Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

وجودية وعواطف في "هل تحبون برامز؟" لفرانسواز ساغان

شيء من اللامبالاة في انتظار اللحظة الهوليوودية الحاسمة

مشهد من فيلم "هل تحبون برامز؟" مع إنغريد برغمان وأطوني بيركنز (موقع الفيلم)

في العام 1961 لم تكن فرانسواز ساغان في حاجة إلى مزيد من الشهرة في فرنسا والعالم. فخلال السنوات الخمس السابقة كانت قد تحولت من ظاهرة أدبية فرنسية تتخاطف المجلات الاجتماعية صورها وأخبارها، إلى حدث أدبي كبير معترف به  بصدور رواياتها المتتالية بوتيرة غير مسبوقة كما بتقليد العديد من كتّاب العواطف والطبقات المتوسطة كتاباتها في مناطق عديدة من العالم. فإذا أضفنا تسابق السينمائيين الفرنسيين إلى اقتباس نصوصها في أفلامهم، قد يحق لنا أن نتساءل: ما الذي كان ينقصها بعد؟ الجواب بسيط: اعتراف السينما "الأميركية" بها. وهو أمر حصل عملياً وعلى أرفع المستويات حين أقدم أناتول ليتفاك في ذلك العام بالذات على تحقيق فيلم من بطولة إنغريد برغمان وإيف مونتان وأنطوني بيركنز عنوانه يومها "وداعاً مرة أخرى" لكنه سوف يُعرف عالمياً انطلاقاً من عنوانه الفرنسي "هل تحبون برامز؟" فلماذا هذا العنوان؟ مرة أخرى الجواب بسيط لأن المخرج الأميركي الكبير اقتبس الفيلم من رواية فرانسواز ساغان التي تحمل هذا العنوان. والحقيقة أن ساغان والفيلم كما الرواية، جرّوا معهم في سيل الشهرة ذلك الموسيقي الألماني الكلاسيكي الكبير الذي من بعدما كانت سيمفونياته وكونشرتاته وقفاً على نخبة "السمّيعة" صار يُسمع في كل مكان وبخاصة من خلال تحويل أحد مقاطع الأدادجيو في واحدة من أجمل سيمفونياته (الثالثة بحسب ما نذكر)، إلى أغنية غنتها داليدا بين آخرين، بعد استخدامها في الفيلم.

ما الحب إلا للحبيب الأول

إذاً عبر تلك الرواية التي يمكن القول إنها لم تكن من أقوى أعمال فرانسواز ساغان، وصلت هذه الأخيرة إلى السينما العالمية والجماهير غير القارئة هذه المرة – وستصل حتى إلى السينما الهندية عبر اقتباس "مقرصن" للرواية نفسها في فيلم حمل عنوان "جاهان توم لي خالو" (!) -. والحقيقة أن في إمكاننا أن نلخص صفحات الرواية التي لم تكن طويلة على أية حال في بضعة سطور من دون أن يخلّ هذا لا بحبكتها ولا بسياقها. ونعرف أن الحبكات لم تكن نقطة القوة في أدب الكاتبة الفرنسية الشابة حينها: الحكاية حكاية مهندسة الديكور الأربعينية المطلقة بول والتي تعاني في هذه الأيام من صديقها روجيه المنشغل طوال الوقت إلى درجات بات معها غير قادر على زيارتها إلا بشكل نادر. إنها متعلقة به لكنها مستاءة منه هي التي لديها الكثير من أوقات الفراغ. ومن هنا حين تلتقي ذات يوم مصادفة بالشاب الخارج لتوه من المراهقة، سايمون، ابن زبونة أميركية ثرية لها، تعجبها فيه ولدنته وهيامه السريع بها وتعجرفه في الوقت نفسه، لكنها تبقي نفسها في منأى عنه حتى يدعوها يوماً إلى حفل موسيقي في صالة بلاييل تُعزف فيها موسيقى برامز. هنا لا يعود في وسع بول أن تقاوم... لكن علاقتها بالفتى ستكون قصيرة إذ ما إن يعود روجيه إليها حتى تختار حبها لهذا الأخير سنداً لحياتها مع شيء من الحنين إلى سايمون بين الحين والآخر. وبعد ذلك؟ لا شيء طبعاً سوى النكهة الساغانية التبسيطية والعواطفية التي لا تخفي شيئاً... بين السطور! فمن أو ما هي فرانسواز ساغان بعد كل شيء؟

وريثة شرعية لكوليت؟

لو كان في وسع المصادفات أن تدبر الأمور كما تشتهي، لكان في وسعنا أن نقول إن موت الكاتبة الفرنسية الكبيرة كوليت في آب (أغسطس) 1954، إنما أتى بعد شهور قليلة من بروز ظاهرة فرانسواز ساغان ليجعل الأمور تبدو وكأن صاحبة "شيري" لم تغمض عينيها إلا بعد أن تيقنت من أن صاحبة "صباح الخير أيها الحزن" ستكون خليفتها وتكمل الرسالة.

ففي ربيع ذلك نفسه العام كانت قلة من النخبة القارئة قد سمعت مسبقاً باسم تلك الفتاة ذات التسعة عشر ربيعاً، والتي انطلقت منذ ذلك الحين كالقنبلة، ليس في فضاء الأدب الفرنسي وحده، بل في فضاء الأدب النسائي في العالم أجمع. ولكن في ذلك اليوم جاء منح النقاد جائزتهم الربيعية لرواية "صباح الخير أيها الحزن" ليجعل فرانسواز ساغان كاتبة من أشهر كاتبات العالم، بل ليجعل منها ظاهرة اجتماعية - أدبية تكاد تلخص وحدها ما عجزت الوجودية كلها عن إيصاله إلى القطاعات العريضة من الناس.

كانت انطلاقة فرانسواز ساغان على ذلك النحو. ومنذ البداية كانت لهذه الكاتبة الخارجة لتوها من سنوات المراهقة، نزواتها، ولعل أشهرها لامبالاتها التامة حين نُقل اليها نبأ فوزها بـ "جائزة الربيع الأدبية الكبرى" لذلك العام، وهي الجائزة التي كانت أعطيت قبلها لألبير كامو. كان من الواضح أنه مجد لا يمكن لصبية مثلها أن تحلم به، فكيف كان رد فعلها حين أبلغت النبأ؟ قالت لتوها: حسناً... وماذا في الأمر؟ ثم حين طُلب إليها أن تأتي لتناول العشاء مع أعضاء لجنة التحكيم اعتذرت متذرعة بأن لديها موعداً مع أصدقائها. في النهاية جاءت إلى حفل العشاء فاستقبلها كبار نقاد ذلك الحين بكل آيات التبجيل. وفي تلك اللحظات بالذات ولدت أسطورتها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حرية المرأة والتدخين بنهم!

ارتبطت أسطورة فرانسواز ساغان على الفور بحرية المرأة وبالسجائر المدخَّنة بنهم، وبالحديث المتلعثم والسيارات السريعة. ولكن أيضا بالأدب النسائي المتحدث عن تجارب حياتية معيوشة، والمنتمي إلى نزعة وجودية قد تكون سطحية وبعيدة من الفلسفة الوجودية نفسها، لكنها تنتمي على أي حال إلى نظرة إلى الحرية والالتزام بالتحرر، وإلى لا مبالاة ترتبط جميعها، على الأقل بالصيغة الشعبية المتداولة للمذهب الوجودي. ولما كانت تلك السنوات (أواسط الخمسينيات) زمن انطلاقة المجتمع من قيوده وبدء المرأة بالبحث عن هويتها، ليس فقط تجاه الذكر - عدوها الأبدي - بل أيضاً تجاه المجتمع الذي تريد أن تتملكه (لا أن تفرض حضورها فيه فقط)، كان من الطبيعي لأدب فرانسواز ساغان أن يلاقي ما لاقاه من نجاح ساحق، أولاً عبر "صباح الخير أيها الحزن" ثم عبر نصوص مثل "ابتسامة ما" (1956) و"في شهر... في سنة" (1957) و"هل تحبون برامز؟" (1959) و"السحب الرائعة" (1961) وصولاً إلى "المرأة المزينة" و"مع أفضل ذكرياتي" وغيرها. في كل هذه النصوص، التي سرعان ما كانت تنقل إلى شتى اللغات ومن بينها اللغة العربية بالطبع، كانت فرانسواز ساغان تمزج الاجتماعي بالشخصي والثوري بالعاطفي، وكل هذا وسط نزعة أخلاقية لا شك فيها، تصل أحياناً إلى حدود الوعظ.

أثّر أدب فرانسواز ساغان، في ذلك الحين، في معظم الأدب النسائي في العالم كله، وكان له في لغتنا العربية مقلدات من كوليت خوري إلى ليلى بعلبكي، إلى غادة السمان (فقط في بداياتها). ولعل الأشهر بين الذين قلدوا فرانسواز ساغان... إحسان عبدالقدوس، الذي اتُّهم بأنه اقتبس بعض رواياته من نصوصها، وبخاصة روايتيه "أنا حرة" و"لا أنام". صحيح أن مثل هذا الاتهام ليس دقيقاً، ولكن من الواضح أن إحسان عبدالقدوس تأثر بموجة فرانسواز ساغان، فجعله تأثره هذا ينفح الأدب العربي بأعمال دافعت عن حرية المرأة وتتسم غالباً بنزعة وعظية لا مراء فيها.

لا تزال مفيدة؟

اليوم، بعد مضيّ أكثر من ستين عاماً على بداية وصولها إلى المجد الأدبي والاجتماعي الكبير، لم تعد مكانة فرانسواز ساغان، في الأدب الفرنسي، مثلما كانت عليه في ذلك الحين، بخاصة أنها ظلت واقفة عند مواقعها وحبكاتها العاطفية وصرخاتها التحرّرية، في زمن تجاوز كل هذا تجاوزاً كبيراً، بحيث باتت حبكات فرانسواز ساغان تبدو اليوم مفتعلة أحياناً، ومملة في معظم الأحيان. غير أن هذا لا يمنع من القول إن لها مكانتها الدائمة في الأدب الفرنسي، وهي مكانة جعلت أحد النقاد يكتب عنها قائلاً "إنها امرأة متمدنة تعرف كيف تفرق بين الخير والشر، بين الوهم والحقيقة، من دون أن تفقد برودة أعصابها. إنها، بمعنى من المعاني، لا تزال مفيدة لنا". فهل معنى هذا أنه لئن كان الزمن قد تجاوز فرانسواز ساغان الأدبية، فإن فرانسواز ساغان كظاهرة اجتماعية وليدة ذهنية عصر معين، لا تزال مفيدة حتى الآن؟ ربما.

 

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة