Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حرب باردة بين الرئاسة اللبنانية والسلطة التشريعية

 رسالة عون اكتسبت أبعاداً سياسية لا سيما أنها أتت في ظل انقسامات حادة وتقاذف اتهامات

الرئيس اللبناني بين رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة المكلف سعد الحريري (غيتي)

ليست المرة الأولى التي يستخدم فيها الرئيس اللبناني صلاحية توجيه رسالة إلى مجلس النواب، مستنداً إلى المادة (53) من الدستور، التي نصت صراحة في فقرتها العاشرة على أن "رئيس الجمهورية يوجه عندما تقتضي الضرورة، رسائل إلى مجلس النواب"، من دون أن تحدد طبيعة المواضيع التي يتناولها الأخير في رسائله هذه.

إذ سبق للرئيس ميشال عون أن وجه في أغسطس (آب) 2019 رسالة إلى مجلس النواب طلب فيها تفسير المادة (95) من الدستور​، ربطاً بالإشكال الذي فجرته المادة (80) من الموازنة التي تتعلق بآلية التوظيف في الدولة​، كما استخدم هذه الصلاحية حين طالب بإعادة النظر بمضمون المادة (49) من ​قانون الموازنة السابق، المتعلقة بمنح إقامة لكل عربي أو أجنبي يشتري وحدة سكنية في لبنان.

إلا أن الرسالة الثالثة اكتسبت أبعاداً سياسية، لا سيما أنها أتت في ظل انقسامات حادة، وتقاذف الاتهامات حول مسؤوليات الفساد داخل القوى الحاكمة.

في رسالته الثالثة إلى مجلس النواب، دعا عون السلطة التشريعية "إلى التعاون من أجل تمكين الدولة من إجراء التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، وانسحاب هذا التدقيق بمعاييره الدولية كافة على سائر مرافق الدولة العامة، تجنباً لأن يصبح لبنان في عداد الدول المارقة أو الفاشلة في نظر المجتمع الدولي، وتوصلاً إلى تحديد مكامن الهدر والفساد الماليين اللذين قضيا على الأموال الخاصة والأموال العامة معاً".

أبعد من رسالة... إنها "قلوب مليانة"

يتهم فريق رئيس الجمهورية الثلاثي نبيه بري، رئيس مجلس النواب، وسعد الحريري، رئيس الحكومة المكلف، ووليد جنبلاط، نائب سابق ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، بعرقلة التدقيق الجنائي، وأن الثلاثي نفسه يقف وراء رفض رياض سلامة حاكم مصرف لبنان الكشف عن حسابات المصرف، بحجة تعارض التدقيق مع قانون السرية المصرفية، تحاشياً لما ستفضحه الأرقام في "المركزي" من سرقات وهدر أموال داخل المؤسسات العامة، والتي قد تطال رؤوساً كبيرة مسؤولة في الدولة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى الرغم من قرار اتخذ بالإجماع في حكومة حسان دياب، وإصرار وزيرة العدل ماري كلود نجم، المقربة من رئيس الجمهورية، على قيادة معركة تنفيذ قرار مجلس الوزراء، الذي كما قالت لا يتعارض مع قانون السرية المصرفية، فإن التدقيق الجنائي بقي حبراً على ورق، لا سيما أن وزير المال غازي وزني المقرب من رئيس مجلس النواب، اتخذ دور المتفرج، فيما كان يمكنه أن يساعد في تسهيل مهمة شركة "ألفاريز"، وتجنب انسحابها عبر إرسال كتاب إلى مصرف لبنان، يسمح له بكشف حسابات بعض الإدارات، الأمر الذي لم يفعله. وعليه تعتبر مصادر نيابية أن رئيس الجمهورية أراد من توجيه الرسالة إحراج القوى السياسية الرافضة ضمناً للتدقيق الجنائي، وإظهار فريقه السياسي، لا سيما التيار الوطني الحر الذي اتهم رئيسه بالفساد، وصدرت بحقه عقوبات أميركية، بأنه بريء من دم فساد المؤسسات، على عكس القوى السياسية التي حكمت لبنان خلال السنوات الـ 30 الماضية.

في المقابل، تعتبر المصادر ذاتها أن رئيس الجمهورية أراد أيضاً إلقاء تبعة سقوط التدقيق الجنائي في هذه المرحلة على المجلس النيابي، أو هو يحاول بالحد الأدنى إشراك السلطة التشريعية بهذا القرار الحيوي المطلوب لإنقاذ لبنان.

