مساء الأربعاء الماضي، كنت أمارس ما كان يسمى ذات يوم تمريننا اليومي المسموح به، في اتجاه ساحة البرلمان. وهناك، لاحظت تجمعاً غير مألوف من المتظاهرين. اتضح أن الرايات التي لوّحوا بها هي أعلام نيجيريا، وقضيتهم تتعلق بوحشية الشرطة في لاغوس، عاصمة نيجيريا. لكن، خطر في بالي، وفي الواقع، دعوني أعترف، كنت آمل تقريباً، لو أنهم كانوا أهالي مانشستر المنفيين وهم يتظاهرون للدفاع عن حقوقهم ضد "وستمنستر" [مقر الحكومة].
ففي اليوم السابق، شكل مشهد عمدة "مانشستر الكبرى"، آندي بورنهام، أثناء حصوله على تصفيق بسبب تحديه مرسوماً من "وستمنستر" (الحكومة)، مصدراً للالهام وإثارة القلق في الوقت نفسه. فمن ناحية، ألم يكن ذلك ما أُنشِئت من أجله الأنماط الجديدة لمناصب رؤساء البلديات، بمعنى تمثيل مدينة ما وإقليم ما وتقريب الحكومة من الناس؟ هذا بالتأكيد ما كان يقصده بورنهام عندما ترشح للانتخابات في 2017، وما اعتقد أيضاً أنه يفعله خلال تلك الثورة القصيرة.
في الوقت نفسه، يُنذر تصرف التحدي ذلك باحتمال حدوث فوضى. فماذا لو رفض كل عمدة مدينة كبيرة الامتثال لأمر من الحكومة المركزية أثناء حالة طوارئ صحية عامة، أو في الواقع أثناء أي حالة طوارئ؟ سيصبح ببساطة من الصعب حكم البلاد. ومع أننا لا نعرف بعد إلى أي حد، أو في الواقع إن كان التحدي الذي أبداه بورنهام سيترجم إلى عدم الامتثال للإجراءات الجديدة في مكافحة كوفيد- 19، إلا أن بعض عناصر المقاومة ستصمد بالتأكيد.
ولعل تمرد بورنهام الذي أجبَرت "وستمنستر" منطقته الحضرية على الخضوع، كان مفيداً، لأنه بعد ذلك تراجعت الحكومة المركزية ورؤساء البلديات الشماليين الآخرين، خطوة إلى الوراء على ما يبدو. ومثلاً، توقف عمدة منطقة مدينة "شيفيلد" دان جارفيس عن المقاومة إلى حد ما بسرعة بعد التفاوض على الشروط، وتم منح "استراحة" إلى منظقة الشمال الشرقي حيث بدأت حالات الإصابة في التراجع.
مع ذلك، تركت المواجهة مع منطقة "مانشستر الكبرى" بصْمتها، ومن الواضح أن هناك ما يشبه تمرداً شمالياً آخذاً في التشكل، ولا يتواءم مع تعهد بوريس جونسون بعد الانتخابات بـ"رفع مستوى" تلك المناطق. كما لا يتناسب هذ التمرد مع عدد كبير من النواب المحافظين الذين انتخِبُوا في ديسمبر(كانون الأول) الماضي، في تلك الدوائر العمالية الراسخة حتى الآن.
في المقابل، فإن التناقضات التي يحدثها هذا ضمن حزب المحافظين، داخل البرلمان وخارجه، تختلف تماماً عن الخلط بين الحقوق والمسؤوليات المخولة بموجب أشكال تفويض السلطة التي تنطبق حالياً في جميع أنحاء المملكة المتحدة. وفي ذلك استمرار لسياسة بدأها توني بلير في 1997 بهدف ترويض صعود القومية الأسكتلندية.
لكن، سواء تعلق الأمر بتفويض سلطات متباينة للهيئات التشريعية الوطنية لإيرلندا الشمالية وأسكتلندا وويلز، أو إنشاء رؤساء بلديات في لندن وما يسمى المناطق "الحضرية" الأخرى، فإن المملكة المتحدة لديها الآن شكل شاذ من أشكال تفويض السلطة، يمكن أن يصل بسهولة إلى تفكّك المملكة المتحدة وصعوبة حكم ما تبقى من إنجلترا (وويلز؟). وإذا كانت الفوارق الاجتماعية على رأس قائمة الأمراض الوطنية التي كشف عنها الوباء، فإن عيوب الترتيبات الدستورية في المملكة المتحدة لتفويض السلطة لا يمكن أن تكون بعيدة.
