Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

استلهام الشرق والباروك والطبيعة في "جناح غويلّ" لغاودي

حديقة عامة مدهشة تنطلق من قصيدة كلاسيكية لتصب في جنون خلاق

مشهد عام لجناح غرويلّ في برشلونة (موقع ويكيبيديا)

إذا كان اسم المعماري الإسباني الكبير أنطونيو غاودي قد اقترن بمدينة برشلونة بحيث يستحيل على أي زائر لتلك المدينة الخلابة أن يتجول فيها دون أن تطالعه المآثر الإبداعية لذاك الذي كان ظاهرة لا تضاهى، ومن الصعب القول إن التاريخ قد جاد بمثلها، فإن ما يجدر بالزائر ملاحظته هو ذلك الترابط الوثيق بين اسم غاودي "البرشلوني"، واسم علم آخر من أعلام المدينة اشتهر هناك شهرة مبدعنا دون أن تكون له أي من المواهب التي كانت لغاودي. باختصار كان صاحب الاسم غرويلّ ثرياً معجباً بالعمراني إعجاباً فائقاً، دفعه إلى تمويل كل ضروب "جنون" غاودي ما نتج عنه عدد لا بأس به من إنجازات عمرانية كانت في قمة ما أنتجه غاودي في مساره، علماً بأن الأشهر بين تلك الإنجازات كان تلك الكاتدرائية التي لم تُنجز أبداً "كاتدرائية العائلة المقدسة" (ساغرادا فاميليا) الشامخة اليوم كقطعة دانتيلا جبارة في المدينة يزورها السواح بأكثر مما يزورون أي مبنى منجز للمعماري نفسه أو لأيّ من زملائه.

ومع هذا يبقى الموقع الذي يحمل اسمي غاودي، وغرويلّ معاً ويعد العلامة المميزة للمدينة، ذلك الجناح البديع والأنيق الذي يحمل اسم "جناح غرويلّ"، بصورة خلّدت اسم ذلك الثري إلى أبد الآبدين.

يتكون "الجناح" المذكور من مجموعة من مبانٍ، وحدائق، وساحات، ونصب، وزوايا بناها غاودي بين العامين 1884 و1887 في حي بيدرالبيس البرشلوني بتكليف وتمويل من الصناعيّ الثريّ يوزيبي غرويلّ لتكون في الأصل بيتاً ريفياً لعائلته. ومن المعروف أن على تلك المساحة من الأرض كان ثمة أساس للبيت يتألف من جدار، ومداخل للإسطبلات، وبوابة ضخمة صممها قبل ذلك المعماري خوان مورتوريل. ومن هنا كان على غاودي أن يشتغل انطلاقاً من ذلك الأساس مضيفاً إليه إنما غير مبدّل فيه. ولم يتردد غاودي بل راح يضع لمساته هنا وهناك على شكل جدران، وبوابات إضافية، ومساحات خضراء، وأخرى مشغولة برسوم فسيفسائية. كلّ هذا أتى لديه مستوحى من قصيدة شهيرة عنوانها "الأطلانتيدو" للشاعر الكاتالاني خاسنتي فرداغوير. ومن الطريف هنا أن نذكر كيف أن تلك كانت المرة الأولى التي يُنشأ فيها موقع بأسره انطلاقاً من قصيدة، علما بأن تفاصيل القصيدة أتت موزعة على شكل تماثيل صغيرة هنا ومنحوتات على أبواب هناك، أو أكشاك تشغل زوايا قد تكون مخفية في بعض الأحيان. ولعل غاودي رغب أن يتحول المكان بأسره إلى ما يشبه شبكة كلمات متقاطعة زارعاً سرّاً معيناً هنا، أو حلاً للغز ما هناك!

العمراني الذاتيّ ولعبة الحظّ

في نهاية الأمر جاء المجموع كله عملاً إبداعياً متكاملاً، هو الذي صار منذ بدايات القرن العشرين (1919) ملكاً للتاج الإسباني ما أدى إلى تحويله لاحقاً إلى حديقة عامة ربما تكون اليوم واحدة من أجمل الحدائق الأوروبية. إلى هذا يكشف لنا هذا المجموع كيف أن غاودي قد تعامل مع البناء، هنا ولا سيما في الأعمال التي حققها في عاصمة المنطقة الشمالية الشرقية من إسبانيا، كاتالونيا، وبخاصة "جناح غويلّ"، تعامل الشاعر مع القصيدة والرسام مع اللوحة، إلى درجة أن المرء يتساءل اليوم، أي حظّ كان ذاك الذي جعل غاودي يحظى بمن ينفق عليه كل تلك الأموال الطائلة حتى يحقق أعمالاً ذاتية إلى هذه الدرجة؟، وفي التحديد في مجال إبداعي من الصعب جداً أن يجد مبدعوه من يدعم تطلعاتهم إن هي تجاوزت المتعارف عليه - وبكلمات أخرى، ما هو على الموضة -، طالما أن الغالبية العظمى من الصروح العمرانية تشاد في أماكن عامة ويُتوقع منها أن تنال إجماع المواطنين دون أن تجرؤ على خدش عاداتهم البصرية.

فإذا كان غاودي «معمارياً مجنوناً» كما يصفه بعضهم بإدانة أحياناً، وبود وإعجاب في أحيان أخرى، يكون الاستنتاج المنطقي دون أدنى شك أن من موّله كان أكثر جنوناً منه. ومع هذا تمكن غويلّ أوزيبي غويلّ إي باسيغالوبي، وهو ثري كان صديقاً لغاودي ومعجباً بأعماله، من أن يسمح لهذا الأخير بتحقيق معظم أحلامه في مجال الهندسة العمرانية. والمهم أن هذه الأحلام التي كانت أقرب إلى الجنون في زمنها، تعد اليوم من مفاخر إسبانيا، ومن مفاخر العمارة العالمية، ناهيك بأنها أعطت غويلّ مكافأته إذ جعلت اسمه يدخل التاريخ من باب عريض.

أمجنون، أم عبقري أم الاثنان معاً؟

أما بالنسبة إلى غاودي فحسبنا أن نذكر إنجازات مثل «كاتدرائية العائلة المقدسة» و«فينكا غويل» و«بالاسيو غويل» و«بارك غويل» من دون أن ننسى بالطبع الصرح السكني المدهش المسمى «عمارة ميلا» في وسط العاصمة مدريد (ومعظمها أعمال ما كان لها أن تتحقق لولا وفاء غويلّ لصديقه غاودي وإنفاقه بسخاء عليه) حتى نضع غاودي في الصف الأول بين كبار معماريّي الأزمنة كلها.

فهل كان غاودي، كما يقول مناوئوه، مجنوناً استغل صداقة غويلّ وجنونه هو الآخر؟ أم كان عبقرياً أسس الجانب المعماري من "الفن الجديد"؟ هل كان مجرد ناسخ للفن الباروكي مطوّراً له لا أكثر؟ هل كان مبدع العمارة الفانتازية؟ أم كان الرائد الأكبر بين رواد المعمار الحديث؟

الحقيقة أن الجواب البسيط والوحيد الذي يمكن أن يخطر على البال هنا وينال إجماعاً، هو أن أنطونيو غاودي كان هذا كله في الوقت نفسه. والجواب الأبسط هو أن المرء إذ يتأمل أعمال غاودي اليوم، يجد نفسه من دون أدنى شك أمام أعمال تختلف عن كل ما عرفه فن الهندسة. غير أن هذا كله يجب ألا يبعدنا عن المؤثر الرئيس الذي اشتغل باكراً على موهبة غاودي، وهو الطبيعة. فالحال أن المشاهد حين يجد نفسه في مواجهة عمل لغاودي يحس بتأثير الطبيعة هذا إحساساً شاملاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

البشر قبل أي شيء آخر

لكن المهم هنا هو أن غاودي إذ استعار بنية العناصر الطبيعية، لم يفته في الوقت نفسه أنه، في الحقيقة، يبني من أجل البشر، ومن أجل الحياة اليومية لهؤلاء البشر، لا من أجل الزينة... فقط. ومن هنا أُثر عنه أنه حين كان في صدد البدء بتصميم عمل هندسي ما، كان أول ما يبدأ به وضع مجموعات من الأطفال والنساء والعجائز في أوضاع معيشية متنوعة، ثم يصورهم في مختلف تلك الأوضاع. أما الشكل النهائي الذي يتخذه تصميمه للعمل، فإنه إنما ينبني على تلك الصور، وعلى موقع أولئك الناس من المكان، حين يرسم غاودي تصميمه كانت تلك الصورة لبنية التوزع البشري فيها تشكل خلفية أساسية للعمل. ومن الواضح أن هذا الربط بين الطبيعة والبشر والمؤثرات الهندسية الخالصة هو الذي يجعلنا قادرين حين نتأمل أعمال غاودي من بعيد، على تخيل أنفسنا في إزاء غابات من البشر والشجر في آن معاً.

شخصية إشكالية

ولد أنطونيو غاودي العام 1852 في مدينة رويس الكاتالونية، ولقد تضافر فقر والده والمرض الذي أصيب به هو شخصياً، ليجعلا منه شخصية إشكالية منذ بداياته. وهو كان في السابعة عشرة من عمره حين توجه إلى برشلونة كي يبدأ دراسته الهندسة المعمارية. وهناك قيّض له أن يلتحق، حتى خلال دراسته، بمكاتب هندسية عديدة. ومن هنا كان تكوّنه صلباً، بحيث أنه لم يبق عليه بعد ذلك إلا أن يدخل الأبعاد الذاتية التي راحت تتكون لديه بالتدريج، أو بالأحرى، بمقدار ما كان في إمكانه أن يقنع أصحاب المشاريع بأفكاره. وهو في هذا يدين لغويل، الذي فتح أمامه الطريق، ومكّنه، خلال عقود، من أن يجعل من برشلونة نفسها نموذجاً هندسياً استثنائياً وفريداً. لكن عمل غاودي لم يقتصر على تلك المدينة الإسبانية، بل إنه حقق أعمالاً في مدريد، ثم في نيويورك، وفي العديد من الأماكن الأخرى، وحين رحل العام 1926 كان واحداً من أشهر المعماريين في العالم كله.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة