Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أرتور شنيتسلر يجعل من الخيانة الزوجية مجرد حلم

رواية قصيرة إستوقفت فرويد بعمقها النفسي وحوَّلها ستانلي كوبريك إلى فيلم في 1999

الروائي النمساوي أرتور شنيتسلر (غيتي)

تأتي ترجمة  الكاتب المصري  المقيم في ألمانيا سمير جريس لنوفيلا "حلم" للكاتب النمسوي أرتور شنيتسلر (1862-1931) من الألمانية مباشرة، بعد 95 عاماً على صدورها بعنوانها الأصلي "Traum novella"، أي "نوفيلا أو أقصوصة الحلم".

صدرت الترجمة عن دار "الكرمة" في القاهرة وعلى غلافها الأمامي لوحة "العذراء" لغوستاف كليمت المحفوظة في المتحف الوطني في براغ، وعلى الغلاف الخلفي اقتباسات عدة لآراء في هذا العمل، مِن ضمنها اقتباس من سيغموند فرويد (1856-1939)، يخاطب فيه المؤلف: "تساءلتُ متعجباً مرات كثيرة: من أين لك بهذه المعارف السرية أو تلك، معارف لم أصل إليها إلا بعد أبحاث مضنية؟ وفي النهاية أصبحتُ أحسد الأديب الذي كنتُ أنظر إليه دوماً بإعجاب، وتولَّد لديَّ انطباع بأنك عبر الحدس – بل عبر الوعي الدقيق بالذات في حقيقة الأمر – عرفتَ كل ما اكتشفته أنا عن البشر عبر العمل الشاق".

تأثير فرويد وفيلم كوبريك

أرتور شنيتسلر هو طبيب وروائي وكاتب قصة قصيرة وكاتب مسرحي نمساوي، ولد في فيينا، وتعرَّف إلى أهمية سيغموند فرويد في وقت مبكر، واستفاد من منجزه في مجال التحليل النفسي في الأدب الذي كتبه. عمل طبيباً في مستشفى فيينا العام في قسم الأمراض الباطنة وقسم الأمراض النفسية والعصبية، ثم مساعداً لأبيه الطبيب في قسم أمراض الحلق في المستشفى نفسه، ثم افتتح في 1893 عيادة خاصة.

بدأ نجم شنيتسلرالأدبي يظهر عندما نشر نصوصاً أدبية وقصائد، وكان – كما يقول سمير جريس- يهتم بالحالة النفسية لأبطاله، التي تعكس أيضاً حالة المجتمع الفييناوي آنذاك. ومع مطلع القرن العشرين كان شنيتسلر واحداً من أهم منتقدي الإمبراطورية النمساوية- المجرية، وبعد أن نشر نوفيلا بعنوان "النقيب غوستل" (التي استخدم فيها المونولوغ الداخلي للمرة الأولى في الأدب الألماني) نُزعت عنه رتبة "طبيب أول ضابط احتياط) لهجومه على أخلاقيات الضباط. ثم توقف بعد فترة عن ممارسة الطب وتفرَّغ للكتابة في مسقط رأسه مدينة فيينا، التي لم يغادرها حتى وفاته.

وقد لاقت أعمال كثيرة لشنيتسلر الشهرة وأحدثت جدلاً بين النقاد والقراء، ومُنعت أثناء حكم النازيين، وتحول عدد منها إلى مسرحيات وأفلام شهيرة. ومن أهم أعماله "الدائرة"، و"شهرة متأخرة"، و"احتضار"، و"الآنسة إلزه"، وتعتبر نوفيلا "حلم" هي الأساس الأدبي لفيلم ستانلي كوبريك "عيون مغلقة على اتساعها"، بطولة توم كروز ونيكول كيدمان (من إنتاج 1999). وسعى كوبريك الذي رحل عن عالمنا قبل أن يرى شريط "عيون مغلقة على اتساعها" في صالات العرض، إلى تغيير أسماء الشخصيات وأماكن الأحداث وزمنها، علماً أن عملية التصوير استغرقت زمناً قياسياً (400 يوم).      

وكان شنيتسلر ممثلاً للأدباء التأثيريين في فيينا، وانتقد المجتمع البورجوازي الفاسد في نهاية القرن التاسع عشر، كما انتقد مفهوم هذا المجتمع عن الشرف وأخلاقيات الجنس، وهو الخط الذي التزمه في نوفيلا "الحلم" التي تحكي عن كيف أن اعترافاً بسيطاً بين زوج وزوجته، بنزوة جنسية عابرة، قادهما إلى عالمين داخليين خاصين جداً ومتنافسين، مليئين بأحلام الانتقام، ما كاد ينهي علاقتهما الزوجية.

خرق المحظور

"حلم"، نوفيلا نفسية عن الخيانة الزوجية، وخرق المحظور، والانحلال الأخلاقي، تدور أحداثها في فيينا في بدايات القرن العشرين، لكنها تمس مناطق مدفونة من النفس البشرية في كل زمان ومكان.

ويحسب المترجم جريس، أنه نقل بأمانة وسلاسة لغة أرتور شنيتسلر الألمانية- النمساوية الرصينة، "ليستمتع القارئ العربي"، علماً أنه ترجم من الألمانية إلى العربية نحو 25 عملاً أدبياً، منها "عازفة البيانو" لإلفريدة يلينك، و"صداقة" لتوماس برنهارد، و"العاصمة" لروبرت ميناسه، وألَّف كتاباً عن غونتر غراس بعنوان "مواجهة ماض لا يمضي".

في الخلاصة النفسية لنوفيلا "حلم" التي جاءت ترجمتها في 164 صفحة من القطع المتوسط، أن "لدى البشر رغبة غير مفهومة في إفساد كل شيء، غريزة راسخة في كيان كل إنسان في البحث عما يؤرقه، مازوخية يتلذذ صاحبها بشعوره بالحزن، وبأن شخصاً آخر قد آذاه".

في ليلة شتوية هادئة، تقرر "ألبرتينه"، الزوجة الجميلة، أن تخبر زوجها الطبيب "فريدولين"، عن نزوة راودتها منذ فترة، ملخصها أنها تاقت إلى خيانته مع فتى قابلته مصادفة في بدايات ارتباطهما وقد أسفر عن طفلة هي الآن في السادسة من عمرها. يشعر "فريدولين" بالغيرة، ويقرر، مدفوعاً برغبة في الانتقام، أن يحكي لزوجته موقفاً مشابهاً اشتهى فيه فتاة في الخامسة عشرة من عمرها.

بدأت تلك الليلة بحكاية "شرقية" تقرأها الإبنة بصوت عال: "كان أربعة وعشرون عبداً سُمر البشرة يجذفون القارب الفخم الذي يقل الأمير أمجد إلى قصر الخليفة. أما الأمير فرقد بمفرده في مقصورته، ملتحفاً بمعطفه الأرجواني، تحت السماء الليلية الداكنة الزرقة والمرصعة بالنجوم..." (الرواية ص5). قرأت الصغيرة الحكاية هنا بصوت عال، كما يخبرنا راوٍ عليم، "وفي تلك اللحظة، على نحو فجائي تقريباً، سقط جفناها. تبادل الوالدان النظر مبتسمين، وانحنى فريدولين عليها وقبَّلها على شعرها الأشقر، ثم أغلق الكتاب الموضوع على الطاولة التي لم ترتَّب بعد".

رغبة خفية في الانتقام

كانا في الليلة السابقة قد حضرا، على غير العادة، حفلة تنكرية في قاعة تعج بالطبقة الأرستقراطية التي ينتميان إليها، ولكنها محلَّ انتقاداتهما بسبب ممارساتها التي لا تراعي الاشتراطات الأخلاقية، وفق تصوراتهما. ويمكن القول إن ما حدث في تلك الحفلة من "مجون"، هو ما دفع الزوجة إلى الشك في أن زوجها ربما قد خانها ذات يوم، والغريب هو أن "فريدولين" البالغ من العمر الخامسة والثلاثين، راودته الفكرة ذاتها تجاه إخلاص زوجته التي كانت في السادسة عشرة من عمرها عندما تزوجها... "لم يغب عن كليهما أن الآخر لم يكن صريحاً كلَّ الصراحة، وهكذا شعر كل منهما برغبة خفية في الانتقام من الآخر. (...) عبر الثرثرة العابثة حول المغامرات التافهة في الليلة الماضية، دخلا في حديث جاد حول تلك الرغبات الخفية، التي لا تكاد تُدرَك، والتي تثير دوامات خطيرة عكرة، حتى في أصفى الأرواح وأنقاها. وتحدثا عن المناطق السرية التي لم يشعرا تجاهها بحنين يُذكر، لكن رياح القدر العاتية قد تقودهما إليها ذات يوم، حتى وإن كان في الحلم فحسب" ص8.     

تنتهي الليلة، وداخل كل منهما تضرم نار الكراهية والحقد، وكل منهما يسعى للانتصار على الآخر في معركة عبثية لا جدوى منها. ينطلق "فريدولين" في مغامرة ليلية، إذ يتسلل عبر كلمة سر هي "الدنمارك" إلى منزل غريب يقام فيه حفل ماجن، يحاول أن يعيش ما يكفيه من مغامرة لا لشيء إلا ليعود إلى منزله ويخبر زوجته بمجونه، بينما تعيش "ألبرتينه" مغامرتها عبر حلم تلتقي فيه معشوقها الشاب (في الدنمارك)، وتشاهد زوجها وهو على وشك أن يُصلب، وتنظر إليه ولا تبالي.

وهكذا تمضي تلك النوفيلا، في أجواء يصعب التمييز فيها بين الواقع والحلم، ففي الحفلة التنكرية الماجنة التي تسلل إليها وحده سرعان ما يكتشف الحضور أنه غير مدعو لحضورها، بالتالي يطلب منه الخروج من المكان وعدم الحديث عما رآه، وإلا فسيواجه عواقب وخيمة. ويفاجأ "فريدولين" بعد ليلتين من تلك الواقعة، عندما يعود إلى بيته قرب الفجر بأن زوجته تضحك بصوت عال وهي نائمة، فيوقظها ويسألها عما يضحكها فتخبره بحلم تشبه تفاصيله ما عاشه في الحفلة ذاتها، وأنها كانت تضحك حين رأت مجموعة من الناس تعاقبه بالصلب فيما هي مستمتعة بمعاشرة الشاب الدنماركي. بعدها، "خارت قواه فجأة، ثم راح ينتحب على نحو لم يتوقعه، ثم انهار بجانب الفراش، دافناً وجهه في الوسائد" ص158. حكى لها ما حدث معه، "شعرت بالراحة لأنه لم يُرِد أن يكتم عنها شيئاً، أو لم يستطع ذلك. كانت ترقد هادئة، عندما سألها: ماذا علينا أن نفعل؟ فأجابته: أن نشعر بالامتنان للقدر، لأننا خرجنا سالمين من كل هذه المغامرات، سواء الحقيقية أو التي حلمنا بها.

سألها: هل أنتِ متأكدة من ذلك؟ أجابت: متأكدة بقدر حدسي أن حقيقة ليلة، بل حتى حقيقة حياة إنسان بأكملها، لا تعني في الوقت ذاته حقيقته الداخلية".

المزيد من ثقافة