في العام 1880 اعتُمِدَ يوم 14 يوليو (تموز)، وهو ذكرى سقوط سجن الباستيل في باريس، العيد الوطني في فرنسا. ومنذ ذلك الحين، اعتاد الفرنسيون إحياءه سنوياً تحيةً منهم إلى الآباء المؤسسين للجمهورية الذين تبلورت معهم مبادئ الدستور وحقوق الإنسان؛ ولتبقى ذاكرتهم حيّة جيلاً بعد جيل، تنبض بأهداف ثورتهم العظيمة التي قامت في أواخر القرن الثامن عشر لتغيّر منطق التاريخ.
في العادة، تتخذ الاحتفالات باليوم الوطني طقساً كرنفالياً يعمّه الصخب والفرح. الآلاف من الفرنسيين والسيّاح يتجمهرون في شارع الشانزليزيه في باريس إلى جانب رئيس الجمهورية، يراقبون بفخر العروض العسكرية التي يحييها 4000 جندي بدءاً من ساحة شارل ديغول، حيث نصب الجندي المجهول، وصولاً إلى ميدان الكونكورد.
لكن هذا العام، الحزن الفرنسي شديد، إذ ومع التدابير الصحية المتخذة بسبب انتشار فيروس كورونا، يفقد الاحتفال روحه وصخبه. المدعوون للتواجد في ساحة الكونكورد، هم من العائلات التي فقدت أحد أفرادها أثناء تأديته واجبه في مواجهة انتشار الخطر الوبائي، سواء كان ممرضاً أو طبيباً أو عاملاً في الدفاع المدني. ويقتصر الاحتفال على توجيه الشكر إلى أولئك الجنود الذين واجهوا بشجاعة عظيمة ومازالوا حتى اليوم يواجهون الفيروس على الأراضي الفرنسية. مع العلم أنه تمت دعوة وزراء الصحة من أربع دول استقبلت المرضى الفرنسيين وهي ألمانيا، سويسرا، النمسا، ولوكسمبورغ.
وبدلاً من العروض العسكرية على الأرض يتم الاكتفاء بطائرات تحوم فوق سماء باريس وتقوم باستعراضات احتفالية. وستستبدل الحشود الجماهيرية بكاميرات التغطية التلفزيونية، ففي حين كان يجتمع حوالي 5000 شخص سنوياً في كل مدينة من مدن فرنسا لمشاهدة الاحتفالات بالعيد الوطني، بات من المحظور اليوم التجمهر ولو لعشرات.
ثورة تمخّضت عن الخوف والأمل
لنفهم معنى وأهمية اليوم الوطني لدى الفرنسيين، لا بد من العودة إلى الوراء بمقدار ثلاثة قرون تقريباً، وتحديداً إلى العصر الذي وصفه الأديب البريطاني تشارلز ديكينز في افتتاحية روايته "قصة مدينتين" التي تسبق أحداثها الواقع معظمها في فرنسا، قيام الثورة بسنوات.
"كان أحسن الأزمان، وكان أسوأ الأزمان. كان عصر الحكمة، وكان عصر الحماقة. كان عهد الإيمان، وكان عهد الجحود. كان زمن النور، وكان زمن الظلمة. كان ربيع الأمل، وكان شتاء القنوط. كان أمامنا كل شيء، ولم يكن أمامنا شيء. كنا جميعاً ماضين إلى الجنة مباشرةً، وكنا جميعاً ماضين إلى جهنم مباشرةً. وعلى الجملة، فقد كانت تلك الفترة أشبه ما تكون بعصرنا هذا، حتى لقد أصرّ بعض مؤرخيها الأكثر صخباً على وصفها، سواء في الصلاح أو الطلاح، بصيغ التفضيل المانعة ليس غير".
بهذه العبارات يصف ديكنز عصراً تساوت فيه أسباب الحياة والموت، وصار فيها الخوف رفيقاً للأمل بالنجاة والانعتاق، حيث الحلم الذي تمخّضت عنه الثورة الفرنسية عام 1789 انتصاراً للإنسان وتقريراً لحقوقه كما لم يعرفها من قبل.
قبل الثورة، عايش الفرنسيون الظلم بكل ألوانه، لقد ذاقوه جوعاً، وبطشاً، وقمعاً. ويذكر من الأسباب الأساسية والمباشرة لاندلاع الثورة، محاولة حكومة لويس السادس عشر سدّ العجز الاقتصادي الناتج من قراراته وممارساته اللامسؤولة، من خلال فرض مجموعة من الضرائب على عامة الشعب وهم 98 في المئة من السكان، في حين كان يسمح لأصحاب النفوذ والسلطة الذين لا تتجاوز نسبتهم 2 في المئة فقط، بالتهرب من سدادها.
هذا التمايز الطبقي لم يكن في الضرائب فقط، فقد اعتمد النظام الملكي من أجل فرض سيادته وقوته على سياسة التفريق بين الطبقات الثلاث التي تألفّ منها المجتمع الفرنسي وكان لها ممثلوها في مجلس نواب ذلك االعصر وهي: (الأشراف، الإكليروس أو رجال الدين، وعامة الشعب). وكانت المناصب تمنح إلى أصحاب الطبقتين الأولى والثانية، بينما يحكم على أبناء الطبقة الثالثة بالعمل والخدمة مدى الحياة.
وأما القمع والبطش، فحدّث ولا حرج. وتكفي فكرة أن الفرنسيين عاشوا طيلة عقود تحت حكم المقصلة في مشهد مستمر من الرعب لا يحتمله بشر، لتقوم بدل الثورة ألف ثورة. إنه مشهد وصفه ديكنز في الرواية ذاتها، إذ كتب: "في شوارع باريس كانت عربات الموت تمضي في دمدمة خفيضة، غائرة، قاسية. كانت مركبات ست تحمل النبيذ اليومي إلى المقصلة. والواقع أن جميع الغيلان المفترسة الشرهة التي تخيّلها الإنسان منذ أن عُرف الخيال قد أُذيبت وأُفرغَت في هذا الصنيع المفرَد: المقصلة".
تراكم فظيع من سنوات الظلم أدّى إلى احتشاد شعبي بلغ ذروته يوم 14 يوليو عام 1789 عندما توجّه الثوار إلى سجن الباستيل وحرّروا السجناء الذين كانوا داخله. ومنذ ذلك الوقت تغيّر التاريخ، واتجه نحو تطبيق كلمات المفكّر والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (حرية، مساواة، إخاء) استمرت حتى اليوم كشعار يحكم دولة فرنسا ومواطنيها من الفرنسيين وغير الفرنسيين.
"كان ذلك شيئاً مستحيلاً، شيئاً جنونياً شيئاً من الغريب أن يقال. ومع ذلك آمن به كل الناس، وتحقّق بالفعل". هذا ما أكّده المؤرخ جول ميشليه في كتابه "الثورة الفرنسية" عن ليلة سقوط الباستيل التي وصف فيها سماء باريس قائلاً: "في مساء 13 يوليو كانت سماؤها لا تزال ملبدةً بالشكوك. أما في صباح 14 يوليو فلم تعد لديها شكوك. في المساء كان هناك اضطراب وهياج غير محدد الاتجاه. أما في الصباح فكان يشع فيه صفاء رهيب".
ثورة ضد الجوع ولأجل التنوير
كان الفكر التنويري في تلك الفترة من التاريخ، يسير جنباً إلى جنب مع حكم المقصلة، وفي كثير من الأحيان كان يتصارع معها ويُهزم أمامها للأسف. وتشير فئة كبيرة من المؤرخين الذين تناولوا أحداث الثورة الفرنسية، إلى أن المفكّرين والفلاسفة الفرنسيين قد مهّدوا لقيامها بسنوات عديدة، ناشرين أفكارهم التنويرية بين الناس. فالثورة لم تكن فقط انتفاضة جياع، لقد قام بها أناس ثاروا لأجل كرامتهم وحقهم بعيش حر وكريم.
فمن مونتسكيو الذي نشر رؤيته إلى السلطة القضائية الواجب فصلها عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، إلى فولتير الذي نادى بأهمية المساواة الاجتماعية والقضاء على حكم الفرد المطلق وتوزيع السلطة على منتدبين من أفراد الشعب، إلى جان جاك روسو الذي لم يخفِ نداءاته المستمرة بالديمقراطية وحكم الشعب نفسه بنفسه، وهو الذي قال في عقده الاجتماعي "إن الناس إذ يمكن أن يتفاوتوا قوةً وذكاءً فإنهم يتساوون عهداً وحقاً". حتى أنه عاش أيامه الأخيرة من حياته ملاحقاً من السلطات الفرنسية.
وكما كل الثورات، استحوذت الثورة الفرنسية على اهتمام بالغ من المؤرخين الذين أخذوا يعاينون أحداثها بحرص شديد. منهم من نصرها وقدّسها واصفاً إياها بأعظم الثورات، ومنهم من رأى أن العاملين النفسي والإعلامي لعبا دوراً لا يستهان به في توثيقها وإعطائها أكبر من حجمها. حتى أن البعض ومنهم المؤرخ الفرنسي كلود كيتيل قد قلّلوا من شأن أهم إنجازاتها؛ فاستهانوا بسقوط حصن الباستيل المنيع متغاضين عن كونه معتقلاً احتضن في زنازينه السياسيين والمثقفين التنويريين. ومختصرين إياه بكونه سجناً يقبع داخله المجرمون المرتكبون لجرائم السرقة والتعدّي وما إلى ذلك.
لكن أولئك قد نسوا ربما أن فولتير كان واحداً من المعتقلين الذين احتجزوا في الباستيل لأكثر من مرة ولفترات متفاوتة بسبب آرائه، الأمر الذي دفعه بعد خروجه من المعتقل أول مرة إلى مغادرة فرنسا باتجاه إنجلترا. وحين عاد مجدداً إلى فرنسا سجن في الباستيل بسبب كتابته مجموعة "الرسائل الفلسفية" التي ذكر عادل زعيتر في ترجمته لها إلى اللغة العربية أنها حملة صادقة على نظم فرنسا وطبائعها وآدابها السياسية في عصر فولتير، فكانت من أقوى العوامل في إيقاد الثورة الفرنسية وتوجيهها من نواحٍ عدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقلّبات الثورة
حاول لويس عوض أن يتناول في كتابه "الثورة الفرنسية" وهو آخر كتبه، أسباب ونتائج الانتفاضة: مؤكداً: "في عام 1789 كان سكان فرنسا نحو 27 مليون نسمة منهم 5 ملايين يعيشون في المدن ونحو 22 مليوناً يعيشون في الريف. ولم تكن ثورتهم مجرد ثورة اقتصادية وإنما كانت أساساً لإلغاء الامتيازات الإقطاعية التي كان يتمتع بها النبلاء ورجال الدين. وقد نجحت ثورتهم عندما قرّرت الجمعية الوطنية إلغاء الامتيازات الإقطاعية في جلسة 4 أغسطس(آب) 1789".
انتقلت عدوى الثورة من باريس إلى جميع المدن الفرنسية، وحقّقت نتائج لا تقلّ بأهميتها عن نتائج ثورة باريس. وفي يوم 26 أغسطس من العام نفسه، تمّ إعلان ميثاق حقوق الإنسان والمواطن، معلناً بذلك سقوط النظام القديم. وكان البند الأول فيه: "يولد الناس ويظلون دائماً أحراراً ومتساوين في الحقوق. وبناء عليه فالامتيازات المدنية لا يمكن أن تبنى إلا على المنفعة العامة".
ويمكن تقسيم الثورة الفرنسية وفقاً لثلاث مراحل، تبدأ الأولى من لحظة سقوط الباستيل إلى العام 1792، وقد طبّق فيها الحكم الملكي الدستوري، حيث أُسقطت امتيازات الملك في الحكم المطلق. وتمتد المرحلة الثانية من نهاية الأولى إلى العام 1794، وفيها أعلن قيام نظام جمهوري وإعدام الملك.
أما المرحلة الثالثة والتي توقفت عند تولي نابليون بونابرت السلطة في العام 1799، فيمكن وصفها بأنها شهدت ظهور البرجوازية التي قضت على الثوار.
ويشير كتاب "روح الثورات والثورة الفرنسية" لمؤلفه غوستاف لوبون إلى أن الإيمان بالعهد الملكي دام بعد الاستيلاء على الباستيل وبعد فرار الملك واتفاقه مع الملوك الأجانب، ولاحقاً بعد القبض عليه وإعدامه بسبب مجموعة من التهم من بينها بيانه الذي تركه يوم هروبه معلناً فيه تمسّكه بالحكم المطلق وبالنظام القديم. ويؤكّد إن رسوخ المشاعر الملكية في النفوس في كثير من مدن فرنسا ما عدا باريس طبعاً، أسهمت في نجاح نابليون بونابرت الذي جاء ليستولي على عرش الملوك السابقين، وليعيد جزءاً كبيراً من النظام السابق.
لكن وبغض النظر عن التقلّبات التي حصلت في مراحل الثورة الفرنسية وما بعدها، استطاعت هذه الانتفاضة أن تلغي الحكم الديكتاتوري في فرنسا وإلى الأبد، مستبدلةً إياه بنظام حكم جمهوري مدني وعلماني، يحترم حقوق الإنسان ويقوم على مبادئ الحرية، المساواة والإخاء.
واليوم تشهد ساحة الباستيل في باريس، خاليةً من سجنها المريع، على أن الشعب الفرنسي يستحق الحياة التي يعيشها الآن وهنا، حياةً من دون خوف ولا مقصلة فيها.