Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مفتي مصر يثير ضجة بين محبي الكلاب وكارهيها

البعض رحب بفتوى "الطهارة" وآخرون يرونها "نجسة" ويطالبون بتعميم السم  

اختلاف بين المصريين بشأن الحلال والحرام في اقتناء الكلاب (أ ف ب)

حروب ضارية بين من يحب ومن لا يحب، وصراعات حامية بين من يمسك بتلابيب تفسيرات دينية وموروثات ثقافية، ومن يحكم بعضاً من عقل وكثيراً من منطق، وهبد من قبل المطالبين بتعميم السم وتفعيل القتل، ورزع من قبل المنادين بمعاقبة حاملي السم ومنفذي القتل. سنوات طويلة من الشد والجذب بين جموع المصريين حول الكلاب، وحق اقتنائها، وسبل التعامل معها التي تطورت في السنوات القليلة الماضية إلى حرب مستعرة، جانب منها "ديني" أو هكذا يتصورون، والجانب الآخر حقوقي بمعانيه المتناقضة.

الكلاب "طاهرة"

التناقض – أو هكذا اعتبره كثيرون- بين التصريح الأخير الصادر عن مفتي الديار المصرية شوقي علام قبل أيام، الذي قال إن الكلاب "طاهرة"، وبين آلاف الفتاوى المتواترة على مدار سنوات التي تفيد بأن الكلب "نجس" بشكل أو بآخر، أوغر صدور كارهي الكلاب، وأسعد قلوب محبيها.

محبو الكلاب ومقتنوها في مصر يعانون الأمرّين، فهم من جهة مصنفون شعبياً باعتبارهم طبقة مخملية لا تشعر بمشكلات البلد الاقتصادية، ومعضلات الشعب الاجتماعية والمعيشية، ومن جهة أخرى يُنظر لهم على أنهم قساة القلوب، غلاظ العقول لأن "دخول الملائكة بيوتهم من عدمه لا يعنيهم".

دخول الملائكة

مي سالم (26 عاماً) زارت منزل زميلة لها في العمل للمرة الأولى قبل أيام. وبعد مرور دقائق على جلوسها في غرفة الصالون سمعت صوت نباح تبعه دقات على الأرض تنبئ بأن كائناً يسير على أربع يقترب من المكان. مرت ثوان كأنها دهر بعد أن فوجئت بكلب فصيلة "بيكنواه" يتجه نحوها مرحباً. صرخت وهللت وصاحت طالبة النجدة، وحين تجمهر أهل البيت لإنقاذها من الوحش المهاجم، الذي لا يزيد ارتفاعه عن 30 سنتيمتراً ضحكوا كثيراً وأخبروها أن "بينو" يريد فقط الترحيب بها، أخبرتهم أنها لو كانت تعلم أن في البيت كلباً لما حضرت، وانصرفت وهي تحذرهم أن البيت الذي يحوي كلباً لا تدخله الملائكة.

سالم شأنها شأن كثيرين ممن نشأوا على اتخاذ موقف مسبق من الكلب. "حرام" "نجس" "يمنع الملائكة" من جهة، و"الأفضل أن نطعم الفقراء"، و"الغلابة أولى"، و"العيال أجدر بالاهتمام". سنوات طويلة والشد والجذب سائد، وفتاوى التحريم والتكريه لها اليد العليا. آلاف الفتاوى الرسمية الصادرة عن دار الإفتاء على مدار عقود طويلة، يدور جميعها في إطار تحريم اقتناء كلب في البيت، مع استثناءَين أحياناً هما الصيد، والحراسة شرط عدم دخول البيت.

 

 

الأرشيف لا يتجمل

 حيث أن الأرشيف لا يكذب أو يتجمل أو يتخفى، فإن الأرشيف الرسمي لفتاوى دار الإفتاء المصرية حافل بكم هائل من فتاوى التحريم والتكريه. "الملائكة تنفر من وجود كلب في البيت"، "الكلب نجس ولا يجوز اقتناؤه"، "تربية الكلاب مكروهة"، وغيرها كثير مما يحرم، أو يجعل تربية الكلاب غير مستحبة يحفل بها أرشيف الدار. لكن خروج المفتي الدكتور شوقي علاّم، قبل أيام قائلاً إن "العلماء اختلفوا حول هذه المسألة، والغالبية تعتقد بنجاسة الكلب، ولكن هناك مذهب المالكية الذي نتبناه ونفتي به، يقول إن الكلب طاهر وكل شيء فيه طاهر" أذهل الجميع، محبين للكلاب وكارهين لها. ووصل الذهول أقصاه بقوله إنه "بالإمكان التعايش مع الكلب وتعبد الرب، فإذا توضأت وجاء لعاب الكلب على البدن أو الثوب، فلا حرج إطلاقاً في الصلاة، ولا داعي لإعادة الوضوء، أو غسل الملابس"، وذلك بعد عقود ظهر فيها أن قمة التسامح والانفتاح في الدين، هو عدم تحريم الكلاب باستثناء لعابها باعتباره نجساً دون أدنى شك!