في معظم البلدان المتقدمة التي لديها نظام تفويضي أو فيدرالي، يجري تحديد السلطات المفوّضة بوضوح، وتكون متساوية بين المناطق أو هياكل الدولة المختلفة. وإذا نشأ صراع، فيمكن إحالته على سلطة دستورية أعلى. في المقابل، ينطوي ذلك الأمر على صعوبات في المملكة المتحدة، لأنه ليس لدينا دستور مكتوب كنموذج، على الرغم من إمكانية فعل ذلك، بحسب ما رأينا مع الطعن القانوني الذي تقدمت به جينا ميلر كي يُمنح البرلمان دوراً في قرار بريكست، وقد حسمت المحكمة العليا في ذلك الطعن. (وهذا ابتكار آخر جديد من قبل حزب العمال، ولا يزال قيد التطوير).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في "نموذج" المملكة المتحدة لتفويض السلطة، تكمن المشكلة الأكبر في أن كل بلد من بلدان المملكة يتمتع بسلطات مفوّضة مختلفة. ومع أنه من الجيد الإشارة إلى أن إيرلندا الشمالية وأسكتلندا وويلز مختلفة جداً لدرجة أنها ينبغي أن تخضع لقواعد مختلفة، وذلك حل بريطاني فريد في تدبير الأمور، يبدو أن الولايات الأميركية التي لا تختلف كثيراً، والولايات الألمانية والمناطق الإيطالية تتأقلم مع ممارسة السلطات نفسها بموجب الدستور المركزي لبلدها.
ولقد أدت الجائحة، بتأثيرها في المملكة المتحدة، إلى تفاقم الانقسامات الحالية، بل أصبحت الصحة مسؤولية مفوّضة. وفي المراحل الأولى من الجائحة، بدا أن جونسون يفضل اتّباع نهج مشترك في مواجهة تهديد مشترك، وظهرت علامات على مواجهة تلوح في الأفق مع رئيسة وزراء أسكتلندا نيكولا ستيرجن. وقد يعود سبب عدم حدوث المواجهة جزئياً إلى إدراكه [جونسون] إمكانية أن تؤدي [المواجهة] إلى نتائج عكسية، لكن ربما أيضاً لأن إصابته (بكورونا) أتاحت لستيرجن فرصة المبادرة، وقد استغلتها بالكامل.
في ذلك الصدد، ربما يكون من الإنصاف الإشارة إلى أن قيادة ستيرجن بدت سهلة نسبياً، لأن أسكتلندا كانت أقل تأثراً بالجائحة في الأسابيع الأولى، وعادة ما كانت تتخذ الإجراءات نفسها التي يتخذها جونسون، لكن بشكل متأخر قليلاً. من ناحية أخرى، قوبل وضوحها وطريقة عرضها بإشادة مستحقة، وبدا أن نظراءها في ويلز وإيرلنديا الشمالية شرعوا في الاستفادة من تجارب أسكتلندا بشكل متزايد، مع مواصلة تنفيذ إجراءاتهما الخاصة.
والآن، تسري تدابير مختلفة للغاية في كل بلد من البلدان المفوّضة، وقد ازدادت سلطة رؤساء الوزراء وحكوماتهم إلى درجة يصعب فيها تصور تخلي أي منهم عن السلطات التي يمارسونها حالياً، وهي سلطات تتجاوز الأمور الصحية الأساسية، بسبب حجم الجائحة.
ظهر نوع من "التمرد" في مناطق بريطانية عدة، حيال اجراءات الحكومة المركزية في مواجهة كورونا (أ ف ب)
لقد كشف هذا العزم المتزايد لدى البلدان المفوّضة في المملكة المتحدة عن تناقض آخر. فبينما يعتبر جونسون رئيس وزراء المملكة المتحدة، لا تتجاوز سلطته في ما يتعلق بالوباء، الذي يمثل أكبر صدمة للمملكة المتحدة، على غرار الحال في عدد من البلدان، منذ الحرب العالمية الثانية ربما، سور هادريان (حدود أسكتلندا) ودايك أوفا (حدود ويلز) والبحر الإيرلندي. وفي ما يتعلق بالمسائل الأخرى، بما في ذلك الميزانية الإجمالية، فإن حكومته تدير المملكة المتحدة بأكملها.
واستطراداً، يمنح ذلك جونسون خيار استخدام الحوافز (أو بالأحرى "الابتزاز") لفرض السلطة المركزية. لكن، إذا كان على "وستمنستر" أن تقدم تنازلات لرئيس بلدية "مانشستر الكبرى" مقابل فرض قواعد إغلاق أكثر صرامة، فإلى أي حد سيكون صعباً الحصول على تنازل من رؤساء الوزراء (المفوضين في استلندا وإيرلندا الشمالية وويلز)؟
لقد بدأ يُنظر إلى الجائحة بوصفها عاملاً سيمهد الطريق ربما أمام الحزب القومي الأسكتلندي لتحقيق فوز حاسم في الانتخابات البرلمانية الأسكتلندية في مايو (آيار) المقبل، وسيعزز ذلك الفوز الدعوات إلى إجراء استفتاء جديد على الاستقلال. مع أنه بإمكان "وستمنستر" مبدئياً قبول أو رفض إجراء تصويت، إلا أن الرفض ينطوي على خطر التسبب في وضع شبيه بوضع كاتالونيا مع عواقب مدمرة أيضاً.
من وجهة نظرها، ربما تكون إيرلندا الشمالية بالفعل في طريق الوحدة مع جمهورية إيرلندا. لذا، لا يمكن استبعاد أن تؤدي تأثيرات الجائحة، مع تداعيات تصويت بريكست، إلى التعجيل بشكل أو آخر في تفكّك المملكة المتحدة.
مع ذلك، يوضح سلوك بورنهام أيضاً أن المرحلة الأولى من تفويض السلطة، [من الحكومة المركزية] إلى بلدان المملكة، لم تكن الوحيدة التي خلّفت صراعات مستمرة، بل يتعلق الأمر أيضاً برمي السلطات إلى المناطق الحضرية في السنوات الأخيرة. ومن حسن حظ جونسون أن صادق خان، بصفته عمدة لندن، لأي سبب من الأسباب، لم يستغل ولايته خلال الجائحة لتحقيق مكاسب سياسية، مثلما كان سيفعل سلفه (جونسون)، ومثلما فعل حاكم نيويورك أندرو كومو بشكل ناجح. ولو حدث ذلك، لظهرت إمكانية أن تصبح المواجهة مع "وستمنستر" مميتة حقاً.
في الشهور الماضية، زرت إيطاليا وألمانيا، وهما بلدان مختلفان تماماً، لكن لديهما خطوط واضحة ترسم حدود سلطة الهيئات المختلفة. ولقد كشف الوباء مدى الحاجة لمثل ذلك الوضوح، ليس في إنجلترا وحدها، بل في معظم أنحاء المملكة المتحدة. ربما لا نحتاج إلى دستور مكتوب لمعالجة هذا الأمر، لكن وجوده تقنيناً أفضل ويمكن أن يساعد بالتأكيد.
بانتظار أن يحدث ذلك، يحق لإنجلترا بوصفها أكبر البلدان المكوِّنة للمملكة المتحدة، أن تشعر بالحرمان وستكون مدنها الكبيرة وعلاقتها مع "وستمنستر" في حالة تغير مستمر.
تذكيراً، آخر مرة شاهدت فيها حالة من الغموض بين سلطة حكومة مركزية بمعنى الجزء المهيمن عليها من جهة، والمراكز الإقليمية المضطربة من جهة أخرى، حدثت قبل 30 عاماً في موسكو، حينما انهار الاتحاد السوفياتي. لذا، تحتاج المملكة المتحدة إلى ترتيب نظام حكمها، بينما لا يزال هناك بلد قابل للحكم.