وأراد عون إشراك السلطة التشريعية في إيجاد حلول ومخارج بقوانين أو توصيات، تساعد السلطة التنفيذية أو القوى التي تريد فعلاً إجراء التدقيق الجنائي على إيجاد مخارج لتنفيذ ذلك.

هل تخطى عون السلطة الإجرائية؟

اُتهم رئيس الجمهورية بتخطي السلطة الإجرائية عندما وجه الرسالة إلى مجلس النواب، وبحسب الخبير الدستوري حسن الرفاعي، يحق للرئيس مراسلة المجلس النيابي، ولكن المراسلة يجب أن تكون عامة، فاستناداً إلى مبدأ فصل السلطات، لا يحق لرئيس الجمهورية ولا حتى للحكومة التدخل في عمل السلطة التشريعية، وبالتالي لا يجوز له أن يطلب أو يوجه سؤالاً لها.

من جهة ثانية، يعتبر القاضي السابق عضو تكتل الجمهورية القوية، النائب جورج عقيص، أن الرسالة حق دستوري معطى لرئيس الجمهورية، والنص مكرّس في الدستور. ويقول عقيص، "بمعزل عن الخصومة السياسية مع رئيس الجمهورية إلا أن هذا حقه الدستوري، رافضاً الكلام عن تخطي رئيس الجمهورية للسلطة الإجرائية في إرساله الرسالة إلى مجلس النواب".

مجلس النواب يعيد التدقيق المالي إلى نقطة الصفر

هي الكتل النيابية نفسها الممثلة في الحكومة، والمقررة في "الشاردة والواردة" داخلها، والتي حذرت من خطورة المساس بالسرية المصرفية، لما لذلك من تبعات مخالفة لقانوني السرية المصرفية والنقد والتسليف، وهي نفسها التي عادت واتخذت القرار ذاته في مجلس النواب، وقررت أن التدقيق الجنائي قانوني ويجب أن يحصل، وعلى مصرف لبنان أن يزود وزير المال بكل المعطيات اللازمة، لتتمكن شركة التدقيق الجديدة من القيام بعملها.

في سياق متصل، قرّر مجلس النواب أن ينسحب التدقيق على الإدارات والصناديق والهيئات والمجالس والمؤسسات العامة، والمفارقة أنه لدى استفسار بعض النواب عن أسباب تعطل مهمة شركة التدقيق، طالما الكل موافق، رد وزير المال غازي وزني بأنه طلب من الحاكم تزويد الشركة بالمستندات، لكن الحاكم رفض.

وفيما سارع رئيس الجمهورية إلى الترحيب بقرار مجلس النواب، معتبراً أنه استجاب لرغبته، ولاقاه نواب التيار الوطني الحر معلنين أن ما حصل انتصار لهم، تساءل كثيرون عن أسباب تسهيل المعارضين للتدقيق الآن بعد انسحاب شركة "ألفاريز ومارسال"، وبعد أن حذروا من مخالفته قانون السرية المصرفية.

فهل الموافقة لاستكمال المساكنة مع رئيس الجمهورية بهدوء، لا سيما أن التدقيق إن حصل، فسيحتاج إلى التعاقد مع شركة تدقيق جديدة، بعد إجراء مناقصة، وكل ذلك سيتطلب مزيداً من الوقت، هذا إذا لم يعتبر قرار تكليف حكومة تصريف الأعمال بهكذا مهمة، قراراً غير دستوري، علماً بأن نواباً أكدوا لـ "اندبندنت عربية" أن حكومة تصريف الأعمال يمكن أن تتعاقد مع شركة تدقيق جديدة، لأن قرار السير بالتدقيق الجنائي متخذ سابقاً قبل استقالة الحكومة. في أي حال، نجحت السلطة السياسية الحاكمة مرة جديدة في كسب الوقت، وللمفارقة أن نواباً سابقين من تكتل لبنان القوي، وهو الذي سارع إلى تقبل التهاني، لم يعتبروا ما حصل في مجلس النواب إنجازاً.

وغرد النائب ميشال ضاهر، "جلسة مجلس النواب اليوم كانت لإعلان الإفلاس والعجز عن المحاسبة، وفيها كثير من الزجل والدجل، أعادت الكرة إلى نقطة الصفر بعد إفلاس البلد وسرقة أموال المودعين. وإلى حين تأليف حكومة جديدة لإجراء مناقصة دولية للتدقيق الجنائي، سيهاجر نصف الشعب اللبناني هرباً من المجاعة والموت".

الكل وافق على التدقيق... ولكن

جلسة مناقشة رسالة رئيس الجمهورية التي انعقدت في قصر الأونسكو، وُصفت بجلسة المزايدات، وإن كانت لم تنقل مباشرة على الهواء كما كان يحصل في الجلسات المماثلة، علماً أن القرار يعود إلى رئيس مجلس النواب، وفسّره بعضهم بأنه محاولة لتحوير الكلمات التي ستلقى داخل قاعة الأونسكو، أو ربما تفادياً لإحراج المعارضين، أو قطعاً للطريق على المزايدات التي غالباً ما تخيّم على كلمات النواب في الجلسات المباشرة.

الجلسة التي يصح فيها السؤال: من الذي أوقف التدقيق، هل يمكن أن يكون حاكم مصرف لبنان وحده عطل كل هذا المسار؟ في الجلسة لم يتجرأ أحد من النواب على رفض المضي في التدقيق الجنائي، وإن كان لكل فريق تدقيقه وأسبابه. نواب "أمل" المتهمون بالوقوف وراء عرقلة عمل شركة التدقيق وإحراجها لإخراجها، منسجمون مع "المستقبل"، و"الاشتراكي" بدعم حاكم مصرف لبنان في موقفه، استبقوا الجلسة بتقديم اقتراح قانون لم يحمل صفة المعجل المكرر، قصدوا منه إحراج التيار الوطني الحر، ويرمي إلى إخضاع الإدارات والمؤسسات العامة للتدقيق الخارجي الجنائي، وهو ما يعني توسيع عملية التدقيق وشموليتها لتطال وزارة الطاقة مثلاً، وليس حصرها فقط بمصرف لبنان.

وذهب الرئيس بري أبعد من ذلك في تلقف كرة رئيس الجمهورية لإحراجه، ورد مشيداً بخطوة عون، داعياً إلى أن يشمل التدقيق الجنائي كل قطاعات الدولة، متمنياً أن يحصل إجماع على ذلك.

واستكمل "حزب الله" خطوة بري الاستيعابية، فأعلن رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد، تأييد الحزب للتدقيق الجنائي في مصرف لبنان وفي سائر المرافق العامة، مقترحاً إقرار رفع السرية المصرفية باستثناء مؤقت.

النائب الاشتراكي هادي أبو الحسن كان أكثر وضوحاً عندما شكك في نيات التيار الوطني الحر، متسائلاً أين كانت هذه النخوة بموضوع التدقيق المالي في ملف الكهرباء؟ أما تكتل "القوات اللبنانية" الذي ذهب بعيداً في تحديد القطاعات التي يجب أن يشملها التدقيق، وهي المؤسسات العامة والصناديق والمجالس، وليس فقط مصرف لبنان، فقد عزز موقفه بتقديم خريطة طريق واضحة لتنفيذ ذلك، أولى بنودها أن يرفع مجلس النواب توصية إلى الحكومة  للمباشرة بالتعاقد مع شركة تدقيق جديدة، بعد إجراء مناقصة شفافة، على أن يقرّ بالتوازي اقتراح القانون الذي تقدم به نواب القوات بصفة معجل مكرر حول تعليق العمل لمدة سنة بالمواد المتعلقة بالسرية المصرفية في القانون، مع إعلانهم المسبق، ومراراً، بأن التدقيق لا يتعارض مع القانون، وهو ما عاد وتبناه بسحر ساحر مجلس النواب.

وقال وزير المالية، "تلقينا اتصالاً من إحدى شركات التدقيق الجنائي العالمية، وأعربت عن جهوزيتها لإجراء التدقيق. رسالة عون ضرورية جداً والخطوة التي قام بها مطلب داخلي وخارجي".

والمعروف أن التدقيق الجنائي هو لمعرفة خسائر مصرف لبنان، وسبب هذه الخسارة، كما سيساعد في متابعة مسار المفاوضات مع صندوق النقد الدولي الذي توقف لغياب الإصلاح في لبنان، إضافة إلى التباينات في الأرقام التي قدمت.

اقرأ المزيد

المزيد من العالم العربي