Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

للتاريخ باب من أبواب جهنم فلا تفتحوه

رغم كل الجهود الرائعة التي قامت بها رئيسة وزراء نيوزيلندا "جاسيندا أرديرن"، لاحتواء الأزمة، إلا أن بعض الأصوات عندنا مازالت تصر على أن القضية في النهاية هي حربٌ صليبية جديدة ضد الإسلام والمسلمين

جانب من التجمعات لتكريم ضحايا الهجوم الإرهابي على مسجدين في نيوزيلندا (أ.ف.ب)

في الهجوم الإرهابي على المسجدين في "كرايست تشيرش" في نيوزيلندا، تعالت بعض الأصوات بأن الحادثة هي جزءٌ من حرب صليبية جديدة ضد الإسلام والمسلمين، وأن الإرهابي الأسترالي لم يقم بعمل منفرد، بل هو جزءٌ من مخطط "تآمري" كبير ضد كل ما هو مسلم في الغرب، وما هو إلا رأس حربة لذلك المخطط، واستدلوا على أن المسألة ليست عملاً إرهابياً منفرداً بتلك الكتابات التي احتلت كل جزء من أجزاء الأسلحة التي ضبطت معه، وكلها تواريخ لمعارك ومواجهات بين المسلمين والغرب، وخاصة فيما يتعلق بمعارك الدولة العثمانية. هنا يقوم الإرهابي بتبرير عمله بالتاريخ، فهو ليس بقاتل أو مجنون، وفق تقديره لذاته، بل هو مدافع عن حضارة الرجل الأبيض، التي يغزوها المسلمون، والغرب عنها من الغافلين. بفعلته الشنعاء تلك، يعتبر نفسه نذيراً للغرب الأبيض من شرّ قد اقترب، ولذلك فإنه لم يحاول أن يخفي معالم جريمته، أو التستر عليها، بل أعلن عنها بكل وسائل الاتصال، فخوراً ومتباهياً. ورغم كل الجهود الرائعة التي قامت بها رئيسة وزراء نيوزيلندا "جاسيندا أرديرن"، لاحتواء الأزمة، والقول في النهاية أن المواطنة النيوزيلندية لا تفرق بين المواطنين لاختلاف مللهم أو أعراقهم، بل ورغم كل هذا التعاطف العالمي الكبير مع ضحايا المسجدين من قِبل كافة الانتماءات الدينية، إلا من شواذٍ هنا وهناك، إلا أن بعض الأصوات عندنا مازالت تصر على أن القضية في النهاية هي حربٌ صليبية جديدة ضد الإسلام والمسلمين، وأن ديمقراطية وعلمانية الغرب "الزائفة" ما هي إلا واجهة لستر حقيقة الغرب، وهي أنه مازال نصرانياً متعصباً.

الشاهد هنا هو هذا الاستخدام الأيديولوجي للتاريخ وأحداثه، لتبرير هذا الفعل الإرهابي، سواء من قِبل الخائضين في الماء التاريخي العكر لديهم ولدينا. فإرهابي نيوزيلندا، وغيره من أرباب اليمين الغربي المتطرف، يبررون أفعالهم بالخطر الإسلامي الدائم، ويعودون إلى أحداث التاريخ، بشكل اختزالي وانتقائي، لإثبات هذا الخطر الكامن كما الفيروس، بانتظار الفرصة كي ينتشر من جديد. ذات هذا المنطق، إن كان له أن يسمى منطقا، نجده لدى القاعدة وداعش وغيرهما من الذين يقسمون العالم إلى فسطاطين: فسطاط كفر وفسطاط إيمان، ولا وسط بينها، وهما بالضرورة متعاديان، بحيث لا بقاء لأحدهما إلا بزوال الثاني، هكذا يقرأون التاريخ، متعصبيهم ومتعصبينا. فإذا كان للتاريخ "مكر" كما يقول هيغل، فإن له سجناً أيضاً، لا يستطيع المؤدلجون الخروج منه بإرادتهم، رغم أنه سجن بلا قضبان ولكنهم يصنعونها بأيديهم، ثم يستمرؤون ذلك، حين ينظرون إلى العالم من حولهم من خلال تلك القضبان.

فالتاريخ سلاح ذو حدين: فمن الممكن النظر إليه على أنه "كتاب العِبر"، وفق تعبير ابن خلدون، من حيث النظر إليه على أنه سجل لملحمة البشرية على هذه الأرض، ومن ثمّ استكناه القوانين التي تـُسيِّر هذه الملحمة من أجل استخدامها في تحليل الحاضر والتنبؤ بالمستقبل، وذلك كما فعل مؤرخون مثل أرنولد توينبي وإدوارد جيبون و ويل ديورانت وأبو عبد الرحمن بن خلدون. ومن الممكن النظر إليه، أي التاريخ، وفق نظرة أيديولوجية تبريرية تبحث عن دعم لسلوك حاضر، وذلك كما يفعل المؤدلجة قلوبهم، ومن ضمنهم إرهابيون هذا العصر سواء كانوا من المسلمين أو المسيحيين أو اليهود، أو غيرهم من أمم وشعوب دنيا الله.

فأدولف هتلر (1889 ـ 1945) مثلا كان يستنطق التاريخ من أجل البحث عما يدعم فكرته في تفوق الجنس الآري الأبيض عبر التاريخ. لم يكن هتلر سياسياً سيئاً في الداخل الألماني، فرغم بطشه بالشيوعيين وكافة الأعراق غير الآرية، وخاصة تلك التي نظر إليها على أنها في أسفل قائمته العرقية كاليهود والغجر، إلا أنه نهض بالاقتصاد الألماني نهضة جبارة خلال سنوات ما قبل الحرب العالمية الثانية، إلا أن تفسيره العرقي للتاريخ دفعه لمحاولة توسيع حدود "الرايخ" الثالث، على اعتبار أن كل ما يحققه ليس إلا استعادة لحقوق "الرايخ"، والتي سلبت منه في ظل ظروف قاهرة، و"مؤامرات" يهودية على مدار التاريخ. كان هتلر سجيناً للتاريخ، أو لنقل "وهم التاريخ"، الذي أورده المهالك في نهاية المطاف، وسقط "رايخ الألف عام" في اثنتي عشر عاماً لا أكثر. كان بإمكان "الفوهرر" أن يحقق لألمانيا المجد والقوة دون الدخول في مشروعات توسعية، ولكنه وهم إعادة الروح لجسد تاريخي مات وانتهى أمره، والأموات لا يعودون للحياة.

ذات الشيء يمكن قوله عند بينيتو موسوليني (1883 ــ 1945)، زعيم إيطاليا ومؤسس الحركة الفاشية الإيطالية، الذي هو الآخر كان أحد سجناء التاريخ، أو القراءة الأيديولوجية للتاريخ، فقد أراد "الدوتشي" موسوليني نفخ الروح في الإمبراطورية الرومانية، متناسيا هو الآخر أن ما يندرس تاريخيا لا يعود، فالتاريخ لا يعيد نفسه، كما يعتقد البعض. ولماذا نذهب بعيدا في هذا الشأن، ولدينا مثال صارخ اليوم على سجناء التاريخ، أو المتعلقين بأهداب التاريخ من خلال تهذيب أحداثه انتقائياً، من أجل تحقيق أهداف سياسية تتعلق بإحياء الماضي لا بصناعة مستقبل متحرر من إرث الماضي. هذا المثل هو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (1954 ــ ). فالرجل بدأ بداية طيبة حين تسلم الحكم عام 2014 فقد نهض بالاقتصاد التركي نهضة جبارة، واكتسب شعبية واسعة سواء داخل تركيا أو خارجها، من حيث أنه يعبر عن الإسلام المستنير، القادر على التوافق مع العصر ومتغيراته، من خلال برنامج حزبه "العدالة والتنمية". وكان من الممكن فعلا لأردوغان أن يقدم نموذجاً للإسلام العملي المستنير، لو أنه بقي في حدود الدولة التركية، ولكن مرة أخرى فإن "وهم التاريخ" بدأ يلتف حول الطيب ،كما تلتف خيوط العنكبوت حول ضحيتها.

فمع كل هذه الشعبية، بدأ حلم بعث الروح في دولة الخلافة الإسلامية (العثمانية) يحتل ذهن أردوغان، وإذا كان مصطفى كمال أتاتورك (1881 ــ 1983) الذي يقول أردوغان بأنه يدين بالولاء التام لأفكاره العلمانية، قد ألغى الخلافة الإسلامية رسميا عام 1924 فإن أردوغان قد بدأ ينفخ الروح في إرث الدولة العثمانية، مستغلا شعبيته الجارفة في بداية الأمر، وكذلك العاطفة الدينية لدى الأتراك وفي الكثير من دول الإسلام، وخاصة دول العرب، وهنا بدأ "وهم التاريخ" يهيمن على ذهن أردوغان، وإذا كان الغازي أتاتورك قد ألغى السلطنة العثمانية والخلافة الإسلامية، فإنه هو باعث مجدها من جديد، وهنا نرى هتلر أو موسوليني يبعث من جديد، بل نرى أن سجن التاريخ، أو ما يراد من التاريخ قد بدأ يدق قضايا جديدة حول الطيب. وهم التاريخ هذا هو كل ما كان يحتل ذهن آية الله الخميني وهو يقود ثورة إيران عام 1979، ولكن حكاية التشيع السياسي وثأرات التاريخ في الوجدان الشيعي، قضية أخرى ليس هنا مجال الحديث عنها.

أما في عالم العرب، فحدث ولا حرج عن سجن التاريخ وأوهامه. فمنذ الصدمة الحضارية مع الغرب الحديث مع غزو نابليون لمصر والشام (1798 ــ 1801)، بدأ العرب يسألون أنفسهم ما الذي جرى؟ لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون، وكانت معظم الإجابات، عدا شذرات ليبرالية وعلمانية هنا وهناك، تدور حول التراث وكيفية المواءمة بين الإسلام وروح العصر، وكانت الحصيلة من كل هذه الإجابات أنه لا يصلح حال الأمة في آخر الزمان إلا بما صلح به حالها في أول الزمان، إنه سجن التاريخ ووهم التراث من جديد، بل أنه حتى مثقفين تنويريين مثل طه حسن (1889 ــ 1973) وكان يدعو إلى التجديد الشامل والتام كما يتضح ذلك في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" عام 1978 إلى اللجوء إلى التراث في أخرياته. ليس هذا انتقاصاً من التاريخ والتراث، ولكنه تحذير من الوقوع في سجن التاريخ وأوهام التراث، فبقدر إغرائهما، يصبحان شرك لصاحب السياسة، حين يلجأ إليهما كنوع من أوراق اللعبة السياسية، فللتاريخ أبواب عديدة يمكن الإطلالة عليه من خلالها، إلا أن أحد هذه الأبواب هو باب يؤدي إلى الجحيم، وهذا ما يفعله متطرفونا ومتطرفوهم، والكثير من لاعبي السياسة في عالمنا. وفي النهاية لا أجد حقيقة أفضل من قول الحق في وصفه الباب الأفضل للولوج إلى التاريخ: "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون" (سورة البقرة الآية 134).

المزيد من آراء