بعد رفض إثيوبيا عدة وساطات أفريقية، منها وساطة السودان بصفته رئيساً لمنظمة "إيغاد" لحل أزمة إقليم التيغراي، استقبل الرئيس الأوغندي يوري موسفيني في كمبالا نائب رئيس الوزراء الإثيوبي ووزير الخارجية ديميكي ميكونين، وكان من المتوقع أن يلتقي أيضاً ممثلين من "جبهة تحرير التيغراي"، لكن لم يصل الوفد، فيما نفى دبرصيون جبراميكائيل حاكم الإقليم علمه بهذه المبادرة. وفي هذه الأثناء توجه الرئيس النيجيري السابق أولوسيغون أوباسانغو إلى إثيوبيا في إطار الجهود الأفريقية لحل الصراع.
ومن الممكن أن يفضي هذا التضارب بين الرفض والنفي ثم القبول على مضض إلى وساطة، لكنها ستكون مشروطة، مما يستلزم النظر في الاستراتيجيات التي يمكن أن تنتهجها هذه الدول لحل الأزمة ذات الطبيعة الديناميكية وتعقيداتها وقابليتها للتجدد بأشكال شتى.
الموقف الدولي
انحصر الموقف الدولي حتى الآن في دعوة سفارتي الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة في أديس أبابا جانبي النزاع إلى وقف التصعيد فوراً. وسيكون على هذه الدول القيام بخليط من المبادرات الفردية المعتمدة بالأساس على المنظمات الدولية. ويمكن إرجاع هذا التراخي، إلى التدخلات الدولية بمنظماتها في أفريقيا لأنها دوماً ما تنتهي بأعباء إضافية وفشل في حل الأزمة، وعدم مقدرة على توصيل حتى المساعدات الإنسانية، والأمثلة على ذلك كثيرة أقربها تدخل الأمم المتحدة والولايات المتحدة في الصومال.
أما دور الأمم المتحدة فيركز حالياً على اللاجئين الإثيوبيين الذين عبروا إلى السودان، الذين وصل عددهم إلى 27 ألف لاجئ بحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، التي ذكرت أن وتيرة الخروج من منطقة النزاع بإثيوبيا بلغت نحو 4 آلاف شخص يومياً. كما انحصر في دعوة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى البحث عن حل، وأنهم سيبقون في المنطقة من أجل حقوق الإنسان والحقوق المدنية والسلامة والوصول إلى المساعدات الإنسانية.
وفي هذه الأثناء التي يترقب فيها العالم أي تدخل، لمع نجم الموظف في فريق الرئيس الأميركي المُنتخب جو بايدن ذي الأصول الإثيوبية يوهانس أبراهام، مع تكهنات بما يمكن أن يسهم به في وضع الملف الإثيوبي كأولوية لإدارة بايدن في القرن الأفريقي.
كما سلَّطت الحكومة الإثيوبية الأضواء على تيدروس أدهانوم المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، الذي قالت إنه منخرط بشكل كامل في التماس الدعم الدبلوماسي والعسكري لصالح "جبهة تحرير شعب التيغراي". وإضافة إلى شغله سابقاً منصب وزير الصحة، ووزير الخارجية في دولته إثيوبيا، فإنه كان عضواً سابقاً في اللجنة التنفيذية للجبهة. ولم تُعرب وكالات الأمم المتحدة عن نيتها في أي تدخل للوساطة في النزاع على الرغم من جهود أدهانوم لممارسة الضغط على الحكومة الإثيوبية لوقف عملها العسكري ضد إقليم التيغراي.
الموقف الأفريقي
نفت الحكومة الفيدرالية الإثيوبية أن تكون قد طلبت من أي دولة التوسط بينها وبين جبهة التيغراي. وبررت زيارة ديميكي ميكونين أوغندا بأنها لشرح الموقف الحالي في البلاد والعمليات العسكرية التي تخوضها الحكومة لفرض السيادة الإثيوبية على إقليم التيغراي. كما تصب رسالة آبي أحمد لرؤساء دول منظمة "إيغاد" وإلى رئيس جيبوتي إسماعيل عمر جيله في الاتجاه ذاته.
