Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قصص أشبه بشريط مصور تعبره مشاهد واقعية وكوابيس

الكاتبة الأردنية سامية العطعوط تتبع الخط الفاصل بين الغرق والنجاة

وجه امرأة في مرآة كما رسمه بيكاسو

نحكي لأن لدينا حكايات، ولأننا نبتكر حكايات أخرى. لا نعرف متى ينبغي لنا أن نحكي كإخباريين، ومتى نفعل ذلك كمؤولين ومبتكرين. متى نكون بعيدين عن الحكايات ومتى نكون قريبين، أو حتى فصولاً من الحكايات نفسها. فجأة تتحول الحياة إلى مجموعة من الحكايات، لنعاود التفكير في ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، ولنكتشف أننا أعجز من أن نمتلك تصوراً واضحاً عن مستقبلنا، لأن ماضينا وحاضرنا يخبراننا أن المفاجأة كامنة في انتظارنا بعد شهقة أو طلقة أو كلمة.

من هنا نتساءل عن علاقة الأدب بكل ما قلناه؛ لماذا نكتب؟ وماذا نكتب؟ ما الذي يستحق أن يُروى وما لا يستحق؟ ومن يقرر أو يحدد؟ أسئلة كثيرة تتناسل ونحن نقرأ هذه القصص وغيرها. لكن هذه القصصص تجعلنا نحدق فاغري الأفواه، ونتساءل: هل حدث هذا لنا ذات يوم؟ وهل يحدث الآن؟ وماذا سيحدث لاحقاً وكيف؟ أحياناً تشعر أن سامية العطعوط لا تحكي، وإنما تصور أو تعرض شريطاً مصوراً نرى فيه أنفسنا وماضينا وحاضرنا، ولكننا لا نصدق ذلك.

تتكئ الكاتبة على كل ما يحدث للبشر على هذا الكوكب، وتخص أناسها وشعبها الممتد على مساحات واسعة من هذا الكوكب. تستغرب كل هذا الجنون الذي أصابنا فتصاب به. تخلع حياتها اليومية طبيعتها كما يفترض لإنسان أن يعيش، بأحلام إنسانية وطموح إنساني ومتع إنسانية وملذات وأشواق وصلات. هذا كله تفقده وهي تشاهد وتسمع ما يحدث لبني جنسها والعرب خصوصاً.

وجه ومرآة

تفتتح سامية العطعوط مجموعتها بمقطوعة شعرية تقول فيها: "كأي جثة مباركة/ مسكونة/ مطعونة/ محترقة/ مسالمة... أصحو من نومي العميق، متثائبة/ في طريقي إلى الحمّام، ألتفت إل المرآة، فلا أرى وجهي.../ طائر أسود يقف مكان رأسي/ أراني بعينيه/ فلا أملك نفسي من الضحك...أضحك.../ لن أحتاج إلى تنظيف أسناني بعد اليوم/ أرتب ريشي بعناية وأغادر المذبحة". هذا المفتتح القصير، يدخلنا مباشرة في التجربة. لا مقدمات بل علامات علينا أن نتبعها. جثة مباركة مطعونة محترقة مسالمة. هذا أول الطرق إلى الحكاية، خصوصاً حين نلحظ أنها تتحدث عن شخصص طبيعي "أصحو من نومي العميقق، متثائبة، ألتفت إلى المرآة"...

هذه المفارقة جزء رئيس من خطاب المؤلفة، وأساس من أساسات خطاب النص، وهما خطابان سيظلان ناقصين من دون خطاب القارئ كما يقول أمبيرتو إيكو ورولان بارت. حتى وإن كان خطاب القارئ ينطوي عل تأويل ما. نحن أمام شخص كان حتى صحوه من نومه العميق، يتصرف كأي آدمي على وجه الأرض. يصحو ويذهب إلى الحمام ويغتسل وينظف أسنانه ثم يتناول إفطاره ويذهب إلى عمله. لكن تلك الالتفاتة إلى المرآة فاجأته برأس طائر أسود مكان رأسه. هنا تبدأ الحكاية الغرائبية والسوريالية، بعد أن تمت الإشارة إليها برأس الغراب "الغراب اقتراحنا" وما تعنيه دلالة الغراب في اللاوعي العربي. لكن الكاتبة لا تكتفي بتلك الإشارة، فتلحقها بإشارة أخرى ربما تريدها أقل تعقيداً أو أيسر قولاً، لتمهيد الطريق تماماً أمام القارئ: هو دائماً الخط الفاصل بين الحرب والسلم، العقل والجنون، الغرق والنجاة... خط وهمي لا نكاد نراه، لكن حياتنا تتأرجح على جانبيه باستمرار هو الخط الفاصل. حسناً، فقد أدركنا أن هنالك عوالم غير عادية سوف نلتقيها في هذا الحكي الذي سنتحول شيئاً فشيئاً إلى أحد مكوناته، تماماً كما تحولت الكاتبة إلى مكون من مكوناته، حتى وإن كان لديها خطابها الخاص.

4 عناوين

ثمة أربعة عناوين رئيسة تندرج تحتها هذه الحكايات، وهنالك تواشج بين العناوين الأربعة: كراسة الحرب، ممحاة البحر، سير عائلة لم تعبر البحر، مدن في قعر الخوف. وتحت كل عنوان ثمة حكايات تنتمي إليه، بعد أن كست المؤلفة العناوين الأربعة بستارة شفافة تشير إلى التشابه والتلاقي أحياناً بين حكاية تحت عنوان رئيس ما، وأخرى تحت عنوان آخر. ولأنها تبدأ بكراسة الحرب، فلنا أن نعد أنفسنا لهذه الحرب التي تشير إليها. وهنا نعود إلى القصيدة الإفتتاحية، بحيث رأت في المرآة رأس طائر أسود مكان رأسها. فنحن إذاً أمام حرب من نوع آخر. حرب تختلف عن أسراب الطائرات والمدرعات والمدافع التي تلقي بحممها فوق أناس غير مرئيين. نحن أمام حرب يساهم واحد مثل سلفادور دالي في شنها بلا هوادة.

في هذه الحكايات يشم القارئ رائحة الموت والدم لأنها تملأ الأفق الحكائي كله. لا شيء طبيعياً يحدث لأحد. حتى القتل في هذه الحرب ليس قتلاً مألوفاً أو معروفاً أو قتلاً كأي قتل برصاصة أو بسيف أو بعصا وحجر. إنه قتل نابع من وحشية لا نعرف كيف كانت تختبئ تحت جلودنا طوال هذا الوقت من دون أن نحس بها أو ربما من دون أن نريد لغيرنا أن يراها، أو ربما من دون أن نريد لأنفسنا أن تصدق أنها موجودة حقاً.لكن الكاتبة تكشف مدى ارتباطنا بكل هذه الوحشية المتجذرة في باطن أرضنا. وفي قصة أخرى "الحوذي ضئيل الحجم" تقرأ حكاية إرثها التي تركها الآباء والأجداد، وتفاجئنا بمحو كل سطر تنتهي من قراءته، ليسيل على الورقات خيط دم بدل الحبر. أما العوالم فكلها تتعين في جزّ الرؤوس وكلاليب تعلّق منها الجثث المبقورة وجماجم تصطف طوابير طويلة!اللافت هو أن الراوية التي تفاجأ بتفاصيل الرعب والقتل والموت والدمار، تكتشف في لحظة عابرة أن وجنتيها لا يكسوهما لحم، وأن جسدها كله مجرد عظم، وأن كل تلك الصرخات المثيرة للرعب، ما هي إلا صرخات أناس تقوم الراوية بذبحهم بخفة حاوٍ!

حكايات موت

لا تختلف الحال في العناوين الثلاثة الأخرى، حيث حكايات راكبي البحر الهاربين من الموت إلى موت أكثر وحشية وبشاعة، والسبب واحد هو بحثهم عن مكان يتيح لآدميتهم فرصة الانبعاث من جديد، ليكملوا درب الحياة كسواهم من بني البشر. وكما كانت العوالم مثيرة للرعب لشدة غرابتها، فإن هذا هو ما أتاح للكاتبة أن تشكل عالمها بابتكار وإبداع يلائمان هذه العوالم. ففي إحدى القصص "العربة الخشبية ذات المقبضين" نلتقي برجل يجد له مهنة غريبة في الحرب. هو ليس جندياً ولا مقاتلاً ولا مسعفاً ولا علاقة له بالحرب، كأغلبية القتلى في الحكايات التي تمتلئ بموتى لم يقتلوا أحداً ولم يفكروا في قتل أحد. هذا الرجل يقترب من خط الجبهة، ومعه عربة خشبية بثلاثة دواليب، ومقبضَين يمسك بهما ليدفع العربة. كانت مهمته تكمن في انتظار سقوط قتيل ما. حينها يركض ويحمله ويضعه في العربة في انتظار قتيل آخر. لكن مشكلته تكمن في مقتل أحدهم بقذيفة، حيث عليه أن يعيد الجثة كاملة غير منقوصة، وفي هذه الحال يكون عليه أن يبحث عن الأشلاء مهما كانت صغيرة لأن هذا هو "شرط العمل في هذه المهمة". الطريف هنا أن الرجل اعتاد مهنته، وأخذ يعود كل مساء بعربته الملطخة بالدم والعابقة برائحة الموت، إلى منزله وعائلته، فهو له ابنة وابن مقعد على مقعد متحرك. يرش عربته بعطور رخيصة ثم يحمل ابنته وابنه ويطوف بهما شوارع المدينة "كنزهة ما بعد العمل". لكنه ذات نهار حين يعود ويطلق الزمّور الذي تعرفه أسرته، لا تطل ابنته من النافذة كما اعتادت. يصعد فيرى الكرسسي ساكناً وفارغاً وبقية الجثث ساخنة! هل سيكون عليه الآن أن ينقل الجثث في عربته؟ لقد انتهت الكاتبة من حكايتها، وظلت حكاية القارئ الذي قد يضيف لخطاب الراوية شتيمة ربما أو يتأمل ما حوله أو يتحسس نفسه أو يفكر في مستقبله وحياة أبنائه. إنه خطاب الفصل إن جاز التعبير. فحكايات القتل كثيرة، لكن أثرها لا يتوقف مع انتهائها، بل يتعدى ذلك إلى الما بعد. والمابعد هنا كثير ومتشعب ومثير وصاخب يعيدنا إلى ما سمّته الكاتبة الخط الفاصل في إشارة إلى حياتنا الجديدة التي نعيشها. إنها على حواف هذا الخط تماماً، حيث خطوة إلى هذا الجانب أو ذاك، تحيلك من حال إلى حال، من عالم إلى عالم. وهو ما يذكرنا بالخط الفاصل في جزيرة اليوم السابق لأمبيرتو إيكو، مع فارق جوهري هو أن الخط الفاصل عند إيكو يتعلق بالتزمين على الأرض، وبما يمكن أن يعنيه الفرق بين اليوم وأمس طالما كان الفاصل متراً ليس أكثر!

تنهي الكاتبة مجموعتها ببعض الأحلام التي لا تختلف عن العوالم الآنفة الذكر، وتختمها بجريمة قتل. هذا يعني أن القتل الذي بدأت به مجموعتها، تحول إلى أحلام مكرورة، وجرائم قتل متواصلة. ويعني أن نهاية الحكايات لا تعني نهاية القتل والموت والدم، فعليك أيها القارئ أن تنتبه، لأن آخر ما سوف أقوله لك أو أقوله عليك هو مجرد جريمة قتل، لتبدأ أنت بعد ذلك في صوغ خطابك الخاص، الذي سيدور في هذا المدار، مهما حاولت الإفلات أو الهروب، حتى وإن ابتكرت حكايات مختلفة وأشخاصاً آخرين.

المزيد من ثقافة