Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شرق السودان البجا وخطاب الكراهية

كل باحث رصين يدرك أن ما يمارسه بعض سياسيي البداويت مجرد خطاب عدمي

بعض سياسيي البداويت يستثمرون عقيدة قديمة للبجا في قدسية الأرض (أ ف ب)

في ظل الواقع المضطرب الذي يعيش فيه شرق السودان ومُدنُه الثلاث الكبرى (بورتسودان، وكسلا، والقضارف)، والشحن العنصري ضمن الفتن التي يُسعّرها عناصر نظام البشير عبر التسويق لها من أجل ضرب الاستقرار وإعاقة الثورة، يتم كذلك الاستثمار في خطاب شعبوي تهييجي بين الجماعة البجاوية (البجا هم سكان شرق السودان الأقدمون الناطقون بلُغتي البداويت والتقراييت)، ولقد استجاب لهذا الخطاب الشعبوي التهييجي بعض العنصريين من خلال مزايدات مكشوفة تقوم على سرديات وهمية وتوظيف سياسوي خطير يراد به تزييف حقائق التاريخ وشواهد الجغرافيا في سبيل خطاب قبائلي اتخذ من السياسة مركباً عشوائياً استغله سياسيون بجاويون فاسدون من بقايا نظام عمر البشير.

بطبيعة الحال، كل توظيف للتاريخ في مجال السياسة سيعكس فهماً كارثياً للسياسة والتاريخ جميعاً، تماماً مثل توظيف القبائلية في السياسة التي تفسد القبيلة والسياسة معاً.

سردية الشعبويين الجدد تقوم على تواطؤ من بعض أنصاف مثقفين من البداويت الذين صك أحدهم مصطلحاً متهافتاً سماه "بجاويت" كتعريف جديد للبجا؛ لكي يبرر من خلاله أن اسم البجا خاص بالناطقين بالبداويت، بحيث يخرج عن اسم البجا الناطقون بالتقراييت (وهم بنو عامر والحباب)!

وللأسف تواطأ مع هذه الجريمة "المصطلحية" في تعريف (البجا) مثقفون ناطقون بالبداويت من البجا (ومنهم حملة دكتوراه، ومنهم ممن ترجموا كتباً عن البجا)، وتواطؤهم كان بالسكوت عن مثل ذلك العبث باسم البجا، وهم يدركون جيداً أن أكبر مؤرخ للبجا هو "محمد صالح ضرار"، صاحب المؤلفات الكثيرة في تاريخ البجا؛ ينتمي لمكون (بني عامر)؛ لذا نجد بعض أنصاف المثقفين من البداويت يُكنّون كرهاً عجيباً وغير مبرر لمؤرخ البجا الكبير محمد صالح ضرار.

هكذا، سنجد أن السردية تقوم على أن البداويت سودانيون، وأن التقراييت غير سودانيين، وأن البجا هم الناطقون بالبداويت، وأن الناطقين بالتقراييت ليسوا بجا! وعلى هذا الزعم المجوف يخلط بعض سياسيي البداويت خلطة عجيبة مفادها: بما أنهم أصحاب الأرض الأكبر في إقليم شرق السودان فإنهم سودانيون، وبناءً على ذلك؛ أي على سودانيتهم هذه، هم الأولى بحكم شرق السودان من شركائهم البجا الناطقين بالتقراييت (بني عامر والحباب)، وأن الأخيرين مجرد "لاجئين" في السودان!

بطبيعة الحال، هذا المنطق الأعوج يصور لأهل المركز كما لو أن أرض البجا مملكة من القرون الوسطى، وليست جزءاً من السودان بحدوده الجيوسياسة الحديثة، وكما لو أن استحقاق السلطة فقط منحصر في البداويت، وليس لغيرهم من المواطنين السودانيين. في حين أن الحقيقة أن أرض البجا التاريخية تمتد عبر مصر والسودان وإريتريا.

بعض سياسيي البداويت يستثمرون عقيدة قديمة للبجا في قدسية الأرض، وإن المرء ليستغرب فعلاً كيف يزايد هؤلاء بعقيدة قديمة كهذه قد يكون في استنفارها لدى بسطاء البجا وعوامهم سبب في حروب عبثية، فيما هم (أي ذلك البعض من سياسيي البجا) يدركون أن المواطنة، ما داموا سودانيين، هي الأساس في استحقاق السلطة عبر النظام المركزي الذي اتفق عليه غالبية السودانيين بعد الثورة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إن ذلك الشعور الخطير والمرضي بملكية الأرض لدى بعض سياسيي البداويت الذي تسنده نظم إدراك قبائلية لا علاقة لها بمفهوم المواطنة والشراكة الحديث هو أخطر ما يتهدد الاستقرار في شرق السودان، ولأنه مفهوم مضلل ولا يستند إلى حجج منطقية نجد أن رفض كثير من سياسيي البداويت لوالي كسلا صالح عمار هو مجرد رفض عدمي وغير منطقي ولا مبرر له إلا تلك الأنا المتوهمة والمزدرية لفكرة المواطنة والشراكة في المواطنة السودانية. كما أن خطورة هذا الشعور أنه يطلق العنان للكراهية والعنصرية بالضرورة، وللأسف ذلك ما حدث في الخطاب الذي تبناه أتباع ما يسمى المجلس الأعلى لنظارات البجا، مما تسبب في الأحداث المؤسفة التي وقعت في كسلا قبل أسبوعين، وراح ضحيتها أرواح بريئة.

كل باحث رصين يدرك أن خطاب كراهية كهذا الذي يمارسه بعض سياسيي البداويت لا يمكن أن يكون خطاباً سياسياً، وأنه مجرد خطاب عدمي، وسيفضي - لا سمح الله - إلى ممارسات إقصاء وفي النهاية سيلعب دوراً في الفتنة الأهلية التي لن تنتهي إلا بالحرب. ولأن الأوهام تفرخ أوهاماً فإن لطبيعة ذلك الزعم الذي يتوهم حصر السودانوية والحكم في شرق السودان في الناطقين بالبداويت تلوي أعناق حقائق التاريخ والجغرافيا؛ فالمنطق ذاك، ولأنه منطق أعوج، أغرى شعبويين وعنصريين من البداويت حصروا تسمية أنفسهم في شرق السودان (التجمع السوداني) في مقابل تجمع آخر يصوره لهم خيالهم المريض على أنه ليس تجمعاً سودانياً، ويقصدون بذلك الناطقين بـ"التقراييت" من البجا في شرق السودان، أي (بني عامر والحباب) فيما لو ألقى أي واحد من أولئك العنصريين نظرة في كتاب "نزاع الحدود" لبخاري الجعلي لأدرك أن حدود السودان الشرقية مع إريتريا تحدها من طرف البحر الأحمر مناطق سودانية مقفولة للبجا الناطقين بالتقراييت، أي بني عامر والحباب، وكذلك الحدود المتاخمة لإريتريا من جهة كسلا!

لكن حين يعلو خطاب الكراهية يغيب المنطق، وحين يسكت العارفون من مثقفي البداويت عن قول الحق يزداد التضليل، فلم يتبق إلا الخطاب السياسوي المضلل لسياسيين هم أجهل الناس بتاريخ البجا، وقبائليين هم أجهل الناس بالسياسة!

وفي ظل مناخ استقطابي مشحون بالتوتر والجهل والإعراض عن أي قابلية للحوار والمنطق لا بد أن يتم تعريف الآخرين من الناطقين بالبداويت بحقوق مواطنة غيرهم بطرق أخرى توازي في أساليبها أساليب خطاب الكراهية ذاته؛ أي بالقانون الذي من شأنه أن يقاضي كل من يتطاول على مواطن آخر ويطعن في مواطنيته، وكذلك من خلال شرطة معلوماتية تتبع ناشري محتوى الكراهية والعنصرية في وسائل التواصل الاجتماعي. ولقد تم الشروع في فتح فرع لجرائم المعلوماتية في شرق السودان، وسنرى.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء