لم يكن الدخان المتصاعد جراء انفجار بيروت قد اختفى بعد، عندما بدأت تعلو الأصوات المطالبة بتولّي لجنة دولية التحقيق.
كتلة المستقبل برئاسة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري كانت الأولى التي شكّكت بالتحقيق المحلي وطالبت بدولي، وانضم إليها رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الذي قال "لا نؤمن لا من قريب ولا من بعيد بلجنة تحقيق محلية ولا ثقة مطلقاً بهذه الحكومة وبأن تستطيع أن تجلي الحقيقة"، كما تحدث رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع عن "فقدان الثقة الكامل بالمجموعة الحاكمة"، معتبراً أن "الإدارات القضائية والعسكرية والأمنية والإدارية جميعها في موضع الاتهام".
سبعة خبراء و35 محقّقاً فرنسياً كُلّفوا بالتحقيق
مطلب التحقيق الدولي في انفجار بيروت الذي أجمعت عليه القوى السياسية المعارضة للسلطة الحالية، جاء على وقع زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الخاطفة إلى بيروت، مصطحباً معه 35 محقّقاً لتقفّي آثار التفجير الذي حصل، إضافةً الى سبعة خبراء فرنسيين، هم أنفسهم الخبراء الذين كانوا شاركوا في تحقيقات انفجار مصنع للكيماويات في مدينة تولوز الفرنسية عام 2001. وفي وقت كشفت مصادر قضائية لـ"اندبندنت عربية" عن أن المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات قد كلّف المحققين والخبراء الفرنسيين إجراء التحقيق، عُلم أيضاً أن تحقيقاً فرنسياً كان قد فُتح لدى النيابة العامة في باريس فور حصول الانفجار بعد تبلّغ باريس إصابة 23 مواطناً فرنسياً جراء ما حصل في المرفأ. ويؤكد المصدر القضائي أن لبنان ملزم بالتعاون مع القضاء الفرنسي الذي لديه الحق بالمشاركة في التحقيقات، عملاً باتفاقية التعاون الموقَّعة بين البلدين عام 2010.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الافتقاد إلى الخبراء فرض التحقيق الدولي
ويؤكد وزير العدل السابق البروفيسور ابراهيم نجار أن مطلب لجنة التحقيق الدولية يمكن أن يتحقّق بمجرد أن يطلب المدعي العام التمييزي اللبناني من خبراء ومحقّقين دوليين متابعة التحقيقات، على أن تحصل تحت إشرافه، تماماً كما حصل خلال عمل لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، ما يعني أن لجنة التحقيق الدولية لا تنزع صلاحية القضاء اللبناني، وليس غياب الثقة في السلطة الحالية هو وحده الدافع، بل الاستعانة بالمحقّقين الدوليين بدءًا من الفرنسيين فرض نفسه لأن لبنان يفتقر إلى الخبراء المطلوبين للتحقيق في هكذا انفجار. ويشرح نجار أن سلسلة الانفجارات التي حصلت في مرفأ بيروت، تتطلّب خبراء في الكيمياء والصواعق، لا سيما بعد ما تبيّن أن مادة نيترات الأمونيوم لا تشتعل وحدها ولا يمكن أن تنفجر بالشكل الذي حصل، إلّا إذا احتكّت بمادة تفجيرية أخرى، والتحقيقات بحسب وزير العدل السابق تحتاج أيضاً إلى خبراء في الصواريخ الباليستية للتأكد ما إذا كان الانفجار قد تسبب فيه صاروخ أو قنبلة أُطلقت على العنبر، ويجب الاستعانة بخبراء في التفجيرات من الجو للتحقّق من مصدر الصاروخ هل كان طائرة مع طيار أم طائرة مسيّرة؟
هل تكون التحقيقات مستقلة؟
ومن على منبر القصر الجمهوري وبعد لقاء جمعه برئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة حسان دياب، تحدث رئيس فرنسا عن تحقيقات شفّافة ومستقلة لمعرفة أسباب الانفجار الذي أوقع آلاف الضحايا، ولأن شكوكاً كثيرة تحوم حول خضوع المحقّقين المحليين، ومنهم المحقّقون العسكريون، إلى إرادة القوى الفاعلة في السلطة السياسية الحالية وفي مقدمها "حزب الله"، برز مطلب لجنة التحقيق الدولية التي تعني خبراء دوليين مستقلين غير خاضعين لسلطان القضاء اللبناني، الخاضع بدوره للسلطة السياسية.
