاقم، وعندما قُضي على سلطته، حلّت قومية تيغراي في مواقع السلطة الأساسية، وبقيادة ميلس زيناوي (من أصول تيغرانية). توطّد موقع المكوّن التيغراي في الحكم في إطار حزب جديد، حل محل "حزب العمال الإثيوبي" (الشيوعي) الذي أسسه منغستو ليهيمن بواسطته على البلاد، وهو "الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا". هذه الجبهة بدت كإطار فيدرالي يضم تنظيمات ثوار المناطق والقوميات، وأبرزها قوميات الأورومو وتيغراي والأمهرة وغيرها. وتشكّلت لجنة مركزية للجبهة تضم 180 عضواً سينتخبون في 2018 آبي أحمد (الأورومي) خلفاً لهايلي مريام ديسالين (تيغراي) الذي أكمل ولاية زيناوي إثر وفاته في 2012.

كان زيناوي يتمتع بدعم الولايات المتحدة الأميركية والغرب ودول الخليج العربي، بسبب وقوفه في مقدمة المعركة ضد الاٍرهاب في الصومال والقرن الأفريقي. وعندما تسلّم آبي أحمد السلطة، فتح آفاقاً جديدة، داخلياً وخارجياً، فأفرج عن السجناء وعزز نظام الحريات وأنهى صراعاً مريراً مع الجارة إريتريا، ما جعله يفوز بجائزة نوبل للسلام. غير أن الممارسات السابقة في البلد المتنوع استمرت. وأدت انتهاكات الشرطة إلى انتفاضة في مناطق الأورومو، عززها اغتيال فنان معروف واعتقالات في صفوف معارضين ينتمون إلى تلك القومية.

كان صيف 2020، عندما اجتاح وباء كورونا العالم ومن ضمنه إثيوبيا، حارّاً ومحرجاً لرئيس الوزراء آبي أحمد. بلغت الصدامات ذروتها في مناطق قومه، عندما قرر إرجاء الانتخابات العامة في سبتمبر بسبب الوباء، بعدما بدأ سعيه لاستبدال الجبهة الحاكمة بحزب جديد عابر للقوميات والمناطق يحمل اسم "حزب الرخاء".

لم تكن انتفاضة أبناء تيغراي الذين يعيشون في مناطق شاسعة على حدود إريتريا والسودان على جدول الأعمال. وبالعكس، كان يُخشى من تصاعد التوتر في مناطق أخرى (أورومو)، أواخر يونيو (حزيران). غير أن شعور تيغراي بالتهميش منذ انتهاء حقبة زيناوي- ديسالين، قادهم مجدداً إلى تحدّي السلطة المركزية، فأجروا انتخابات منفصلة في 9 سبتمبر ونزعوا الشرعية عن آبي أحمد وبدأت الحرب.

إنها لحظات حاسمة في تاريخ إثيوبيا، التعددية والمتنوعة. فالتفكيك كان وارداً في تاريخها ولم تمنعه سوى سلطات إمبراطورية تستمدّ سلطاتها من قوى فوق بشرية، أو سلطات عسكرية تتدبّر أمرها بالحديد والنار. أما الآن، فالانفصال يُطرَح في مواجهة تجربة تحديثية يتولّاها رئيس حكومة حاز احترام العالم. فإذا نجحت تجربة الانقسام في تيغراي، لن تبقى إثيوبيا ومعها شرق أفريقيا، كما كنّا نعرفهما حتى الآن. وإذا نجح الحكم المركزي في منع الانفصال، فربما يقدّم نموذجاً متطوراً لكيفية الحكم الديمقراطي في أول دولة أفريقية مستقلة وثاني أكبرها كثافة سكانية. ومن المهم أن يتم ذلك بأقل التضحيات.

المزيد من آراء