Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

آلام الشرق الأوسط واحدة ووجوهها متعددة في فيلم جيانفرنكو روزي

تروي الكاميرا يوميات أناس يعيشون على طول الحدود الفاصلة بين الحياة والجحيم

صبي من ضحايا الحروب في الفيلم (الخدمة الإعلامية للمهرجان)

من الأفلام التي لاقت الاستحسان في مهرجان البندقية السينمائي الأخير، الوثائقي الأحدث للمخرج الإيطالي القدير جيانفرنكو روزي في عنوان "نوتورنو" المشارك في المسابقة. لم ينل الفيلم أي جائزة، لكن عندما نتذكر أن العملين الأخيران لروزي خطفا "أسد البندقية" و"دب برلين"، فلا ضير إذا أفسح المجال للآخرين هذه المرة.

روزي الذي ولد في إريتريا ثم درس وعاش في أميركا، أحد معلمي السينما الوثائقية الحديثة. رجل إنسانوي ملتزم بفنه وقضايا المستضعفين. ذاع صيته كثيراً مع "فوكاماريه" (نار في البحر - 2016)، يوم نال عنه "دب برلين". رصد فيه أزمة الهجرة التي عصفت بجزيرة لمبيدوزا الإيطالية وحياة ناسها الرتيبة ويومياتهم المتشابهة. عمل يجمع بين الخطاب الهادف سياسياً والرغبة في تقديم نص بلغة سينمائية عالية.

في جديده "نوتورنو"، يواصل روزي استكشاف الأوجاع التي تتآكل المجتمعات والأفراد، ولكن هذه المرة في الشرق الأوسط. فبعد توثيق معاناة اللاجئين الذين يصلون إلى الجزيرة الإيطالية هرباً من الظلم والبطش والحروب والصراعات في الشرق الأوسط بين جماعات متناحرة يكره بعضها بعضاً، يبدو أن روزي كمش طرف الخيط الذي أوصله إلى المنبع. فهو انتقل بكاميرته هذه المرة إلى لبنان وسوريا والعراق، لينقل المآسي الفردية المرتبطة دائماً في هذا الجزء من العالم بالمأساة الجماعية .

أقام روزي ثلاث سنوات في أماكن مختلفة من الشرق الأوسط. لملم حكايات من هنا وهناك لناس يعيشون على فوهة بركان منذ سنوات. إلا أنه أراد أن يسمو بالشخصيات، فلم يجعلها ضحية، مبسطاً روايتها وعلاقتها بالوجود. بقي بعيداً من خطوط النار، ولكنه ذهب إلى حيث يحاول الناس لملمة أجزاء وجودهم. في الأماكن التي قصدها وصور فيها، سمع صدى الحرب، وشعر بذاك الشعور الضاغط، ذاك الإحساس الذي يمنع المرء من أن يتخيل نفسه في المستقبل القريب، بسبب انسداد الأفق. لهذا كله، حاول روزي أن يروي يوميات الناس الذين يعيشون على طول الحدود الفاصلة بين الحياة والجحيم.

صورة شاملة

جرياً لعادته، ابتعد روزي عن التعميم والخروج بخلاصات سريعة واعتباطية، نابذاً أي شيء من شأنه أن يسهم في رسم صورة شاملة عن الوضع، مفضلاً الحالات الخاصة، القصص الفردية، التجارب النادرة. نظرته، وهي نظرة مخرج يحاول أن يفهم ويرتقي بالتفاصيل، ضرورية جداً في كل ما يسلمه للمشاهد. لا يعاني روزي من هاجس الموضوعية، يعرف تماماً أن الحقائق تختلف باختلاف المكان الذي يضع فيه الكاميرا.

ينطلق الفيلم من حكاية زوجين شابين يجلسان على شرفة منزلهما ويتبادلان أطراف الحديث، بينما تنفث الزوجة الشابة دخان النرجيلة، ويتحدثان عن جمال المشهد وعن نسائم الهواء العليل ليلاً. يبدو لنا مشهد أسري هادئ، لولا أننا نسمع صوت طلقات الرصاص في الخلفية، فنرى السماء تومض جراء القصف. المشهد تكثيف للوثائقي بأكمله، فهو عن أشخاص يحاولون عيش حياة طبيعية وسط أجواء تنتفي فيها شروط الحياة السليمة والآمنة.

"نوتورنو" عن هؤلاء الذين يحاولون الصمود والنهوض من عثراتهم رغم الحزن العميق: أمهات ثكلى من أكراد سوريا يزرن السجن الذي أعدمت فيه القوات التركية أبناءهن في محاولة لمواجهة الألم واستذكار من رحلوا… أطفال يجدون في الرسم تعبيراً عن الأهوال التي كانوا شهوداً عليها إبان سيطرة "داعش" على مناطقهم… صبي يعمل ليعيل أسرته حتى يبقى إخوته الصغار في المدرسة… ينبش روزي عن الحياة والتحدي وسط كومة الخراب، مستمعاً إلى صوت الأمل الذي يحاول التغطية على أصوات القصف والقنابل والتفجير. "نوتورنو" ليس فيلماً عن الحرب وعن التقسيمات السياسية في المنطقة، بل عن الحياة واستمرارها رغم الحرب.

حكايات صغيرة

يتألف الفيلم من حكايات صغيرة لكل منها أبطالها الحقيقيون. هي مجموعة من القصص المنفصلة في شخوصها ومتصلة في مضمونها. لا يحاول روزي تجميل المأساة البتة، لكنه في الحين ذاته لا يصنع فيلماً بكائياً. الشخصيات هنا في حالة دائمة من البحث عن بصيص أمل، وهي تسعى للتعافي مما شهدته من أهوال. أطفال، بعضهم دون السادسة، يحاولون التداوي بالرسم، وبالبوح بما رأوه. لوحات الأطفال تقطر رعباً ودماً، أجساد ممزقة الأوصال، أياد مبتورة. لا نشاهد ما شاهدوه وعاشوه، ولكن نشعر ما شعروه ونعيش ما عاشوه من خلالهم. لا ينهي روزي أياً من القصص التي يباشر فيها، يفضل الانتقال من واحدة إلى أخرى، ثم يعود لسابقتها، فالقصص تكمل بعضها بعضاً، والألم واحد على تعدد أوجهه.

ورغم عدم اشتباكه المباشر بالسياسي، فبعض المشاهد من خلال السياق الذي وضعت فيه، يجعلنا نكون تعليقنا الخاص على الأحداث. ففي المستشفى النفسي حيث يعالج كثيرون من الصدمة، يختار الطبيب عدداً من المرضى ليقدموا مسرحية من تأليفه يضمنها رأيه السياسي عما يجري في العراق. فهل يحاول الطبيب تسييس المرضى؟ سؤال لا يجيب عليه روزي، ولكن يتركه يدور في ذهن المشاهد. في أي حال، هذا ما كان يفعله دائماً في أفلامه؛ لا يطرح أسئلة. يتذكر أستاذه الذي كان ينصحه ألا يطرح أي سؤال بالقول: إذا طرحت سؤالاً، فستحصل على جواب. وإذا طرحت 20 سؤالاً فستحصل على 20 جواباً. النصيحة التي يرد عليها روزي بالقول "لا يهمني السؤال والجواب. يجب أن تكون قادراً على استخراج شيء باطني من الشخصية تتخطى السؤال- الجواب. هذا ما حاولت دوماً أن أفعله في أفلامي. مهمتي كمخرج أفلام وثائقية هي أن أبحث عن حقيقة الشخص الذي يقف قبالة كاميرتي".

الصراعات السياسية والدينية والاجتماعية في الشرق الأوسط متداخلة ومعقدة، ويعلم روزي ذلك جيداً جراء احتكاكه بها. لكن هذا لا يمنعه من التقاط الجمال في بعض الأحيان، ضمن إطارات مدروسة تولد شاعرية، ذلك أن ما يقدمه في المقام الأول هو فن لا ريبورتاجاً تلفزيونياً. الجمال حاضر في مشاهد عدة، منها مشهد مقاتلات كرديات يستدفئن بنار موقد ينعكس ضوؤه على وجوههن، ثم يبدأن الاستعداد لدوريات المساء. كما أن ملابس الأطفال بألوانها تمنح الإحساس بأن روزي يريد من اللون أن ينتصر على السواد. في هذا الصدد، قال في مقابلة لي معه "بالنسبة لي، من الضروري جداً تصوير الأشياء بطريقة سينمائية قوية. التأطير أساسي عندي. يعتقد الناس أن على الوثائقي أن يكون نقيض الروائي، وإنك إذا حركت الكاميرا سيعطي اهتزازها إحساساً أقوى بالواقع. أنا أعمل بنقيض ذلك. أحتاج إلى كادر رصين. عندما أمسك الكاميرا، أصور وكأنني أنجز أغلى فيلم وفي حوزتي أكبر موازنة في العالم. كل شيء يجب أن يكون نموذجياً، وعلى الواقع أن يأتي أمام عدستي".

 

المزيد من سينما