مع الذكرى الـ11 لإقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة أن المياه حقّ أساسي من حقوق الإنسان، ما زال عُشر سكان الأرض يعانون من شحّ مائي، وأكثر من ملياري إنسان يفتقدون مياه شرب مأمونة من بين 7.8 مليار شخص هم عدد سكان العالم هذا العام، بينما يفتقر ثلثا أنهار العالم العابرة للحدود السياسية لأي إطار تعاوني بين الدول المُشاطئة لها وفقاً للبيانات الصادرة عن الأمم المتحدة. وفي حين تؤكد المنظمة الدولية أن هناك ما يكفي من المياه للجميع وأن عدم كفايتها سببه سوء الإدارة والفساد والجمود البيروقراطي ونقص الاستثمار في البنية التحتية، يتزايد تعداد سكان العالم وتتضاعف الحاجة إلى تلبية متطلّبات المياه ومعها تتصاعد التوتّرات السياسية والصراعات المائية.
وعلى الرغم من نجاح الأمم المتحدة في حسم عدد من النزاعات الدولية المتعلّقة بالمياه، إلّا أنّ هناك حالات أخرى عجزت عن حلّها، فلماذا فشلت القوانين الدولية في حسم قضايا خلافية حول المياه؟ وهل أصبحت العوامل السياسية هي الفاعل الأكبر في قضايا المياه الدولية؟ وماذا يقول أساتذة قوانين المياه الدولية لـ"اندبندنت عربية"؟
المياه حق إنساني
في 28 يوليو (تموز) 2010، صوّتت الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة بغالبية ساحقة على قرار تاريخي يؤكد أن المياه من الضرورات الأساسية للحقّ في الحياة، ذلك أن قضية المياه لم تكن مشمولة في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتُمد عام 1948 على اعتبار أن مصادر المياه كانت متاحة للجميع.
لكن استنزاف هذه المصادر حول العالم مع تزايد الفقر وعدم المساواة وارتفاع معدلات استهلاك السكان للمياه، أدت إلى أزمة كاملة في حقوق الإنسان بحلول مطلع القرن الـ 21، ومن هنا ولدت الدعوة إلى تحقيق العدالة المائية والاعتراف بحقّ الإنسان في الحصول على كفايته من المياه للاستخدام الشخصي والمنزلي التي حدّدتها المنظمة الدولية بما بين 50 و100 ليتر لكل فرد يومياً، على أن تكون المياه مأمونة وبأثمان معقولة لا تزيد على ثلاثة في المئة من مجمل الدخل الأسري، وألّا تبعد أكثر من كيلومتر واحد من المنزل وألّا يستغرق الحصول عليها أكثر من 30 دقيقة.
جهود أممية
وظلّت الأمم المتحدة تعالج ولفترة طويلة، الأزمة العالمية الناجمة عن تزايد الطلب على الموارد المائية في العالم لتلبية الحاجات الإنسانية والتجارية والزراعية، فضلاً عن الحاجة إلى خدمات الصرف الصحي الأساسية.
وركّز كل من مؤتمر الأمم المتحدة للمياه (1977) والعقد الدولي لتوفير مياه الشرب والصرف الصحي (1981 -1990) والمؤتمر الدولي المعني بالمياه والبيئة (1992)، ومؤتمر قمة الأرض (1992) على هذا المورد الحيوي.
كما ساعد العقد الدولي للعمل، الذي حمل اسم "الماء من أجل الحياة"، 2005 -2015 على تمكين 1.3 مليار شخص في الدول النامية من الحصول على مياه الشرب المأمونة، ضمن إطار الجهود التي بُذلت لتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية.
ومن الاتفاقات التي تُعدُّ بمثابة المعالم الرئيسة في الآونة الأخيرة، جدول أعمال 2030 للتنمية المستدامة وخطة عمل أديس أبابا الصادرة عن المؤتمر الدولي الثالث لتمويل التنمية واتفاق باريس ضمن معاهدة الأمم المتحدة الإطارية المعنيّة بتغيّر المناخ.
تحدّيات ماثلة
غير أن المهمة الرئيسة التي يواجهها المجتمع الدولي الآن في مجال الموارد المائية، هي تحويل الالتزامات التي اعتُمدت، إلى إجراءات ملموسة يتعيّن تنفيذها على أرض الواقع لصالح الناس والنظم البيئية والمحيط الحيوي لها ككل، ذلك أن التعاون في إدارة المياه بين جميع أصحاب المصلحة وتحسين فهم التحدّيات الماثلة أمام المجتمع الدولي وتعزيز التعاون في مجال المياه، قد تساعد في بناء الاحترام المتبادل والتفاهم والثقة بين البلدان وتعزيز السلام والأمن والنمو الاقتصادي.
وعلى الرغم من أن المنظمة الدولية تقرّ بضرورة معالجة قضايا إدارة موارد المياه على المستويات المحلية والوطنية والإقليمية والدولية المناسبة، وإشراك جميع أصحاب المصلحة، بما في ذلك أصحاب المصلحة في الحكومة والمنظمات الدولية والقطاع الخاص والمجتمع المدني والأوساط الأكاديمية، وأن يكون اتّخاذ القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بطريقة تسعى إلى تحقيق التوازن في توزيع الموارد الطبيعية وتوزيعها بشكل عادل، إلّا أنّه لا توجد آلية دولية واضحة يمكنها إجبار الدول على التعاون ومراعاة حقوق الغير في قضية المياه.
غياب الآليات الدولية
فمن ناحية تعوّل المنظمة الدولية على التوافق بين الفرقاء على اعتبار أن التاريخ أظهر في كثير من الأحيان أن الطبيعة الحيوية للمياه العذبة هي حافز قوي للتعاون والحوار، مِمّا يُجبر أصحاب المصلحة على التوفيق بين أكثر وجهات النظر اختلافاً، وأن الماء يُوحّد أكثر مِمّا يقسّم الناس والمجتمعات، كما تعلّمت الدول على مرّ التاريخ كيفية تقاسم فوائد النهر للدول المتشاطئة عليه.
لكنها من ناحية أخرى تعترف بأنه على الرغم من وجود موارد مائية كافية على كوكب الأرض لتوفير الأمن المائي للجميع، لكن ذلك لا يصبح حقيقة إلّا إذا غيّرت الدول والمؤسسات مفاهيمها لإدارة المياه، وأن القضية الرئيسة كانت ولا تزال، تطوير قواعد السلوك للتعامل مع النزاعات بالطرق السلمية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هل من دور لمحكمة العدل؟
وتختصّ محكمة العدل الدولية بنوعين من القضايا، أولها القضايا الخلافية التي تُصدر فيها أحكاماً ملزمة بين الدول التي وافقت بشكل مُسبق على الخضوع لأحكامها، وثانيها، الفتاوى الاستشارية التي تُقدم فيها المحكمة قرارات مُسبّبة ولكنها غير ملزمة.
وتُعتبر محكمة العدل الدولية الهيئة الأقل فعالية في الأمم المتحدة، إذ عانت المحكمة التي أُنشِئت بعد الحرب العالمية الثانية لتكون الذراع القضائية للأمم المتحدة، من أوجه قصور مهمة جعلتها الهيئة الأقل فعالية في الأمم المتحدة، أبرزها أنه يجب على الدول المتنازعة الموافقة على المثول أمامها والالتزام بقراراتها، لكنها مع ذلك نجحت في حلّ نزاعات دولية أخرى عندما وافقت الأطراف المتخاصمة على التحكيم أمامها.
وعلى الرغم من أن المادة 94 من ميثاق الأمم المتحدة تنصّ على أن يتعهّد عضو الأمم المتحدة بالامتثال لقرار المحكمة في أي قضية يكون طرفاً فيها وأن الأحكام نهائية وغير قابلة للاستئناف، إلّا أنّه ما من طريقة تمكّن محكمة العدل الدولية من إنفاذ قراراتها سوى التزام الأطراف طوعاً أو خوفاً من تداعيات دولية.
ماذا يقول الخبراء الدوليون؟
ومع بزوغ أسئلة عدّة حول قدرة القوانين الدولية على معالجة الأزمات المائية والصراعات الدولية الناشئة حولها وما إذا كانت القوانين الدولية قد أفلحت في السابق، توجّهت "اندبندنت عربية" لاستخلاص إجابات من خبيرين أميركيين متخصّصين في القانون الدولي للمياه ويتمتّعان بسمعة عالمية مرموقة، أولهما هو جبرييل إكستاين، أستاذ القانون الدولي للمياه في جامعة تكساس إي أند أم، وعضو المجلس التنفيذي في الرابطة الدولية لقانون المياه.
أما الخبير الثاني، فهو ريت لارسون، أستاذ القانون الدولي للمياه في كلية ساندرا داي كونور في جامعة أريزونا، وكبير الباحثين في مركز "كيل" للسياسات المائية في معهد موريسون للسياسات العامة.
القانون أداة للسياسة
ويرى البروفيسور جبرييل إكستاين أن القانون الدولي ليس مثل القوانين المحلية للدول، لأن الدبلوماسية أنشأته، ولكن من دون الآليات القضائية والتنفيذية الإلزامية الموجودة في قوانين معظم الدول، حيث لا يوجد حكم إلزامي في الانتهاكات الدولية المزعومة، ولا توجد قوة شرطة لفرض القانون، كما أن الفصل في النزاعات الدولية عادة ما يكون طوعياً، بمعنى أنه يجب على الدول الموافقة على عرض نزاعها أمام المحكمة الدولية، ويجري التنفيذ عادةً عبر الوسائل الدبلوماسية الدولية والضغوط السياسية والاقتصادية والتجارية.
علاوة على ذلك، فإنّ القانون الدولي هو أداة للسياسة، يمكن للدول استخدامها لتحقيق أغراضها السياسية، وقد تكون هذه الأغراض مثالية وعادلة، ولكن في أحيان أخرى لا تكون كذلك بدرجة كبيرة، ولهذا فإن فعالية القانون الدولي تعتمد على اليد التي تمارسه وتحرّكه، إذ يمكن اللجوء إليه لتعزيز أو إحداث توازن ما بين قوى مختلفة، كما يمكن استخدامه لوضع قيود على سلوك دولة ما بصرف النظر عمّا إذا كان هذا السلوك مقبولاً أو غير مقبول، ولكن فاعلية القانون الدولي يمكن تجنّبها والتحايل عليها، وأحياناً أخرى يجري تجاهلها من دون عقاب.
ما نصيب المياه العادل؟
وبالنسبة إلى قانون المياه الدولي، يقول الأستاذ في جامعة تكساس إن الدول المتشاطئة التي تشترك في المجرى المائي الدولي مُلزَمة بتقاسم المياه بطريقة عادلة، ومع ذلك تظلّ هناك ثغرة في معرفة نصيب المياه الذي يُعدُّ منصفاً وعادلاً لكل دولة متشاطئة في حوض نهر مُعين.
ويشير إكستاين الذي يرأس أيضاً رابطة المصادر المائية الدولية، إلى عدم وجود قانون يحدّد بالضبط كمية المياه التي يحقّ لكل دولة الحصول عليها بخلاف القول إنها تستحقّ حصّة عادلة، وهذا يعيدنا إلى الدبلوماسية والسياسة والمفاوضات التي تتمّ بحسن نية وتستطيع أن تحقّق هذا الإنصاف وتحديد مقدار المياه التي يحقّ لكل دولة الحصول عليها في حوض النيل أو حوض الميكونغ أو حوض الفرات.
أما البروفيسور ريت لارسون، فيوضح أن الوضع الدولي والدبلوماسية المائية والقضايا الجيوسياسية هي ما يقود ويحرّك القانون الدولي للمياه نحو الأفضل أو الأسوأ، ويدلّل على ذلك بأن الولايات المتحدة والمكسيك توصّلتا إلى اتفاق بشأن تقاسم الأنهار عام 1944 في ظلّ الحرب العالمية الثانية، كما وضع البلدان حدّاً لنزاع حول مستويات الملوحة في الأنهار عام 1977، في ظلّ حظر النفط الذي فرضته منظمة أوبك، مؤكداً أنه غالباً ما تتعلّق النزاعات الدولية حول المياه بما ترمز إليه من سيادة أكثر من كونها نزاعاً على الماء في حدّ ذاته.
متى نجحت قوانين المياه الدولية؟
ويؤكد بروفيسور لارسون أن قوانين المياه الدولية حقّقت بعض النجاحات في التخفيف من النزاعات الدولية على المياه، فعلى سبيل المثال، جرى التفاوض على معاهدة مياه نهر السند وتوقيع الهند وباكستان عليها، حتى عندما كانت هاتان الدولتان في حالة قتال عام 1960، كما لا تزال لجان التعاون المائية بين إسرائيل والأردن التي أُنشئت في معاهدة السلام لعام 1994 فاعلة، ونجحت المفاوضات الأخيرة بشأن حوض نهر كولورادو بين الولايات المتحدة والمكسيك في تأسيس نظام تستطيع الأخيرة بموجبه تخزين بعض مياهها خلف السدود المائية الأميركية، ووافقت المكسيك على المشاركة في خفض حصّتها من المياه خلال سنوات الجفاف.
في المقابل، يشير بروفيسور إكستاين إلى معاهدة نهر السند، التي بمقتضاها التزم البنك الدولي المساعدة في اختيار أحد المحكمين لآلية تسوية المنازعات، كما أن النزاع الأخير بين البلدين تم التعامل معه بموجب تلك المعاهدة بمساعدة البنك الدولي.
فضلاً عن ذلك، كان هناك عدد من القضايا التي عُرضت على محكمة العدل الدولية والتي حلّت النزاعات حول المجاري المائية الدولية المختلفة، ومن أمثلة ذلك الخلاف بين كوستاريكا ونيكاراغوا حول بناء طريق في كوستاريكا على طول نهر سان خوان.
ويعتقد لارسون أن المياه غالباً ما تكون حافزاً للتعاون أكثر من كونها سبباً للصراع، ولم يكن من قبيل المصادفة أن حضارات البشر الأولى نمت حول الأنهار الصحراوية، حيث تعلّم فيها البشر العيش معاً، لأن التعاون كان سرّ البقاء.
نزاع مياه أم سيادة على النيل؟
ويعتبر لارسون أن دور المياه كرمز للسيادة وتأثير السياسة والدبلوماسية في إدارة المياه العابرة للحدود، يلعبان دوراً في النزاع حول سدّ النهضة الإثيوبي الكبير (GERD)على اعتبار أن فعالية قانون المياه لحلّ هذه المسألة مقيّدة بقضية السيادة ومسائل سياسية وتاريخية أوسع إلى الحدّ الذي يكون فيه النزاع حول المياه أقل.
ويقول الخبير الدولي في جامعة أريزونا "مصر تمتّعت بهيمنة مائية في حوض النيل وكانت قادرة على تأكيد سيطرتها الكبيرة في الحوض، لكن عدم الاستقرار السياسي في البلاد أثناء وبعد يناير (كانون الثاني) 2011، سمح لجيران الحوض العلوي مثل إثيوبيا بالمضي قدماً في مشروع سدّ النهضة. ومع ذلك، فإن القانون الدولي للمياه قد يُسهم في حلّ هذه النزاعات أو التخفيف منها، ولكنه يعمل ضمن حدود البيئة السياسية والدبلوماسية والاقتصادية للدول المتنازعة".
هل التحكيم مُتوقّع؟
ويعتقد بروفيسور جبرييل إكستاين أن كلاً من مصر وإثيوبيا يرغبان في حلّ سلمي ولكن ينبغي عليهما إظهار مرونة ونيّة صادقة في المفاوضات حتى تتكلّل الجهود الدبلوماسية بالنجاح، كما يعتبر أن التحكيم أداة مفيدة جداً في حلّ النزاعات، ولكنه ينجح فقط عندما يكون الطرفان على استعداد للانخراط بحسن نيّة في عملية التحكيم، ويعتمد ذلك على موافقة الطرفين على الالتزام بنتيجتها قبل بدء العملية.
ويتساءل إكستاين عمّا إذا كان الطرفان يرغبان في التحكيم، مشيراً إلى أن هذا قرار سياسي محلي يجب على الدولتين اتّخاذه بناء على واقعهما السياسي الداخلي، إضافةً إلى علاقاتهما السياسية الدولية، ومن متابعاته لوسائل الإعلام عن الوضع السياسي الداخلي في كل من البلدين، فسيكون مندهشاً إذا وافق الطرفان على التحكيم والتزما مسبقاً نتيجة هذه العملية، نظراً إلى أنّ حكومتَيْ البلدين سمحتا بازدهار وجهات النظر المعادِية للمرونة، مِمّا يجعل أي مفاوضات أو تحكيم أمراً صعباً للغاية من وجهة نظره.