وإذا كان هذا هو موقف بعض الدول الأفريقية فإن طبيعة الموقف الإريتري تبدو محسومة مُسبقاً لصالح الحكومة الإثيوبية، لأنها تشتمل على عدد من مضامين طبيعة الصراع. وظل الرئيس الإريتري أسياس أفورقي يوجه انتقادات مستمرة إلى جبهة التيغراي، واتهمها بأنها تعيق مشروع السلام مع إثيوبيا، الذي جرى توقيعه في سبتمبر (أيلول) 2018، بانخراطها في أعمال مدمرة.
ومن ذلك اتهامه لها قبل تصاعد الصراع باستخدام بعض المعارضين الإريتريين على أراضيها وإظهارهم بزي الجيش الإريتري للإيحاء بمشاركته في العمليات العسكرية التي تخوضها الحكومة الإثيوبية. إضافة إلى توجيه التيغراي ضربات إلى أسمرا، قالوا إنها رداً على هجوم نفذته القوات الإثيوبية من المطار وعدة مناطق أخرى.
وهذا العداء التاريخي بين أبناء الإثنية الواحدة، انعكس في تعبير الإريتريين عن تعرضهم لاضطهاد تيغراي إثيوبيا، إذ ظلوا يرددون على مسامعهم على الدوام بأنهم من علموهم القتال وهم من أوصلوهم إلى استقلال بلادهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما فيما يتعلق بجنوب أفريقيا كدولة مؤثرة، فقد طلبت إثيوبيا دعمها من قبل في ما يتعلق بأزمة سد النهضة. كما أبدت أديس أبابا موافقتها على تعظيم دور خبراء الاتحاد الأفريقي في الاجتماع الافتراضي الأخير للسد الذي عُقد في الخامس من الشهر الحالي. كما دعمت ما توصلت إليه مصر والسودان باللجوء إلى رئيس المجلس التنفيذي للاتحاد الأفريقي ووزيرة العلاقات الدولية والتعاون في جنوب أفريقيا للتشاور حول الخطوات التالية للمفاوضات وتقديم تقارير بذلك.
وهذا الاتجاه هو ما سعت إليه إثيوبيا من قبل حينما انسحبت من مفاوضات واشنطن لسد النهضة وطالبت بوساطة أفريقية. ومع عدم رغبتها في أي تدخلات حالية، يبدو واضحاً حرص أديس أبابا على الوساطة في أزمة سد النهضة واستبعادها في حالة أزمة التيغراي.
مسار الوساطة الدولية
وهكذا نرى أن هناك درجة معينة من التوجس جعلت الحكومة الإثيوبية تنفي الوساطة وعدم القبول بها، مما يوضح اتخاذ الحكومة الإثيوبية موقف الطرف الأقوى، لتثبيت إدانة مسبقة على "جبهة تحرير التيغراي". كما قد يُفسَّر التسليم بالجلوس مع الجبهة قبولاً مبدئياً بموقفها وتحفيزها على رفع سقف المطالب. ولذلك أوضحت الحكومة الفيدرالية أنه لا يمكنها التفاوض مع كيان اعتدى على الجيش الوطني وعرّض النظام الدستوري للخطر. وأنها لن تنظر في أي مفاوضاتٍ مع "جبهة تحرير شعب التيغراي" إلا بعد استسلامها.
تعتقد إثيوبيا أن المشكلة الداخلية ستفتح الباب لتدخلات خارجية، خصوصاً إذا نجح التيغراي في تحويلها إلى أزمة إنسانية، مما قد يضمن حصولهم على تعاطف دولي. ويتمحور اعتراض الجانب الإثيوبي على الوساطة الدولية، لأن الدول المعنية تتجنب وصف النزاع من حيث الاختلاف في القيمة بين المكونين المتمثلين في الحكومة وجبهة التيغراي، وعدم تأطيره بما يساعد على حله بشكل يرضي الحكومة الفيدرالية.
وما يقلل من فعالية الوساطة الدولية هو أن آبي يخشى أن تقود حلول الوساطة الغربية إلى الدعوة إلى ترسيخ الديمقراطية، في تنفيذها وفقاً للهياكل المؤسسية الغربية مع محاولة التوفيق بين الطرفين في النزاع القائم. ويدعِّم من هذا الاحتمال النظر إلى أن قيام الإقليم بانتخابات في سبتمبر (أيلول) الماضي مع اعتراض الحكومة الفيدرالية كان هو شرارة بداية الصراع.
وانطلاقاً من هذه النقاط، فإن ما يفسِّر التحركات الإثيوبية الحالية في إطارها الأفريقي هو حشد لدول الإقليم، لكي تكون بديلة عن الوساطة الدولية.
الوسطاء الأفارقة
قد تلعب عناصر الالتقاء الثقافي والجغرافي دوراً مهماً في ترجيح كفة الوسطاء الأفارقة، لكنهم من ناحية أخرى محكومون بأنهم أضعف من المفاوض الدولي لطبيعة إدارة شؤونهم داخل دولهم وفي مجتمعاتهم، إذ إن أي دولة أفريقية من هذه الدول التي تعتزم الدخول في الوساطة تعاني نزاعاً داخلياً أو مع جيرانها.
وفي مقابل هذه التحركات دعا آبي أحمد القوات الخاصة والميليشيات في إقليم التيغراي إلى تسليم أنفسهم لقوات الدفاع الوطني الإثيوبية، لإنقاذ أنفسهم والأهالي، وذلك خلال مهلة ثلاثة أيام من دون أن يتوقف القتال بين الجانبين، وتوعد بأنه سيجري تنفيذ عمليات إنفاذ القانون النهائية والحاسمة.
لماذا الخيار الأفريقي؟
تركِّز الدول الأفريقية المجاورة على صياغتها القائمة على آثار توسيع رقعة النزاع أو تحجيمه، ومصالحها التي قد تتفق في بعض جوانبها مع مصلحة أي من الطرفين. وإذا كان لا بد من قبول الوساطة، فإن الحكومة الإثيوبية ستختار وساطة أفريقية، لعدة أسباب وهي أنها ستتمكن من تمرير أجندتها باعتبارها دولة محورية، وقادت وساطات عدة للنزاعات الأفريقية وأسهمت في حلها.
وتنظر هذه الدول إلى إثيوبيا باعتبارها مقر الاتحاد الأفريقي وكدولة قوية يمكن أن تذود عن منطقة القرن الأفريقي. وتتداخل مع هذه الأسباب أن إثيوبيا في هذا التوقيت حريصة على إبعاد أي وساطة دولية، من الممكن أن تتحول بسرعة شديدة إلى تدخل مباشر، مما يؤثر في الاستقرار الداخلي واكتمال سد النهضة، واستبداله بوساطة أفريقية إن أُضطرت لذلك. كما ستكبح التدخلات الدولية من جماح آبي أحمد في وضع حلوله الحاسمة، وهي مقابلة عنف التيغراي بعنف أكبر، ما من شأنه تحذير مجموعات إثنية أخرى تفكِّر في الخروج على الحكومة.
وكلا الطرفين يعتقد أن أهدافهما لن تتحقق بغير تصعيد العنف. وهناك أيضاً ما قد يؤثِّر في سير التفاوض والوساطة بنجاح التيغراي، بعكس قضيتهم بأنها قضية عادلة، والوصول إلى انفصال الإقليم، وتكوين دولة مستقلة أسوة بإريتريا، وهو ما لا تؤيده الحكومات الأفريقية التي تعاني انقسامات داخلية، وستكون أحرص من آبي أحمد على حدوث وساطة أفريقية عوضاً عن الدولية.