Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تخفيف الحصانة خطوة نحو أنسنة منصات التواصل الاجتماعي

قد تقوم التقنية على أشخاص يقحمون معتقداتهم وأفكارهم المغلوطة في منتجات تلعب دوراً في تشكيل السلوك البشري

رواد التقنية ليسوا بمعزل عن أسئلة الفلسفة والخير والشر (رويترز)

أميركا الديمقراطية التي أجهزت على بن لادن، هي نفسها الجمهورية التي قضت على البغدادي، إذ إن التزام القضاء على الإرهاب ومظاهره أولوية متفقٌ عليها لدى كل رئيس، وكذلك فرض رقابة على المؤسسات لكيلا تستغل أنشطتها كغطاء لتمويل عمليات تخريبية، لكن أميركا ترمب التي وصلت نيرانها إلى مواقع التواصل الاجتماعي استثنائية، وتدشن عهداً جديداً في التعامل السياسي مع التقنية وأربابها.

تحول تاريخي

 على الرغم من التقدم العلمي الذي تتمتع به الولایات المتحدة، فإنها تعاني قصور التشريعات التكنولوجية، ذلك لأن معظم سياسييها المخضرمين غير ضليعين بهذا القطاع، لكن تحرك الإدارة الحالية في نهاية مايو (آيار) الماضي، بإصدار أمر تنفيذي يحدّ من حصانة مواقع التواصل الاجتماعي ضد الملاحقة القانونية جاء عكس التوقعات.

 بصرف النظر عن غاية ترمب من قراره، الذي جاء بعد أن وجه له موقع تويتر إنذاراً لأول مرة بشأن تغريداته، والادعاءات المتداولة بأن تطبيق التواصل الشهير، أظهر انحيازاً ضد الرئيس الأميركي، بينما لم يمارس الرقابة على الصين، فإن القرار يدشن لمرحلة جديدة من التعامل مع مواقع الإنترنت، التي حصلت على مساحة كبيرة إلى درجة حسب الناس أنها فوق المساءلة والقانون.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 توجُّهُ الرئيس الأميركي لحظر تطبيق تيك توك الصيني، والتلويح بإغلاق تطبيقات أميركية، أيقظ حسَّ مواطنيه لاستشعار خطورة مواقع التواصل الاجتماعي، فسلبياتها لا تكمن فقط في المعاملة الفجة من تنمر، أو سخرية قد يتعرض لها المستخدمون، لكنها تمسُّ الأمن القومي، وأحياناً مصير شعب بأكمله، كما حدث من جدل حول انتخابات الولايات المتحدة عام 2016، وصناديق الاقتراع في غيرها من الدول، على خلفية مزاعم أشارت إلى استخدام الإنترنت للتأثير في قرار الناخب.

 في وقتنا الحالي، يتهم ترمب هذه المواقع، قائلاً بأن الجمهوريين يشعرون بأن منصات التواصل الاجتماعي تعمل على إسكات الأصوات المحافظة، لذلك يتوعدها بالتنظيم، أو الإغلاق قبل السماح بحدوث هذه الممارسات. وقال سيد البيت الأبيض، في تغريدة سابقة له، إن تويتر يتدخل في الانتخابات الرئاسية لعام 2020"، مضيفاً، "إنه يخنق بالكامل حرية التعبير، وبصفتي رئيساً لن أسمح لهم بأن يفعلوا ذلك".

الرئيس التنفيذي لشركة فيسبوك، مارك زوكربيرغ، علق من جانبه على تهديدات ترمب، بقول إن فرض رقابة على منصة ما، لن يكون الرد الصائب من قبل الحكومة"، وقال في مقابلة مع شبكة فوكس نيوز، "لا بد أن أفهم أولاً ما يعتزمون عمله بالفعل، لكنني بوجه عام أعتقد أن إقدام حكومة على فرض رقابة على منصة، لأنها قلقة من الرقابة التي قد تفرضها هذه المنصة، ليس برد الفعل الصائب".

محاكمة العمالقة

 بعد شهر من تلك المناوشات، اتحد الأعضاء الديمقراطيون والجمهوريون في لجنة مكافحة الاحتكار في مجلس النواب، لاستجواب قادة شركات آبل، وأمازون، وغوغل، وفيسبوك، على خلفية مزاعم تفيد باستغلال النفوذ في السوق، لإلحاق الهزيمة بمنافسيهم، وجمع بيانات، وجذب مزيد من العملاء بطرق غير أخلاقية.

 تكمن أهمية تحقيق الكونغرس في تزايد نفوذ شركات التقنية، في تعزيز المساعي الرامية إلى معاملة هذه الشركات كغيرها، إذ يُعتقَد أن القصور التشريعي والرقابي أدى إلى حد كبير إلى تضخم ثرواتها، وهو ما تشير إليه رؤية أعضاء لجنة مكافحة الاحتكار، التي تحمل تصوراً مفاده أن كلاً من التقدم الهائل في وادي السليكون في التجارة، وإلكترونيات تتبع المستهلكين والاتصالات، ومجموعة واسعة من الخدمات عبر الإنترنت، كانت تكلفتها باهظة على المستهلكين الذين استخدموا هذه الأدوات، وتسببت في خسارة الشركات الساعية للتنافس.

العلوم الإنسانية لخلق واقع افتراضي أفضل

 بينما تمهد الاستجوابات العلنية وملاحقات القانون إلى إزاحة القدسية التي تحتجب وراءها هذه الشركات الرابحة، فإن صعود جيل من السياسيين المتمرسين لمقارعة شركات التقنية مازالت مسألة وقت قد يطول، لذلك فإن الحل لأنسنة مواقع التواصل الاجتماعي وتوجيهها إلى نهج معتدل، هو الإدراج الفعال لمناهج العلوم الإنسانية في خطط تخصصات التقنية والبرمجة، لأن التطبيقات التي يغمرنا بها المبرمجون لم تعد مجرد خوارزميات وأرقام، إنما أصبحت جزءاً من حياة البشر ولاعباً في مصائرهم.

 لعل من أهم القصص التي تؤكد أهمية أنسنة مواقع الإنترنت بصفة عامة، هي تجربة مهندسة البرمجيات البارزة في بينترست، تريسي تشو، التي ظلت مدفوعةً خلال دراستها الأكاديمية إلى الاعتقاد بأن كل ما تحتاجه هو حل المشكلات في المجال التقني، ورؤية العالم من خلال عدسة المعادلات، وأسطر الكود، والخوارزميات، في حين قللت من أهمية محاضرات العلوم الإنسانية، وتمارينها المرهقة في مطاردة معنى غير موجود أحياناً، رافضةً فكرة وجود أي قيمة حقيقية يمكن استخلاصها من دروس العلوم الإنسانية.

لكن التحول في حياة مهندسة البرمجيات بدأ بعد إكمالها الدراسة الجامعية، وانخراطها في العمل في شركة كورا، التي تشغّل منصة مفتوحة يتداول فيها الأفراد أسئلة وأجوبة في مواضيع مختلفة، حيث وجدت تشو نفسها للمرة الأولى تفكر بعمق حول ماهية عملها، وغايته، نظراً إلى أن تجربتها في الشركة الناشئة، المكونة من عدد أشخاص لا يتجاوز أصابع اليد، تعد أول وظيفة لها بدوام كامل.

وبعد التغير الجذري في تفكيرها، أدركت تشو أن الأكواد والحوسبة والبيانات، تبدو كما لو كانت محايدة ميكانيكياً، لكنها ليست كذلك، إذ تقوم التقنية على البشر الذين يقحمون معتقداتهم وأفكارهم المغلوطة في منتجات وخدمات تشكل بدورها السلوك البشري والمجتمع.

وتذكر خريجة ستانفورد أنها أثناء الشروع في صياغة خدمات كورا مع زملائها، تبادرت إلى أذهانهم من دون سابق إنذار، تساؤلات فلسفية تتناول الصراع الأزلي بين الخير والشر، ولم تكن مهام البرمجة وحدها هي الأساس في عملهم، إنما توجه اهتمامهم أيضاً إلى تحديد شكل التطبيق، والجمهور المستهدف، والسلوكيات التي سيحفزها الموقع لدى المستخدمين، ونوع القيمة التي سوف يصنعها.

ونظراً إلى رصد إساءات من بعض الأفراد، وكونها شعرت شخصياً بسوء المعاملة في الموقع، نشأت لديها رغبة ملحة لاستحداث خاصية الحظر، تجنباً لأي اعتداءات محتملة، رغم أن عدد المستخدمين مازال في خانة الآلاف. لكن لو لم يكن لدى تشو هذا المنظور الشخصي، أو لو لم تكن هي ضمن الفريق، أليس من المحتمل أن تغفل كورا عن تقديم هذه الميزة؟ هنا تبرز أهمية توجهاتنا الشخصية، التي ترسم حدود التقنية في واقعنا.

يخطئ اليوم رواد التقنية عندما يؤمنون بانفصال معارفهم ومخرجاتهم عن السياق الاجتماعي، فتجربة مؤسسي كورا عند صياغة سياسة مكافحة التحرش بكافة أنواعه، تقاطعت كذلك مع منظورهم لحرية التعبير، بل إن هؤلاء التقنيين واجهوا أسئلة فلسفية ربما لم يفكروا فيها يوماً، مثل أيهما الأصل الخير أم الشر؟

لماذا يُعدُّ هذا السؤال اليوم مهماً في قطاع التقنية؟ بكل بساطة إن رؤيتك وإجابتك تحدد مسار المنتج والخدمة، فإذا كان البشر مجبولين على الخير، يمكننا الوثوق بالمستخدمين، ومنحهم حرية أكبر، وفي هذه الحالة يجب تحمل العواقب، التي قد تتمثل في انحدار المحتوى أو الإساءات، وإذا اعتقدنا بأن الشر هو الأصل، فسيتوجب علينا فرض رقابة على جميع المشاركات، وعدم نشرها إلا بعد المراجعة، وإتاحة الفرصة فقط للحسابات المعروفة بجودة أطروحاتها، لكن ألن تسفر هذه الممارسات عن آراء أحادية، ومجتمع افتراضي متحجر لا يقبل الأفكار الجديدة؟

خيارات صعبة واجهها هؤلاء التقنيون الشباب، وانتهى بهم الأمر إلى جعل منصتهم مفتوحة وحرة، مؤمنين ليس فقط بالناس، ولكن أيضاً بمعايير المجتمع الإيجابية وقدرة المهندسين على تشكيلها وتوجيهها من خلال أدواتهم.

لكن تشو تبدي قلقها من أن كثيراً من رواد التقنية اليوم، هم أشخاص مثلها لم يقضوا وقتاً كافياً في التفكير في الأسئلة الكبرى، حول ما يقومون ببنائه، وآثاره المترتبة على العالم، لذلك تمنت الناشطة ومع بعض الحرج من موقفها القديم المتعالي تجاه العلوم الإنسانية، أنها سعت أثناء دراستها جاهدة لتعلم هذه المعارف، والتفكير بشكل نقدي حول العالم الذي نعيش فيه، وكيفية التعامل معه، لاسيما بعد اكتشافها أن عملها الهندسي يتقاطع مع سياق موضوعات إنسانية لم تعرها اهتماماً كافياً.

 مع ذلك فإن الفرصة لأنْ يكون المرء فضولياً، مازالت سانحة على حد تعبيرها، إذ يستطيع كل منا التعلم، والقراءة، والنقاش، والسفر، والتفاعل، وهي عوامل مهمة تساعد على الاعتراف بتعقيد العالم الذي نعيش فيه وعجائبه، والتفكير في صياغة مستقبله.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات