لكل انتفاضة شعبية أو ثورة أسبابها العميقة، ولكل منها دافع رمزي يختصر تلك الأسباب، ويتحول إلى محطة تروى. كانت الثورة الفرنسية (1789) أُماً للثورات الحديثة، قامت ضد السلطة المطلقة ونظام الإقطاع و"القنانة"، لكن الرواية الشعبية تختصر دوافعها بنقمة الناس على الملكة ماري أنطوانيت، بسبب شرائها قلادة باهظة الثمن فيما كان الشعب جائعاً، ثم نصيحتها له بتناول البسكوت بدلاً من الخبز المفقود لسد جوعه.
وفي درس التاريخ عن الثورة الأميركية ضد الإمبراطورية الإنكليزية، يجري الحديث عن "حفلة شاي بوسطن" كمحطة لاندلاع الثورة، وفي الوقائع أن تجار ماساشوستس رموا محصولهم في مياه المرفأ احتجاجاً على الضرائب المفروضة من قبل مجلس العموم الإنكليزي، والواقع أن رمي الشاي تم على خلفية شعار، "لا ضريبة من دون تمثيل".
ما يعني في العمق رفض سكان المستعمرات، التي ستصبح نواة الولايات المتحدة الأميركية، الالتزام بدفع ضريبة لا يشاركون في إقرارها عبر ممثليهم، وتلك هي نواة الرغبة الاستقلالية التي ستقود إلى الصدام وقيام الدولة العظمى خارج هيمنة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
ولم تهدأ روسيا منذ مطلع القرن الماضي. أرسى النظام القيصري المطلق، واستعباده الفلاحين واستغلاله العمال، كل أسباب الثورة عليه، وجاءت حروبه الفاشلة مع اليابان (1905) ثم الحرب العالمية الأولى إلى جانب الحلفاء، لتستكمل شروط إسقاطه في ثورة وحرب أهلية دموية أعقبتها. ومع ذلك استقرت قصة راسبوتين في المخيلة الشعبية، بوصفها أحد الأسباب الحاسمة في اشتداد النقمة على آخر قياصرة "آل رومانوف".
الضريبة كانت القشة
نعود للتذكير بهذه اللحظات التاريخية الكبرى في حياة الشعوب، للوصول الى تجربة اللبنانيين المستمرة منذ عام في انتفاضتهم ضد سلطة الفساد والميليشيا. وكما في التجارب المذكورة، سيبقى في الذاكرة أن اندلاع " ثورة" 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، سببه "ضريبة الواتساب" التي تقرر فرضها على مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، تأميناً لموارد إضافية لمالية عامة مشكوك في سبل صرفها.
كانت الضريبة القشة التي قصمت ظهر بعير الطاقم الحاكم، فمنذ سنوات والاحتجاجات تتوالى ضد سلطات الفساد والهدر والزبائنية والمنافع الشخصية. كانت مستويات العيش تنخفض، والبطالة تزداد اتساعاً، والهجرة تستقطب أجيالًا جديدة، فيما تنمو ثروات أركان السلطة وأتباعهم بشكل جنوني مثير للقرف. واستند هؤلاء في تثبيت أركان نظام نهبهم إلى تعميق الانقسامات الطائفية والمذهبية من جهة، وإلى الرضوخ لسلاح "أرسلته ومولته وأطعمته وألبسته إيران" من جهة ثانية. فسقط لبنان في دوامة عدم استقرار، ودخل في محور أبعده عن ركائز دعمه التقليدية في عمقه العربي والعالم الغربي.
لم تتوقف محاولات الاعتراض والاحتجاج يوماً، وشهدت السنوات السابقة إضرابات وتحركات عدة، تراوحت مطالبها بين تصحيح الأجور (سلسلة الرواتب)، وبين إقرار تشريعات لتطوير النظام، بما فيها قانون موحد للأحوال الشخصية يخفف حدة التجاذبات الطائفية، وصولاً إلى المطالبة بقانون عصري للانتخابات النيابية، والالتزام بأحكام الدستور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أن سلطة الفساد والميليشيا أمعنت في سياساتها، وواجهت الحركات الشعبية بالقمع والتمزيق المذهبي، وذهبت إلى قانون انتخاب يكرس هيمنة ستة أو سبعة أشخاص ممن تمكنوا من الإمساك برقاب مذاهبهم وطوائفهم، فقادوها وقادوا الدولة، تحت هيمنة حزب مسلح هو الأقوى، إلى الخراب العميم.
لم يلتفت هؤلاء لتحذيرات توالت من هيئات دولية ومحلية إلى أخطار الانهيار المقبل، وتعاملوا مع مقررات مؤتمر "سيدر" الذي نظمته فرنسا دعماً للبنان، كما تعاملوا مع مؤتمرات دولية سابقة، بخفة وانتهازية، فانتظروا الحصول على مزيد من الأموال، فيما كان العالم كله يشترط إجراء إصلاحات شاملة لتأمين الدعم لمشاريع كان يمكنها منع الوصول إلى الانهيار المحتوم، وتعديل الاتجاه كلياً.
عنوان فقدان الثقة
انفجرت الانتفاضة اللبنانية في وجه هؤلاء جميعاً، وسارت في منحى تصاعدي جامع. استقال سعد الحريري على رأس حكومته بعد 12 يوماً بالرغم من معارضة حزب الله لهذه الاستقالة. كان الطاقم المهيمن يفضل إبقاءه في الواجهة لمواصلة الاستثمار في السردية التي بناها منذ حكومات الحريري الأب، عن مسؤولية الحريرية السياسية عن الفساد والانهيار، لكن ابتعاد الابن فرض على الفريق المهيمن قلع شوكه بيديه، وزاد في استعداد الناس لمواصلة الاحتجاج والضغط على الرموز.
وفي ذروة تلك الأيام مَنع المتظاهرون للمرة الأولى، في تاريخ ولاية رئيس مجلس النواب نبيه بري، عقد جلسة نيابية لمناقشة قانون العفو العام، وفرضوا على فريق "الممانعة" الذهاب إلى تشكيل حكومة لون واحد برئاسة حسان دياب، سترتكب فشلاً تلو الآخر، حتى أطاحها تفجير مرفأ بيروت الكارثي في الرابع من أغسطس (آب) الماضي.
ارتبط شعار "كلّن يعني كلّن" (كلهم يعني كلهم) باليوم الأول للانتفاضة، وكان إشارة إلى فقدان الثقة تماماً بالطاقم السياسي الحاكم، ودعوة إلى تغيير الأشخاص والنظم نحو دولة يحكمها القانون، بعيداً من المحاصصات الطائفية والمذهبية، تُمسك بحصرية القرار السياسي والأمني، وتوفر لشعبها الاستقرار والازدهار.
وبقدر ما كان هذا الشعار أساساً في توحيد قوى الانتفاضة، بقدر ما أثار غضب القوى الممسكة بمفاصل السلطة. لجأ هؤلاء إلى القمع عبر تحريك غرائز أنصارهم، وفرضوا انسحاباً جزئياً من ساحات التحرك، وعاونهم في مهمتهم انتشار وباء كورونا.
وفي سعيهم لوأد الانتفاضة، اتهموها بالعمل لمصلحة الخارج بمن في ذلك العدو الإسرائيلي الذي سيذهبون في سنوية "الثورة" الأولى إلى التفاوض معه من أجل ترسيم الحدود، إلا أن بعض من شملهم الشعار سار في اتجاه ملاقاة أهداف الانتفاضة، وسلوكهم هذا أثار تفاعلات سلبية وإيجابية لن يمكن الحكم عليها إلا في الحسابات الأخيرة.
كان شعار "كلّن" سبباً في قوة الحركة الاحتجاجية وتماسكها طوال سنة، غير أنه أيضاً أحد أسباب عدم تمكنها من إحداث خرق بمستوى إصرارها وتضحياتها ووحدتها وشموليتها، فالانتفاضات تحتاج، بحسب التجارب المديدة والعديدة في التاريخ، إلى قيادات وبرامج وتحالفات، يكون بعضها أحياناً من أطراف في السلطات المراد تغييرها، وهذا ما لم يتبلور بعد في الحال اللبنانية .
وإلى أن يحصل ذلك، سيشكل الشعار المذكور ضمانة ووقوداً لحركة شعبية حقيقية لم يشهد لبنان لها مثيلاً منذ عاميات القرن الـ 19، ولدى نيله الاستقلال في هبة رعاها المؤتمر الاستقلالي العام.