Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رواية ماتياس إينار جدارية تاريخية من العصر الروماني حتى اليوم

 سرد تاريخ فرنسا بحيلة سردية مبتكرة وتدوين طريف للحياة الريفية

فرنسا التاريخ (غيتي)

بعد خمس روايات حصد عليها جوائز أدبية مرموقة يستحقها بجدارة، لم يعُد الكاتب الفرنسي ماتياس إينار يحتاج إلى إثبات قدراته السردية والكتابية، ولا معرفته الموسوعية في ميادين مختلفة، كالتاريخ والجغرافيا والشعر والموسيقى الكلاسيكية، إضافة إلى إتقانه العربية والفارسية. روايات آسرة تعكس تارةً قلقاً مشروعاً من عنف عالمنا وسيره من سيئ إلى أسوأ، كـ"جودة الرمي" (2003)، و"منطقة" (2008)، و"شارع النشالين" (2012)، وتارةً ولعاً بأزمنة وفضاءات عرفت البشرية فيها تسامحاً كبيراً أفضى إلى تلاقح ثقافي مثير، كـ"حدثهم عن معارك وملوك وفيلة" (2010)، و"بوصلة" (2015). روايات تحضر دائماً على شكل سفر ممتع بحثاً عن الآخر الذي فينا، وتشكل بالتالي يداً ممدودة أو جسراً بين الغرب والشرق، بين الماضي والمستقبل، ضمن سعي دؤوب ونبيل لإطفاء حرائق الحاضر.

ولعل ترحال إينار الثابت في التاريخ والجغرافيا داخل هذه الأعمال هو الذي يفسر اختياره فرنسا في زمننا الراهن، وريف مدينة نيور التي ولد ونشأ فيها تحديداً، إطاراً عاماً لروايته الجديدة "المأدبة السنوية لأخوية حفاري القبور" (دار "أكت سود")، علماً بأن أحداثها تتجاوز هذا الإطار، وعمله عليها امتد سنوات طويلة، لا لأنه واجه صعوبة في تأليفها، بل لأن "المتعة التي استشعرتها أثناء كتابتها جعلتني أرغب في عدم ختمها والبقاء في أرجائها طويلاً"، كما أسر إلى أحد الصحافيين.

وفعلاً، تغطي هذه الجدارية التاريخية المرحلة الممتدة من العصر الروماني حتى اليوم، لكن من دون أي ترتيب زمني. ولخطها، لجأ إينار إلى حيلة سردية ذكية وطريفة لم يسبقه أحد عليها ولا تلبث أن تمد القصة التي يسردها لنا وشخصياتها الغزيرة بجانب مثير ومشوق يبدد تدريجياً الانطباع الفاتر الذي يتملكنا في الصفحات الأولى من روايته.

قرية خرافية

القصة يمكن اختصارها على النحو التالي: لكتابة أطروحة دكتوراه في علم الأنثروبولوجيا حول الحياة في الريف الفرنسي اليوم، يستقر الشاب الباريسي ديفيد في قرية خرافية قريبة من مدينة نيور بهدف دراسة سلوك سكانها وعاداتهم. ولأن إقامته في أرجاء الطبيعة تجعله يتغير ويرى بشكل أفضل ما يتهدد عالمنا اليوم من مشاكل خطيرة، بخلاف صديقته لارا التي بقيت رهينة حياتها المترفة في باريس، يتقرب من الشابة لوسي التي تعيش في القرية وتعاني الأمرّين لسد رمقها ورمق جدها وابن خالتها البسيط أرنو، خصوصاً حين يتبين له أنها مناضلة يشغلها جور زمننا وتنامي حالة اللا مساواة بين الأثرياء والفقراء، وخصوصاً الكوارث البيئية الخطيرة التي يتم التعتيم عليها من أجل الحفاظ على مصالح الشركات الكبرى.

داخل القرية، يقيم ديفيد في مزرعة الزوجين ماتيلد وغاري. ماتيلد كاثوليكية ورعة نراها تعتني بكاهن الرعية لارجو وتجلب يومياً له الطعام من دون أن تعي الرغبات التي تشعلها داخله وتعجز صلواته عن إطفائها. ومع أن زوجها لا يشاركها ورعها، لكنها تستشعر داخله إيماناً عميقاً، إيمان ابن الأرض الذي يحيا مع الفصول ويختبر يومياً معجزة الطبيعة. ومع انطلاق ديفيد في تحقيقه الجامعي، نتعرف إلى ماكس، الفنان الذي استقر في القرية بحثاً عن طمأنينة تسمح له في تجديد فنه، وهو عشيق مصففة الشعر الجميلة لين التي ترغب في العثور على الزوج المثالي لها بعدما تجاوزت الثلاثين من العمر. نتعرف إلى توما الفظ الذي يعشق لين في السر ويملك المقهى الوحيد في القرية، حيث يجتمع القرويون يومياً للشرب ــ بكثافة ــ ولعب الورق، ومن بينهم سائق الشاحنة باكو والقصاب باتارين ومختار القرية مارسيال بوفرو الذي يملك أيضاً شركة خدمات لدفن الموتى. ولا عجب في ذلك، فالموت حاضر في كل مكان وزمان، ولا يعرف العطلة. لكن في رواية إينار نراه يمنح خدمه المخلصين (من أمثال حفاري القبور، سائقي سيارة نقل الموتى، حراس المقابر وكل من يعمل في خدمات دفن الموتى) ثلاثة أيام في السنة من الراحة يغتنمونها لتنظيم مأدبة سنوية يناقشون فيها أوضاع عملهم، يضحكون قليلاً، يشربون كثيراً ويأكلون بإفراط، وهو ما يجعل من الموت شخصية رئيسة في الرواية تنشط في سياق دوران عجلة الولادات ــ أو هجرة النفوس من جسد إلى جسد ــ التي آمنت القبائل الغالية بها وتشكل حيلة إينار السردية للتنقيب في ماضي فرنسا أو لزيارة مستقبل العالم القريب الذي يراه قاتماً ينقرض فيه الإنسان من جراء نموذج "التطور" الذي يتبعه.

هكذا نحط داخل غابة مقدسة في ريف نيور عجز جنود يوليوس قيصر من تنفيذ أمره بقطع أشجارها، إثر تقمص نفس ماتيلد، بعد هجرات عديدة، شجرة سنديان فيها؛ ونطلع على فصل فرار نابليون بونابرت من "الإرهاب الأبيض" عام 1815 وتمضيته ليلة في مدينة نيور، عن طريق تقمص نفس توما، بعد وفاته، جسد قنفذ يموت مهروساً تحت عجلات سيارة، ثم جسد حشرة بق تعقص ساق الإمبراطور الفار خلال الليلة المذكورة؛ ونتنقل مع نفس لوسي، بعد وفاتها، داخل جسد شابة بروتستانتية تقتل على يد جنود الملك لويس الرابع عشر، ثم داخل جسد ثوري مسعور أثناء الثورة الفرنسية ينتهي مشنوقاً بأمر من "لجنة السلامة العامة"، فداخل جسد جندي تمزقه قذيفة أثناء الحرب العالمية الأولى؛ ونرافق ملك الفرنجة، كلوفيس، أثناء حملته العسكرية ضد ملك القوطيون (Goths) ألاريك عام 507، إثر استقرار نفس باتارين، بعد هجرات عديدة، في جسد حصان هذا الملك.

حروب دموية

وللغوص بنا داخل الحروب الدموية التي تواجه خلالها الكاثوليك والبروتستانت في فرنسا على طول القرن السادس عشر، يبتكر إينار للشابة لوسي سلفاً يدعى جيريمي وينتهي منتحراً بعدما حاول عبثاً زرع بذرته في أحشاء زوجته لويز، فتتنقل نفسه كثيراً قبل أن تستقر عام 1551 في جسد الرضيع تيودور أغريبا دوبينييه، المحارب البروتستانتي الشرس، والشاعر الذي رصد ديوانه "المآسي" لوصف ما عانته طائفته من بربرية على يد أعدائها. وبينما يستعين الكاتب بقصة والد باكو الإسباني للتذكير بالطريقة المشينة التي تعاملت فرنسا بها مع الجمهوريين الكتالونيين الذين فروا إليها إثر سقوط منطقتهم في يد القوميين في نهاية الثلاثينيات (رمتهم في معسكرات اعتقال، ثم استخدمتهم لتشييد التحصينات خلال الحرب العالمية الثانية، قبل تسلم عدد كبير منهم للنازيين رموهم بدورهم في معسكرات اعتقال لم ينجُ منها سوى بعض المحظوظين)؛ يلجأ لإنارة بعض التفاصيل المجهولة من معركة بواتييه الشهيرة عام 732، إلى الشاب البسيط أرنو الذي يملك وحده في الرواية القدرة على رؤية هجرة نفسه ونفوس الآخرين من جسد إلى جسد.

ولأن تنظيم "المأدبة السنوية لأخوية حفاري القبور" يقع خلال زمن الرواية على عاتق مختار القرية مارسيال بوفرو، يدعونا إينار إلى حضور هذا الحدث الخاص الذي ستلتهم خلاله عشرات الأطباق والخمور الفرنسية المسيلة للعاب بشراهة، ويتنافس المشاركون فيه على سرد قصص وطرف وأبيات شعرية يظللها شبح الموت وتتناول حياة الساحرة ميلوزين أو انتحار الروماني ماركوس بورسيوس كاتون أو محنة العملاق غارغانتوا (رابليه) أو حب شاعر التروبادور جوفريه روديل لأميرة طرابلس.

وكما لو أن ذلك لا يكفي، يعمد الكاتب من حين إلى آخر إلى قطع اندفاع سرديته الطويلة بقصص مستقلة كلياً عن القصة ــ الإطار، وتشكل بقصرها استراحةً نسترد فيها أنفاسنا، وبجمالها الأسود وكمالها، كماً من الشهادات على تملك إينار هذا النوع الأدبي أيضاً.

باختصار "المأدبة السنوية لأخوية حفاري القبور" رواية فاتنة تصور بدقة الحياة في الريف الفرنسي، بحسناتها وسلبياتها ومشاكلها الراهنة، مقدمةً أيضاً لنا قراءة شخصية بصيرة لفصول مفصلية من تاريح فرنسا. رواية تضارع بغزارة أحداثها وحبكتها المعقدة ومناوراتها السردية روايات إينار السابقة، وتتفوق عليها بميزتين: الطرافة العالية التي تتحكم بنثرها وتمنحه رشاقة كبيرة وإيقاعاً شعرياً لا يخلو من تقفية ناجحة وناجعة، وثراء مُدهش في لغتها عموماً، ومفرداتها الريفية أو المحلية خصوصاً، يحث القارئ مراراً على فتح القواميس لعدم تفويت أي شيء منها ومن المتعة الكبيرة المستشعرة في كتابتها.

المزيد من ثقافة