لا يبدو أن مسلسل الاغتيالات في محافظة البصرة جنوب العراق سيهدأ، مع توقّعات ناشطين في المحافظة بأنه استمرار منهج الجماعات الموالية لإيران باستهداف كل الحركات المناهضة لنفوذ طهران في المحافظة وبقية المدن العراقية.
لكن أوجهاً عدّة قد تفسّر هذا التنامي في موجة الاغتيالات التي تطال ناشطي المحافظة، حيث يشير مراقبون إلى ثلاثة احتمالات قد تكون الأسباب الأبرز لتنامي موجة الاغتيالات تلك، تتمثّل بمحاولات تصفية الشخصيات المدنية البارزة التي لا تدخل ضمن حراك الميليشيات الموالية لإيران، حتى لو لم تكن فاعلة في الحركة الاحتجاجية، لمخاوف الجبهات الولائية من احتمالية استثمارها كمشاريع منافسة انتخابية، بينما يذهب آخرون لتفسير تلك الموجة بأنها تمثل "انتقاماً فصائلياً" على خطوات رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي في ضبط المنافذ الحدودية وضرب مصالح الميليشيات الاقتصادية في البصرة على وجه الخصوص، أما الاحتمال الثالث، فيتعلق بكون تلك الاغتيالات تمثّل حالة استباق لاحتمالية عودة الحراك الاحتجاجي مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى لانتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) العراقية.
سلطة غير موالية لإيران
وكانت الفصائل الموالية لإيران ترتكز في قوتها على وجود رئيس وزراء موالٍ لها كما حصل في فترة حكم رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، أو رئيس مكبّل كما حصل في فترة حكم رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، لضمان مصالحها السياسية والاقتصادية في جميع المحافظات، لكن وصول الكاظمي إلى السلطة مثّل انعطافة تواجهها للمرة الأولى، وهو الأمر الذي يدفعها إلى البحث عن خطوات تتصدّى بها لتوجّهات الكاظمي، من بينها محاولة إخراج المحافظة الأكثر ثراء عن سلطة الحكومة، للاستفادة من ثرواتها في تمويل نشاطاتها العسكرية والمدنية ومؤسساتها الإعلامية والسياسية وغيرها من الأنشطة الأخرى.
ولعلّ واحداً من أهم الاحتمالات التي قد تهدّد وجود تلك الجماعات هو إمكانية استعادة حكومة بغداد قوتها مع وجود سلطة تنفيذية غير موالية لإيران ومستعدّة للصدام معها، خصوصاً بعدما كانت أولى خطوات الكاظمي في هذا الاتجاه ما عُرف حينها بـ"عملية الدورة" وعلى الرغم من انتهائها من دون نتيجة، لكن توجّهاته تجلّت أكثر من خلال عملياته على المنافذ الحدودية التي ضربت اقتصادات الفصائل بشكل كبير.
كيانات اقتصادية
وتمثل الفصائل المسلحة الموالية لإيران كيانات اقتصادية بالدرجة الأساس، بعيداً من كونها عقائدية أو عسكرية أو سياسية، إذ لا توجد اختلافات داخل تلك الفصائل من ناحية المبادئ السياسية، ويقوم كل تجمّع منها على مجموعة شراكات اقتصادية، ويتهم جناح داخلها بالنفوذ على وزارة الاتصالات على الرغم من عدم امتلاكه مقعداً برلمانياً أو حكومياً، فضلاً عن فصيل آخر يستولي على "هيئة الحشد الشعبي"، ويُتَّهم بتجنيد "عناصر وهمية" للاستيلاء على رواتبهم، كما جاء في تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" قبل فترة وجيزة، إلى جانب نفوذ لفصائل أخرى على مؤسسات رسمية عدّة، لكن معظم تلك الفصائل يهيمن على المنافذ الحدودية.
ويبدو أن تلك الفصائل باتت تدرك أن خسارة تمويلاتها المعتمدة بالدرجة الأساس على هيمنتها على مؤسسات ومنافذ اقتصادية تابعة للدولة، سيعني تفرّق أنصارها. ويرى مراقبون أن هذا السيناريو يشكّل الهاجس الأكبر الذي يراود زعماء تلك الفصائل، مرجّحين أن يكون توجّه تلك الفصائل للتصعيد في المكان الرئيس للثروة المتمثل بمحافظة البصرة، مرتبطاً بمحاولتها رسم مسارات توفّر الحماية لمصالحها، من خلال جعل المحافظة مكاناً معزولاً عن تأثير بغداد وقرارات رئيس الحكومة فيها.
ويقول أستاذ العلوم السياسية قحطان الخفاجي، إن "أكثر ما يؤرق زعماء الفصائل القريبة من إيران هو احتمالية تثبيت الحكومة المركزية سلطتها على المنافذ الاقتصادية التي تتسلّط عليها تلك الفصائل"، مبيّناً أن "ما يجري هو مواجهة صريحة ومباشرة من القوى الموالية لإيران في منع أي محاولات لتغيير تلك المعادلة في العراق".
ويضيف لـ"اندبندنت عربية"، "تجسّد تلك الفصائل كيانات اقتصادية على الرغم من محاولاتها الترويج لكونها تمثل شكلاً عقائدياً، ويعتمد حراكها في العراق على إمكانية إمداد نفوذها وسيطرتها على أكبر قدر ممكن من مؤسسات الدولة"، لافتاً إلى أن "جمع أكبر عدد من الأنصار لها يعتمد على القدرات المالية لكل فصيل منها".
ويتابع، "إذا كان الكاظمي واعياً للمخطّطات الإيرانية بعزل نفوذ السلطة المركزية عن البصرة، عليه العمل على تقويض مشروع تلك الجماعات الرامي إلى ابتلاع المدينة بشكل كامل وجعلها منصّة النفوذ الإيراني الأوضح في البلاد".
ولا يستبعد أن تحمل هذه العمليات رسالة تخويف لكل ثوار أكتوبر لتقويض أي احتمالية للبدء بمشروع انتخابي مناهض للنفوذ الإيراني بشكل واضح، فضلاً عن محاولة لدرء أي احتمالية نشوء موجة جديدة من الاحتجاجات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
توجه الأنظار نحو البصرة
بالتزامن مع حملة الكاظمي الساعية إلى تجفيف المنابع الاقتصادية للفصائل، اتّجهت أنظار الفصائل إلى المحافظة، في محاولة على ما يبدو لجعلها مركز السلطة والنفوذ المالي والاقتصادي لها، وتحصينها ضد أي محاولة لبغداد أو الناشطين بالتأثير أو نزع الواردات الاقتصادية لتلك الفصائل، وهو الأمر الذي أدّى إلى أن تكون حملات الاغتيالات بمستوى من الجرأة لا يشي بوجود أطراف خفية أو غامضة، فالسيارة التي أطلقت النار على الناشطين الثلاثة عباس صبحي وفهد الزبيدي ولوديا ريمون، في 18 أغسطس (آب) الحالي، كانت سيارة لا يستقلّها ملثّمون أو مضلّلة، وفي وضح النهار.
أما عملية اغتيال الناشطة رهام يعقوب، فقد جرت حين كانت متّجهة إلى الشارع التجاري من جهة منطقة الجمهورية الشهيرة في قلب مدينة البصرة، قبل أن يباغتها المسلحون بالرصاصات الثلاث التي أفقدتها وعيها، بحسب وسائل إعلام محلية، فيما تشير تقارير صحافية إلى أن مفرزة للشرطة كانت تبعد حوالى 50 متراً عن مكان الحادثة، فضلاً عن تمركز دوريات للمرور والنجدة بالقرب منه. ويعلّل مراقبون عدم تدخل القوات الأمنية في تلك الحوادث نظراً إلى الجهات النافذة التي تقف خلفها.
رسائل تخويف وإثبات وجود
متغيرات عدّة أسهمت في تصعيد عمليات الفصائل المسلحة في البصرة، حيث يرى مراقبون أنها "رسائل تخويف وإثبات وجود" تحاول تلك الجماعات إيصالها إلى أكثر من جهة، على رأسها رئيس الوزراء وناشطو الحراك الاحتجاجي.
ويشير الباحث والأكاديمي باسل حسين إلى ثلاثة متغيرّات أدّت إلى تصعيد عمليات الاغتيال التي تقودها الجماعات الولائية، تتلخّص في "زيارة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إلى الولايات المتحدة ومحاولة الضغط عليه وإيصال رسالة بأنهم لا يزالون فاعلين وقادرين على إحداث توتّرات كبرى في البلاد.
أما المتغير الثاني، فيتمثل برسالة تخويف صريحة للمتظاهرين المطالبين باستقالة المحافظ، أما الأمر الثالث، فهو محاولة تقويض جهود الحراك الشبابي في الانتقال نحو التنظيم السياسي من أجل الاستجابة لتحدّي الانتخابات المبكرة".
ويضيف لـ"اندبندنت عربية"، "استهداف الناشطين والمتظاهرين في البصرة يأتي في سياقه المستمر منذ بدء حركة الاحتجاج الشبابي في أكتوبر من العام الماضي، بالتالي فهو اختلاف في الدرجة وليس في الطبيعة".
تخادم بين العيداني والميليشيات
ويشير مراقبون وناشطون إلى أن نشاط هذه الفصائل لا يقتصر فقط على تصفية شخصيات نافذة قد تسهم بدعم المزاج المعادي للفصائل في البصرة، بل تحاول استعراض مدى نفوذها وهي تحصل على مساندة محافظ البصرة أسعد العيداني، الذي أعقب تلك الاغتيالات بتصريح أثار استياء الناشطين حين قال إن "ما حصل أعمال إجرامية"، في إشارة إلى أن ما جرى مسائل جنائية بحتة، وهو ما ركّز عليه الكثير من الناشطين المرتبطين بالعيداني.
في السياق، وجّه بيان لـ"ناشطي محافظة البصرة" أصابع الاتهام إلى الميليشيات الموالية لإيران، باغتيال ناشطي المحافظة، وطالبوا رئيس الوزراء بإقالة محافظ البصرة أسعد العيداني متّهمينه بـ"التورط بهدر دماء الناشطين".
ويشير ناشطون إلى حالة "تخادم" بين العيداني والميليشيات الموالية لإيران لتثبيت نفوذ تلك الجهات على المحافظة، الأمر الذي يمكّنهم من "عزل" تأثير حكومة بغداد فيها وجعلها ساحة مباحة لترسيخ نفوذهم الاقتصادي والسياسي.
وتحدث أحد زملاء تحسين الشحماني الذي اغتيل قبل أيام في محافظة البصرة لـ"اندبندنت عربية"، عن أن "جهات مدرّبة ومحترفة هي التي تنفّذ عمليات الاغتيال بحق زملائنا من الناشطين"، مرجّحاً أن تكون تلك الاغتيالات "حملة استباقية" لوأد أي احتمالية لعودة حركة أكتوبر، مع اقتراب الذكرى السنوية لها وتصاعد المطالبات في البصرة بإقالة المحافظ.
ويقول الناشط البصري الذي رفض الكشف عن هويته نظراً إلى تصاعد موجة الاغتيالات، "أصابع الاتهام لا تخرج عن أربعة فصائل بارزة تسيطر على البصرة وتعرب بشكل مستمر عن دعم مفتوح للعيداني"، مردفاً "ثمة تخادم مصلحي بدأ يرقى إلى علاقة مصيرية تلك الجهات الميليشياوية وبين المحافظ نفسه"، مشيراً إلى أن "المصلحة المشتركة بين المحافظ والميليشيات تتمثّل بتحييد سلطة أي رئيس وزراء خارج النفوذ الإيراني على المحافظة"، مبيّناً أن "بروز نجم العيداني في أوساط الجهات الموالية لإيران جعله ورقة يُعتمد عليها إيرانياً بشكل خاص".
ويلفت إلى أن "العيداني نجح في تحييد (تظاهرات أكتوبر) في البصرة مقارنةً ببقية المحافظات وبقية الاحتجاجات السابقة، وقام بتشديد انتشار القوات الأمنية التي كانت تعتقل كل تجمع من ثلاثة أشخاص فما فوق بأمر مباشر من المحافظ".
ويتابع، "واحدة من دلالات تسيّد الميليشيات الموالية لإيران على البصرة هو إنشاء قوات الصدمة التي كانت واجهة القمع الرئيسة والتي قادها علي مشاري بدفع من قيادات ولائية داخل هيئة الحشد الشعبي"، مبيّناً أن "قائد تلك القوة وفّر الحماية لـ "كتائب حزب الله"، فضلاً عن سماحه لهم بحمل نعش رمزي لأبي مهدي المهندس وسط ساحة الاعتصام المركزية في البصرة في محاولة استفزازية مقصودة، وكان يقول لعناصر الكتائب بصريح القول: أهجموا عليهم أي "على المعترضين على دخولهم إلى الساحة".
"غضب أميركي"
إلى ذلك، قالت وزارة الخارجية الأميركية الخميس إنها تشعر بغضب إزاء اغتيال نشطاء للمجتمع المدني في العراق وهجمات على محتجين في بغداد والبصرة.
وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية مورغان أورتاغوس في بيان "نحث حكومة العراق على اتخاذ خطوات فورية لمحاسبة الميليشيات والعصابات الإجرامية التي تهاجم العراقيين الذين يمارسون حقهم في الاحتجاج السلمي".