أسئلة كثيرة مطلوب الإجابة عنها، لا يمكن إلّا لمحقّقين مستقلين أن يكشفوا عنها مثل أسباب تفريغ الباخرة حمولتها على مرفأ بيروت، وتخزين هذه الكمية الكبيرة من مادة النيترات لمدة ست سنوات ولصالح مَن، ولماذا تم الاكتفاء بمراسلة قضاة العجلة في بيروت وليس المدعي العام التمييزي الذي كان يمكن أن يبتّ ويتابع القضية؟ مطلب التحقيق الدولي يصبح أمراً واقعاً أيضاً إذا ثبتت فرضية ضلوع إسرائيل بهذا الانفجار، فإنّ القضية حينها لن تعود محلية، بل تصبح قضية دولية.
تغيير في معالم مسرح الانفجار
وتحدث ماكرون في ختام جولته اللبنانية، عن استعداد بلاده للمساعدة في التحقيقات وتأمين خبراء دوليين لهذه المهمة. ويؤكد مصدر قضائي في لبنان أنه يمكن الاستعانة بالاتحاد الأوروبي الذي باستطاعته أن يتحمّل أعباء وتكلفة اللجنة الدولية، كما يمكن أن يسهم في تسمية الخبراء الأوروبيين الذين قد يساعدون في التحقيق في انفجار مماثل، لكن مصادر قضائية لم تستبعد إمكانية حصول تغيير في معالم مسرح "الجريمة" قبل أن يبدأ الخبراء الدوليون والمحقّقون عملهم.
وتكشف معلومات لـ"اندبندنت عربية" عن أن الجهات الرسمية تأخرت في تطويق مكان الانفجار، وقد ترافق ذلك وفق شهود عيان مع حركة ناشطة للدراجات النارية التي منع أصحابها أيّاً كان من الاقتراب من المكان. وتقول المعلومات إنه لم تتم المحافظة على مكان الانفجار بالشكل المناسب ولم تكن هناك حرفية في تنفيذ هذه المهمة الضرورية والأساسية للتحقيقات، وانتشال أحد المواطنين حيّاً من البحر بعد مرور 24 ساعة على الانفجار خير دليل، إضافةً إلى أن لائحة المفقودين تحت الأنقاض لا تزال طويلة. كل ذلك لن يمنع الخبراء الدوليين وفق مصدر قضائي من إتمام مهمتهم عبر فحص التربة وخيارات أخرى متوفرة ويعرفها المحقّقون نتيجة خبرة طويلة.
التحقيق الدولي عبر مجلس الأمن
هل يحتاج مطلب لجنة تحقيق دولية إلى قرار من مجلس الأمن؟ ليس هناك ما يمنع ذلك، يقول وزير العدل السابق ابراهيم نجار، فمجلس الأمن بإمكانه أن يتّخذ قراراً كهذا بمعزل عن موقف السلطات اللبنانية، لأن صلاحياته تسمو على صلاحيات الدولة المعنية، خصوصاً إذا رأى تهديداً أمنياً يستدعي التدخل عبر قرار دولي، وهذا ما حصل عند اغتيال رفيق الحريري، إذ قرّر المجلس، بطلب من فرنسا، إنشاء محكمة دولية خاصة بلبنان وتكليف لجنة تحقيق دولية بالقضية بعدما اعتبر أن الاغتيال هو جريمة إرهابية دولية. فهل يعيد التاريخ نفسه؟