سونيا باسم، عاشقة للكلاب، ومدافعة عنها بكل الطرق والوسائل. تقول إن المفتي لم يأتِ بجديد، "فلا يمكن أن يكون هناك دين لا يدعو إلى الرحمة، ومساعدة المخلوقات الضعيفة. والعقل يخبرنا أن كلاباً مثل "بيكنواه"، أو "غريفون" لايمكنها أن تعيش في الشارع أو حتى حديقة بيت". وتضيف، "قال غاندي إن عظمة الأمم وتطورها الأخلاقي يقاس بكيفية تعاملها مع الحيوانات".

غاندي والفتوى

لكن قليلين هم من يستحضرون غاندي هذه الآونة. الشك في الفتوى عكَسَه كم هائل من التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي، دار أغلبها في حيز انتقاد ما قاله المفتي لأسباب تقف على طرفي نقيض. المتشددون والباحثون عن رأي الدين لدى أكثر المشايخ تزمتاً، وأعتى التفسيرات انغلاقاً، اعتبروا الفتوى والعدم سواء. ولم يكتفِ بعضهم بذلك، بل أخذوا على عواتقهم مهمة إعادة تدوير الفتاوى المصرية وغير المصرية، الغارقة في التشدد، التي يذهب بعضها إلى حد لعن من يقتني كلباً.

آخرون نبشوا ونقبوا في كتب التراث ومواقع "إسلامية" بحثاً عن تعضيد لفتوى المفتي، لا سيما فيما يختص بلعاب الكلب، وحكم الصلاة بعد مسه الجسم أو الملابس. الممسكون بتلابيب ما نشأوا عليه من تفسيرات، ورفض فتح الأفق لما سواها، تجاهلوا وجود فتاوى وتفسيرات مؤيدة لما قاله المفتي، وقرروا المضي قدماً في التحريم وتجنب اللمس والاختلاط. أما المحتفظون بقدر من التفكير النقدي، وقبول مبدأ تحكيم العقل وجدوا في التراث، والمواقع ما يمكن الاعتماد عليه، لا سيما من يحبون الكلاب ويعرفون خصالها المحفورة في التاريخ من وفاء ومحبة ودفاع عن صاحبها، ما يؤيد رأي الدكتور علاّم، فعبروا عن شعور بالرضا لا يخلو من توجس عقود مضت من التحريم والتكريه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

انتقاد متناقض

الغريب في الأمر هو أن كثيرين من محبي الكلاب ومربيها، انتقدوا الرأي الجديد للمفتي، وذلك من منطلق أن عدم حرمة الكلاب، و"إشاعة" آراء التحريم والنجاسة أمور واضحة وضوح الشمس منذ قرون. ووصل الأمر بالبعض إلى حد وصف ما جرى بأنه "استمرار لاستلاب عقول المصريين واحتكارها والسيطرة عليها باسم الدين، حتى ولو من باب التحليل. كتبت منة فتحي على "تويتر"، "باعتباري عاشقة للكلب حاولت أفرح برأي المفتي، ولكن ماقدرتش (لم أستطع). استمرار السيطرة على الشعوب باحتلال العقول وسلبها القدرة على أن تعقل بين المنطق والخرافة إهانة لكل صاحب عقل".

لكن أصحاب العقول يأتون بكل الأشكال والأنواع والتوجهات. فهناك من اعتبر رأي المفتي "خطوة نحو التنوير، وحلحلة للخطاب الديني المتجمد منذ قرون، ودعوة لإعمال العقل المتحجر بفعل سيطرة رجال الدين على كل كبيرة وصغيرة سطحية في حياتنا" كما يقول أحمد لؤي (48 عاماً) (مهندس)، الذي يفخر بـ"أبنائه" "كنزي"، و"جوي"، و"مديحة"، وأحفاده الأربعة من الكلاب والجِراء.

رابع المستحيلات

رابع المستحيلات هو تغيير ثقافة شعبية ارتدت عباءة الدين على مدار عقود طويلة، وذلك بين فتوى وضحاها. مجموعات محبي الكلاب ومربيها على مواقع التواصل الاجتماعي احتفت بما قاله المفتي. طَبلُ هذه المجموعات وزَمرُها لا يفسدهما سوى استنفار الفريق المقابل، الذي تربى ونشأ على كراهية الكلب، معتقداً أنه بذلك ممعناً في التدين متمسكاً بالالتزام. إحدى صفحات ملاّك الشقق والفيلات في تجمع سكني حديث على "فايسبوك" تشهد منذ أشهر صراعات كلامية، وتحركات تفعيلية بين محبي الكلاب ومربيها من جهة، وكارهيها والداعين إلى تسميمها والتخلص منها من جهة أخرى. وصل الأمر لدرجة قيام مجموعة من السكان من متزعمي حركة "تسميم الكلاب" بحجة أنها تهاجم الأطفال، وتزعج السكان. ناهيك عن وقوفها حجر عثرة يحول دون دخول الملائكة من بوابات العمارات، بالتوجه قبل أسابيع إلى إمام أحد المساجد في هذا التجمع الذي يقيم فيه أيضاً، وطلبوا منه أن يدلي بدلوه الديني لعله يجبر أصحاب الكلاب على التخلص منها. وبالفعل كتب الإمام تدوينة مستفيضة صالت في الآراء الفقهية مكتفياً بتلك التي تعتبر تربية الكلاب مكروهة، ووجودها نجاسة وإقامتها في البيوت منفرة للملائكة، وجالت في الأوضاع الاقتصادية للبلاد معتبراً أن إطعام أسرة فقيرة أفضل ألف مرة من إطعام كلب، وهو ما أثار حفيظة مربي الكلاب. وبعد صدور رأي المفتي الأخير، طلبت مجموعة من مربي الكلاب رأي الإمام نفسه، الذي سبق وأمعن في تنفير الناس منها، لكنه اختفى تماماً من على الصفحة.

 

 

الكلب في مصر القديمة

صفحات التاريخ المصري الفرعوني حافلة بأدلة دامغة على مدى التقدير والحب، الذي كانت تحظى به الكلاب لدى المصريين القدماء. كانت الكلاب حيوياً من حياتهم، ربوها في بيوتهم، واصطحبوها في رحلات صيدهم ومعاركهم الحربية، وحرست ممتلكاتهم. والأدهى من ذلك أن المصريين القدماء خصصوا لكلابهم مقابر قريبة من أصحابها. البعض منهم حنطها عند موتها، وحلق أصحابها حواجبهم دلالة للحزن العميق عليها، وهو ما يعني أن الكلاب في مصر القديمة، كانت تعامل باعتبارها فرداً من أفراد الأسرة.

الأسر المصرية ليست معروفة على المستوى الشعبي بحب تربية الكلاب، لكنها في الوقت نفسه لم تكن تشكل لها مصدراً للقلق أو الغضب، وهو ما تغير وتبدل منذ أواخر السبعينيات التي شهدت هيمنة تفسيرات دينية متشددة، وبينها تحريم تربية الكلاب والاقتراب منها، وهو ما أنشأ ثقافة كارهة لهذه الكائنات لدى البعض.

الكلاب "الضالة"

لكن البعض الآخر لم تطله هذه الثقافة. هؤلاء لا يقتصرون على أصحاب الكلاب، بل هناك كثيرون ممن يظهرون عطفاً على الكلاب التي يطلقون عليها "ضالة" (نظراً لإقامتها في الشارع). ومن المشاهد المألوفة أن تجد صاحب محل تجاري يحرص على إطعام مجموعة كلاب تقيم بجواره، أو سيدة تداوم على جمع فضلات طعام بيتها، وتقديمها لكلاب تقيم في حديقة عامة، أو شابة تربت على كلب هزيل، أو جرو صغير. هذه المشاهد وغيرها اتخذت شكلاً مؤسسياً في السنوات القليلة الماضية، وذلك بظهور عدد من الجميعات الخيرية والصفحات العنكبوتية التي تعنى بالكلاب "البلدي". يشار إلى أن "الكلب البلدي" هو المسمى الذي يطلق على الكلاب المقيمة في الشوارع. بعض هذه الكلاب هجين من سلالات مختلفة من الكلاب. والبعض الآخر سلالات مصرية أصيلة، وهو ما يجهله كثيرون. فمثلاً على سبيل المثال لا الحصر، هناك الكلب السلوقي، والكلب المصري الباسنجي، والكلب الفرعوني الذي يطلق عليه أيضاً الكلب المصري الطيب، وغيرها كثير. ويشار إلى أن كثيرين من هواة تربية الكلاب يتعاملون بفوقية طبقية مع الكلاب "البلدي"، باعتبارها كلاب درجة ثانية بعد الجيرمان شبرد"، والـ"شيواواه"، والـ"غريفون"، والـ"غودلن رتريفر"، وغيرها. لكن الحقيقة أن الكلاب البلدي لا تقل وفاء ومحبة وقدرة على حراسة أصحابها من البشر عن غيرها.

الجمعيات الخيرية والمجموعات المدافعة عن الكلاب البلدي تعمل على توعية المصريين بمكانة هذه الكلاب، وحمايتها، وإطعامها. والبعض يجمع تبرعات من أجل إخضاعها لعمليات تعقيم، لمنع تكاثرها في الشارع، ومن ثم تعريضها للمزيد من الأخطار من تسمم ودهس وغيرها. والبعض الآخر يفرط في حمايتها، وذلك بنقلها إلى عائلات تتبناها في دول أوروبية.

وتبقى الكلاب محل شد وجذب، بين ثقافتين الأولى مُحِبّة والثانية كارهة، سواء قال المفتي إنها حلال أو أفتى بأنها حرام.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات