Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 إيزابيل الليندي تقود "سفينة نيرودا" الى شاطئ النجاة

رواية عن تاريخ تشيلي ومواجهات الفارين الاسبان وهي آخر ترجمة لصالح علماني

الروائية إيزابيل الليندي (موقع الكاتبة)

رواية "سفينة نيرودا – بتلة بحر طويلة" للكاتبة إيزابيل الليندي التي تعتبر آخر عمل أدبي ترجمه الراحل صالح علماني من الإسبانية إلى العربية. صدرت هذه الترجمة أخيراً في "طبعة خاصة لمصر"، عن مكتبة "تنمية" في القاهرة، بالتعاون مع دار الآداب في بيروت. تبدأ أحداث الرواية في عام 1939، مع نهايات الحرب الأهلية في إسبانيا، وظهور بوادر الحرب العالمية الثانية وتحول أوروبا إلى جحيم، حيث جهَّز الشاعر التشيلي بابلو نيرودا، سفينة وضع على متنها جماعة من المناضلين من إسبانيا فروا من بطش ديكتاتورها الجنرال فرانكو. وانطلاقاً من هذه المعلومة التاريخية، تشيد إيزابيل ألليندي روايتها، وبطلتها عازفة بيانو، برفقة طبيب، كانا بين الفارين بحثاً عن فرصة جديدة لحياة كريمة في تشيلي، التي يشبه موقعها الجغرافي في أميركا الجنوبية "بتلة بحر طويلة"، بتعبير نيرودا، الذي يحضر شعره في متن الرواية وفي مستهل كل فصل من فصولها.

عازفة بيانو وطبيب

ذلك اليوم الصيفي؛ الرابع من أغسطس (آب) 1939، بمدينة بوردو الفرنسية، سيبقى إلى الأبد في ذاكرة "فيكتور" و"روزر"، فقد كانا ضمن ألفي إسباني سينطلقون باتجاه تشيلي التي وصفها نيرودا في شعره بأنها "بتلة بحرٍ ونبيذٍ وثلجٍ متطاولة". يكتب تيرودا عن هذا اليوم "فليمح النقد شعري كله إذا بدا له ذلك، لكن هذه القصيدة التي أتذكرها اليوم لن يستطيع محوها أحد". هؤلاء الإسبان ستختلط دماؤهم بدماء التشيليين، وسيلعب اختيارهم النوعي من جانب نيرودا دوراً في الاستفادة منهم في نهضة تشيلي الحديثة في مجالات عدة. بعد خمسين عاماً من وصوله إلى تشيلي، عندما أجريت مقابلة تلفزيونية مع "فيكتور دالماو"، وقد بات أشهر جراحي القلب في هذا البلد، تحدث عن السفينة "وينيبيغ" التي نقلت ألفي إسباني فروا إلى فرنسا للنجاة بأنفسهم من بطش فرانكو، باعتبارها "سفينة الأمل"، مما يستدعي إلى الذهن سفينة نوح التي حملت الناجين من الطوفان، فكانت بذلك طوق نجاة للبشرية حال بينها وبين الفناء.

"روزر  بروغير" كانت أساساً راعية ماعز انتشلها أستاذ التاريخ "سانتياغو غوثمان" من بيئتها المجدبة حين لاحظ أن لها أذناً موسيقية وعهد إلى البروفيسور "مارسيل لويس دالماو" (مؤسس أوركسترا برشلونة السيمفونية الشبابية، بحسب الرواية) بمساعدتها على تعلم العزف على البيانو، فيما كانت زوجة "دالماو" تعمل في تعليم المتطوعين بميليشيات الجمهوريين القراءة والكتابة، وكان ابنه الأكبر "وليام" يقاتل ضد فرانكو وحلفائه من الإيطاليين والألمان، لكنه قُتل وترك "روزر" حاملاً بعد ما ارتبطا عاطفياً، وفي الأثناء كان شقيقه "فيكتور"، يعمل في تطبيب الجرحى خلف جبهات القتال، ويحلم بإتمام دراسته الطب.

تنتهي الحرب بانتصار فرانكو ويجد عشرات الآلاف من الإسبانيين، خصوصاً من إقليم كتالونيا ومنهم "آل دالماو"، أنه لا نجاة لهم إلا بالفرار نحو الحدود الفرنسية عبر طرق جبلية وعرة. وكان "دالماو" الأب قد وافته المنية عشية انتصار فرانكو، بينما آثرت الأم التخلف عن ركب النازحين، ليصل "فيكتور" و"روزر"، إلى بر الأمان ويجدان أن عليهما الزواج رسمياً ليكون لهما مكان في سفينة نيرودا في نهاية القسم الأول من الرواية الذي جاء تحت عنوان "حروب ونزوح" واشتمل على أربعة فصول في 135 صفحة من إجمالي 418 صفحة من القطع المتوسط تضمنت 13 فصلاً توزعت على ثلاثة أقسم غطت الفترة من أواخر الثلاثينيات وحتى عام 1994.

القسم الثاني؛ عنوانه "منفى وغراميات وفراق"، وفيه ستتقاطع مصائر "آل دالماو"، المتحدرة من كتالونيا، مع "آل دل سولار" (وهم من سلالة قشتالية باسكية)، وخصوصاً الابنة الصغرى "أوفيليا التي ستقع في حب فيكتور، وتنجب منه طفلة لن يُعرف عنها شيء إلا بعد نحو نصف قرن على ولادتها، لأنها أُعطيت لأسرة  تشيلية من أصول ألمانية بمعرفة جدتها وقس كاثوليكي لتتبناها درءاً للفضيحة، وسيقال للأم إنها أنجبت ذكراً مات عقب ولادته مباشرة.

ودائماً، سنجد في خلفية تلك الأحداث الاجتماعية، ظلاً سياسياً ثقيلاً، بما أن بداياتها تزامنت مع نهاية الحرب الأهلية الإسبانية، وانطلاق الحرب العالمية الثانية، التي سبق اندلاعها زلزالٌ وقع في تشيلي في يناير (كانون الثاني) 1939، تسبب في مقتل أكثر من عشرين ألف شخص وهدم مدن عدة، بينما خلَّفت مأساة إسبانيا مئات آلاف القتلى والجرحى واللاجئين. 

عودات وجذور

القسم الثالث عنوانه "عودات وجذور"، وتمتد أحداثه لخمسة فصول وتبدأ من عام 1948، وخلاله ستموت "روزر"، وقد تخطت الستين من عمرها للتو، متأثرة بالسرطان، عقب عودتها مع زوجها وابنها "مارسيل" من المنفى في فنزويلا على خلفية اتهام سلطات الجنرال بينوشيه للدكتور "فيكتور" بالشيوعية؛ لا لشيء سوى لأنه كان على صداقة بالرئيس المقتول سلفادور ألليندي. وسبق ذلك تفكير "فيكتور" في العودة إلى إسبانيا، لكنه حين زارها سائحاً وجد أنها تحولت خلال غيابه القسري عنها لسنوات طويلة، إلى بلد غريب عنه، وكان ذلك غداة موت فرانكو في 2 نوفمبر (تشرين الثاني) 1975، ومن ثم ترسَّخ في ذهنه أنه صار مواطناً تشيلياً، مثل ابن أخيه ويدعى "مارسيل" والذي يحمل اسمه هو رسمياً منذ مولده.

"مارسيل"، أصبح مهندساً متخصصاً في مناجم النحاس، ووجد بعد أن جاوز الخمسين من عمره أن له أختاً مِن علاقة "فيكتور وأوفيليا" العابرة.أما "روزر"، فأصبحت عشية رحيلها "أكثر تشيلية من أي مولود في هذه الأراضي" (الرواية صـ273)، وبات "وليام" بالنسبة إليها مجرد ذكرى، لتدرك أن الحب الأعمق في حياتها كان من نصيب شقيقه فيكتور. "كارمي" والدة "فيكتور"، تمكنت الأسرة من العثور عليها بعد سنوات طويلة من تخلفها عن النزوح معهم، ونعمت في سنواتها الأخيرة بالعيش مع أرمل من أصل كتالوني، يدعى "جوردي مولينيه"؛ بالقرب من ابنها وحفيدها، ونسيت تماماً أمنيتها بأن تدفن حين تموت في القبر الذي يحوي رفات زوجها في برشلونة. "أوفيليا"، رفضت أن تخبر أسرتها الأرستقراطية بأن "فيكتور"؛ صديق شقيقها الأكبر "فيليبة" هو والد الطفل/ة الذي/ التي في أحشائها. "فيكتور" نفسه حين أنهت "أوفيليا" علاقتها السرية به، لرفضه الهرب معها، ليعيشا في بلد غير تشيلي، لم يعرف أنها حملت منه. هو لن يعرف ذلك إلا وهو في شيخوخته، حين تطرُق امرأة؛ تحمل من ملامح "أوفيليا" الجسمانية الكثير، بابه وتخبره أنه أبوها. "أوفيليا" التي أصبحت فنانة تشكيلية معروفة، ستعرف أيضاً أنها أنجبت بنتاً، باعها القس لأبوين كانا محرومين من الإنجاب، ثم ما لبثا أن تمكنا من إنجاب طفلين، لا يشبهان "أوفيليا"، مما يدفع الأخيرة إلى الشك في أمر نسبها، حتى تعرف الحقيقة، وتبحث عن والديها البيولوجيين، حتى تجدهما، في الوقت الذي كانت جدتها لأمها تصر على العثور عليها بعد ما ثقل عليها الشعور بالذنب تجاه ما اقترفته بالتواطؤ مع القس الذي سيتبين أنه "باع" عدداً كبيراً من الأطفال غير الشرعيين لأسر كاثوليكية، بحجة منع الفضيحة عن الأسر الأصلية، وهي عادة من الطبقة العليا في مجتمع يتوارث الطبقية جيلاً بعد جيل.

هذه الرواية التي تعد أحدث روايات إيزابيل الليندي، المولودة عام 1942، هي ليست بالضرورة أنضج ما كتبت، خصوصاً وأنها تحتشد بتفاصيل من شأنها إرباك القارئ الذي ربما يجد أنها قريبة من رواية غابرييل غارثيا ماركيز؛ "الحب في زمن الكوليرا"، لجهة تيمتها التي تركز على قدرة الحب على الصمود في وجه تقلبات الزمن العاصفة. وبالنسبة إلى التفاصيل التي احتوتها "سفينة نيرودا"، سنجد أن كثيراً منها كان يمكن استبعاده، أو إيجازه، بما أنه يتعلق بأحداث "واقعية"، مثل تلك التي تتعلق بسلفادور الليندي وبابلو نيرودا، وارتباطهما بحلم إبقاء تشيلي ديموقراطية، ذلك الحلم الذي سرعان ما وأده انقلاب عسكري، حوَّل الفقراء في هذا البلد إلى "غير مرئيين"، في ظل نزوع رأسمالي يزيد الأثرياء ثراءً، على حساب غالبية أهل ذلك البلد. ومع ذلك تظل "سفينة نيرودا" عملاً يتسم ببراعة الوصف والتحليل والغوص في نفسيات شخصياتها الواقعية والمتخيَّلة، عبر سرد يتولاه راو عليم يحيط بأدق الأفكار والمشاعر. في ملحق من صفحتين، تقول ألليندي: "هذه رواية، لكن الأحداث والشخصيات التاريخية حقيقية. شخوص الرواية متخيلون، وقد استوحيتهم من أناس عرفتهم. كان عليَّ أن أتخيَّل قليلاً جداً؛ لأنني عندما قمت بالبحث المستفيض، وهو ما أفعله دوماً في كل كتاب، وجدتُ نفسي أمام فائض من المعلومات".                       

المزيد من ثقافة