Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحرب الأهلية الباردة!

كل فرد فيها يرى في عدوه وفي من يريد أن يبقى على الحياد خائناً لا يمكن التعايش معه

يعبر النموذج اللبناني عن الحرب الأهلية الباردة (أ ف ب)

ولدتُ عقب الحرب الكبرى الثانية، بعقد من الزمان، لكن عشت مجمل عمري، والعالم في حالة حروب، صغيرة أو شبه كبيرة، فما بين عام 1945 في الحرب الكبرى الثانية، وعام 1989 إثر سقوط الاتحاد السوفياتي، سميت الحرب بالحرب الباردة، وهو مصطلح يُستخدم، لوصف حالة الصراع والتوتر والتنافس، التي كانت توجد بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وحلفائهما. وخلال الفترة بعد الحرب الثانية، ظهرت الندية بين القوتين العظيمتين، من خلال التحالفات العسكرية والدعاية وتطوير الأسلحة، والتقدم الصناعي وتطوير التكنولوجيا والتسابق الفضائي. ولقد اشتركت القوتان في الإنفاق الضخم، على الدفاع والترسانات النووية، والحروب غير المباشرة باستخدام وكلاء، فخلال السنوات التالية للحرب، انتشرت الحرب الباردة كحرب ساخنة، خارج أوروبا، إلى كل مكان في العالم.

وخلال هذه الحقبة الأوروبية الباردة، انتشرت جائحة حرب ساخنة، عُرفت بالحرب الأهلية، التي انتشرت بالذات عقب حرب التحرير، وما بعد خروج الاستعماري العسكري، وتَكونُ دول قومية على الطراز البرجوازي الأوروبي. لكن مصطلح الحرب الأهلية، كما الآخر الحرب الباردة، كان مصطلحاً رجراجاً، كثيراً ما وضع على سرير بروكست المُحلل، فالحرب الأهلية هي الحرب الداخلية في بلد ما، التي يكون أطرافها جماعات مختلفة من السكان. كل فرد فيها يرى في عدوه، وفي من يريد أن يبقى على الحياد، خائناً لا يمكن التعايش معه، ولا العمل معه في التقسيم الترابي نفسه. ولكن بتعدد وتنوع الأسباب المقدمة، لنشوء الحروب الأهلية، يبقى الحل الأكثر نجاعة لها على مدى العصور، التفاوض السلمي.

يكون الهدف لدى الأطراف المتصارعة، السيطرة على مقاليد الأمور، وممارسة السيادة، أما أسباب الحرب، فقد تكون سياسية أو طبقية أو دينية أو عرقية أو إقليمية، أو مزيج من هذه العوامل. وتتصف الحروب الأهلية بالضراوة والعنف، وبالنتائج الاقتصادية والاجتماعية المدمرة على المدى القريب، والمؤثرة بعمق على المدى البعيد، لأنها تشمل مناطق آهلة بالسكان، وتكون خاضعة لهجمات متقطعة وغير منتظرة، وتمزق النسيج الاجتماعي، فيحتاج المجتمع إلى عدة عقود من الزمن، لإعادة البناء والتوازن والوئام. وكثيراً ما تشكل الحروب الأهلية، فرصة لتدخل الدول الكبرى والمجاورة، في مجريات الأمور الداخلية، للدولة المعرضة لمثل تلك الحروب.

الحرب الباردة، زادت من وتيرة الحرب الأهلية، التي تعد أيضاً حرباً بالوكالة، بخاصة أن أغلب الحروب الأهلية، حدثت في الدول التي نالت استقلالها، عقب نهاية الحرب الكبرى الثانية، ومن ثم اندلاع الحرب الباردة، وكثيراً ما انقسمت بلاد الحرب الأهلية، بين مؤيد للعالم الحر بقيادة الولايات المتحدة، وبين مؤيد للعالم الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي.

وما بعد ختام الحرب الباردة، عممت القوى المنتصرة نظرية "نهاية التاريخ"، كنظرة تفاؤلية بانتصار الليبرالية، بالتالي ختام الصراع وسيطرة القوة الواحد الأحد، مما يعني انتشار السلام، لكن الأمر بات على النقيض، فقد زادت وتيرة الحرب بالوكالة: الحروب الأهلية. وزادت ظاهرة الحرب الأهلية الباردة (البيضاء)، التي هي عندي انقسام الدولة على نفسها، بتصعيد الصراع على السلطة، فتضارب المصالح بين الأطراف المتصارعة، وزيادة سيطرة العامل الأمني، والضمور الاقتصادي بهيمنة للفساد، وفي هذه الدولة المصابة يعم اللا استقرار، فتنتشر فيها حالة الحرب الأهلية الساخنة: "كل فرد فيها يرى في عدوه، وفي من يريد أن يبقى على الحياد، خائناً لا يمكن التعايش معه، ولا العمل معه، في التقسيم الترابي نفسه".

لكن سلاح ذلكم التصارع، يكون بالإقصاء والاستبعاد فهيمنة طرف، وإن حدثت بعض الحوادث تدخل من باب الإخلال بالأمن، وكثيراً ما ترجع من الطرف المهيمن، إلى أيد خارجية أجنبية معادية!، وأن الطرف الداخلي أداتها، بالتالي من دواعي إخماد، هذه الحرب الأهلية غير المعلنة، الركون إلى الحسم الأمني، مما يفاقم أوضاع البلاد، بخاصة الاقتصادية الهشة.

كما هو ظاهر، في النموذج اللبناني ثم التونسي، ما فيهما مرآة الحرب الأهلية الباردة: البنك المركزي، هبوط العملة، فقدان السيطرة على انهيارها، مما يؤدي إلى ربكة سياسية، وسياسية سوسيولوجية. وإذا ما ذهبنا مع نموذجينا، فسنجد على الرغم من التباين الصارخ بينهما، توحدهما أن القوة الرئيسة الفاعلة والباطشة فيهما، قوى سياسية دينية، أو على الأقل تلبس لبوس الدين. وعلى ذلك يأخذ التصارع وجهاً أيديولوجياً، كما في حالة الحرب الباردة، بأن يدعو "حزب الله" اللبناني مثلاً، إلى التوجه شرقاً من عتبة (قم)، فيما النهضة التونسية تحج إلى (الأستانة)، في استعارة تاريخية لعهد الإيالة، عند مواجهتها التهديد الغربي!

هكذا يبين هذان النموذجان، بشكل صارخ، الحرب الأهلية الباردة، التي كما بركان خامد في حال اضطرام، حممه ونيرانه الداخلية تأكله في سكوت، وما المسكوت عنه في حال كهذه إلا التسمية، أو المضمون، ما يخفيه ويموه الشكل ليس إلا، بالتالي تسقط الناس صرعى رصاص الفقر وتغييب الأمن، أي يكون الوطن، البيت المتصدع الأركان، خيمة مهترئة ظلها الجوع والخوف: "غياب المستقبل".

المزيد من آراء