Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الصحة النفسية ضحية إضافية لتفجير بيروت

ما جرى أعاد إحياء ذاكرة العنف التي عانتها الأسر وأيقظ نوبات البكاء وعدم النوم

جلسة علاج نفسي جماعية ضمت ستة أطفال (اندبندنت عربية)

جرح نفسي عميق حفره تفجير مرفأ بيروت، جرح لن تمحيه الأيام، ولن يتمكن كثيرون من تجاوزه على المدى البعيد، فقد جاء هذا الحدث الجلل ليسكن منزلة من منازل الذاكرة الجماعية اللبنانية، إلى جانب أحداث ومآس كبيرة ألمت بشعب لبنان على مرّ مئويته الأولى. وبالرغم من كل ذلك لم يقف اللبناني مكتوف اليدين، فقد اعتاد أن يبتكر حلولاً لمشكلاته، وأن يتكيّف مع الواقع المستجد.

ذاكرة مؤلمة

لم يكن الرابع من أغسطس (آب) يوماً عادياً في حياة سكان بيروت، قصة ريتا (39 عاماً) واحدة من آلاف الروايات المعبرة، فبعد أن عادت من عملها، دخلت المطبخ لتحضير طعام العشاء، وما هي إلا لحظات حتى ملأ الهدير الأرجاء، متبوعاً بانفجار كبير. تروي ريتا لـ "اندبندنت عربية" كيف سقط على رأسها سقف المطبخ، وحوّل عصف الانفجار المكان إلى ركام، واعتادت ريتا على أجواء الخوف وقسوة الحياة، إلا أن خوفها على القاطنين معها زادها قوة، واتجهت مباشرة إلى نار الغاز لمنع حريق يودي بحياة البقية، وأدى ذلك إلى حرق عميق في يدها اليمنى. وتؤكد ريتا أن الانفجار بعث من جديد مارد الخوف الذي كان بداخلها وداخل ابنتها مريم التي تعيش معها في بيت للحماية الاجتماعية.

عاشت العائلة لحظات عصيبة عقب الانفجار، وعانت الفتاة الصغيرة (عشر سنوات) نوبات هلع، ورفضت البقاء داخل المنزل وخرجت إلى الباحة الخارجية للمبنى، كانت تقول لأمها إنها لن تدخل إليه لأنها "لا تريد أن تموت تحت الركام، لأنها سمعت من الجيران أن باخرة أخرى ستفجرها الطائرات الإسرائيلية".

تتلقى ريتا ومريم جلسات للعلاج النفسي والاجتماعي، وتحاولان تجاوز أثر الانفجار في حياتهما، فهو انضم إلى قائمة من التواريخ المفصلية في ذاكرة ريتا، على غرار تاريخ تركها المدرسة، وزواجها مرغمة، والأمسية التي تعرضت فيها للعنف الأسري والضرب بـ "الشاكوش" على وجهها.

قصة صفاء

لا تختلف قصة صفاء (32 عاماً) عن قصة ريتا، فقد كانت موجودة في المنزل بالأشرفية (ضواحي بيروت) مع ابنتيها، تختصر ما حصل معهنّ بأن "العائلة طارت من مكانها، وتبعثرت حياتها". لم تكترث الأم لنفسها، وسارعت إلى احتضان بناتها ومنحهنّ الشعور بالحنان. تشكر الشابة الله أنهنّ بقين على قيد الحياة، وتضيف "لم تمر عليهن مثل هذه الحادثة، وفي الحروب لم يحصل مثل هذا الانفجار". تجزم أن أطفالها لم يتمكنوا من النوم طوال أيام، واستمروا في السؤال عن الانفجار، وإذا كان سيتكرر ويحدث حرائق، وتنزف أجساد الناس الدم، وتؤكد صفاء أنها تحاول عدم الحديث مع الأطفال عما جرى، وتركهم يعيشون حياتهم مع الأطفال الذين من أعمارهم، لأن ذلك يتيح لهم تجاوز الصدمات المتكررة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

علاج نفسي ضروري

في الأيام الأولى التي أعقبت انفجار بيروت، انصبت الجهود الإغاثية على تقديم المساعدات العينية ومسح الأضرار المادية، وبدا لاحقاً حجم الغضب والألم النفسي الكامن داخل المواطنين، فقد أدى ما جرى إلى حرمان 300 ألف مواطن من مساكنهم، وفي الوقت عينه أصيب حوالى سبعة آلاف شخص بجروح، وحصد التفجير ما لا يقل عن 190 ضحية، فضلاً عن عدد من المفقودين. هذه الإحصاءات تشير إلى أن الإحساس بعدم الأمان وألم الفراق والشعور بالخسارة طاول مباشرة آلاف اللبنانيين، وبصورة غير مباشرة شريحة كبيرة من الأطفال والعائلات التي عاينت الانفجار وتعاطفت معهم.

وتشير الناشطة في دارة طرابلس الخيرية، لارا الرفاعي، خلال حديثها  لـ "اندبندنت عربية" إلى أن الصحة النفسية توازي في أهميتها الصحة الجسدية وتتجاوزها، وأنه بعد الانفجار هبّ الناس لتقديم العون المادي، وهذا أمر جيد، إلا أنه لا يمكن تجاهل الأثر النفسي الذي أحدثه التفجير في عقول الأطفال والكبار، وجاء هذا الانفجار ليزيد المعاناة من الأزمة الاقتصادية ووباء كورونا، كما أنه وضعنا وجهاً لوجه مع ذكريات الحرب والدمار، وأشعرنا بأننا مهددون في كل لحظة، لذلك أطلقت الرفاعي مع مجموعة من الناشطات مبادرة جلسات العلاج النفسي الجماعي بالتعاون مع مركز CPRM)) للعلاج النفسي.

وتؤكد المعالجة النفسية دانيا الأتات أهمية العلاج النفسي الجماعي وتحديداً للأطفال، لأن هذه الجلسات تكشف لنا أن أولادنا لا يعيشون طفولتهم، كما تُظهر الجلسات تعلُّق الأطفال بمحيطهم وناسهم، ومبادرتهم في لحظة التفجير إلى مساعدة الآخرين والبحث عنهم.

جلسة جماعية للأطفال

وتظهر جلسات العلاج الجماعي والكلام مدى التأثر العميق الذي تركته الأحداث الأخيرة في نفوس اللبنانيين، ففي إحدى الجلسات التي جمعت عينة من ستة أطفال داخل أحد مراكز العناية بالصحة النفسية والتأهيل، عبّر الأطفال عن مخاوفهم من المستقبل، ففي لبنان جيل جديد يفتقد الإحساس بالأمان والاستقرار، ويرغب في البحث عن مكان آمن بديل، وتحدث الأطفال عن خوفهم من النوم والكوابيس.

ولا يتوانى الأطفال عن ربط هذا الحادث السيء بأحداث عنف قديمة تعرضوا لها من بعض الأقارب، ويظهر الكلام الجماعي حسّ المسؤولية والجانب الاجتماعي في حياة الأطفال، ففي لحظة وقوع الانفجار "طارت كريستين من مكانها، ولكنها قامت واحتضنت رفيقتها وساعدت الجيران الذين كانوا ينزفون دماً"، كما قامت لانا بالصعود إلى الطوابق العلوية والبحث عن الأطفال الصغار الذين يشاركونها المبنى لمساعدتهم، لأن الأهل كانوا في الأسفل.

خدمة الأطفال مستمرة

وسلطت جريمة المرفأ الضوء على أهمية مراكز التأهيل النفسي والحماية الاجتماعية في لبنان، وتعتبر مؤسسة (SEF-Service de L'Enfant au foyer) واحدة من تلك المؤسسات التي تؤمّن الإقامة والعلاج للأمهات والأبناء.

وتلفت المساعدة الاجتماعية مارسيل ضو، إلى اعتماد نظام المركز المفتوح، إذ يمكن للسيدات ممارسة حياتهن بحرية، بموازاة تقديم العلاجات النفسية والصحية لهن ولأطفالهن في أعقاب التعرض لعنف شديد أو صدمات كبرى، وتؤكد ضو أن فريق العمل يقوم بإجراءات تتدرج من مواجهة حالات الهلع إلى العناية بالضحايا في جو أسري، مع تأمين الخدمات الأساسية والتغذية ثلاث مرات يومياً، والعناية والنظافة وتأمين الحماية للشرائح التي تتعرض للعنف الأسري، وبموجب قرار قضائي.

وإلى جانب الخدمات الصحية والنفسية، تشير ضو إلى أهمية استغلال فترة وجود السيدات وأبنائهن في مثل هذه المراكز لتعزيز العلاقة بين الأهل والأولاد، وعلاج المشكلات من دون عنف، وكذلك تحسين القدرات المهنية والاستقلالية الاقتصادية والاجتماعية، والحفاظ على التحصيل التعليمي للأطفال، وتؤكد ضو أن المركز يحافظ على غرفة فارغة لاستقبال العائلة التي ترغب في العودة لزيارة أصدقائها، كما تتم متابعة العائلة مدة سنة كاملة بعد خروجها، وإلى جانب هذه الخدمات، يتم وضع قائمة من النشاطات التعليمية والعلاجية.

وتلفت الخبيرة التربوية ستيفاني حرّو إلى أهمية مشاركة الأبوين في علاج الأطفال، موضحة في الوقت ذاته أن العلاج والتأهيل يسيران في مسارين، مسار جماعي، وآخر فردي يراعي الصعوبات التي تنطلق من التجربة الذاتية للفرد، وتضيف حرّو أن المقاربة الناجحة هي التي تكون على شكل نظام مؤلف من عناصر متكاملة ونشاطات متعددة، مؤكدة أن تفجير المرفأ أعاد إحياء ذاكرة العنف التي عانتها الأسر من تحطيم وضرب، وأيقظ نوبات الصراخ والبكاء وعدم النوم.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات