Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مهاجرون جزائريون في "أناشيد الملح" ينتحلون الهوية السورية ليهربوا  

العربي رمضاني في رواية عن المآسي اليومية للهجرة إلى أوروبا

مهاجرون يسعون إلى الهروب الى اليونان (يوتيوب)

يختار الكاتب الجزائري العربي رمضاني (1986) أن ينجز أول عمل روائي له، عن مسألة المهاجرين التي شغلت العالم الغربي، ولا تزال، وأشعلت وسائل التواصل الاجتماعي والصحافة مدة من الزمن،  انطلاقاً من صورة الطفل السوري القتيل (بل الشهيد) أيلان الكردي، على رمال شاطئ بعيداً من موطنه، هارباً من جحيمه المميت، مع أخيه ذي الخمس سنوات وأمهما، الغريقين أيضاً، في محاولة يائسة للعبور، على متن قارب، من شاطئ تركي قريب إلى جزيرة كوس اليونانية، لملاقاة الوالد والتدبير للهجرة إلى كندا.

تلك هي الخلفية المأساوية التي ينسج من خلالها الروائي الجزائري الشاب، العربي رمضاني، حكايات روايته الأولى "أناشيد الملح" (دار المتوسط)، مذكّراً القرّاء العرب والأجانب، بالمأساة الجارية فصولها إلى يومنا هذا، عنيتُ مأساة المهاجرين غير الشرعيين، العرب والأفارقة وبعض الآسيويين، ممن تقطّعت بهم سبل العيش في بلدانهم، وضيّقت الأنظمة عليهم وحرمتهم حقوق العيش الكريم، وحقّ حرية القول والتنقّل، والعمل، وجعلت الفساد نمط حياة قاتلاً طموح الشباب، يضاف إليها مأساة النزوح القسري لملايين السوريين فراراً من الحرب الطاحنة آمالهم ومستقبل أبنائهم ووطنهم، وبعدهم نزوح الشباب الليبي هرباً من الاقتتال الجاري بين ظهرانيهم، وهم لا يقوون على ردّه.

بالعودة إلى الرواية "أناشيد الملح"، يستفاد منها أنّ الرّاوي الوحيد فيها هو المؤلّف العربي رمضاني، وإن صرّح في مواقع معيّنة، من روايته، بأنه شخص آخر، (حسن يوسف) أو غيره، في سياق إخفاء الهوية الجزائرية عن الشرطة التركية واليونانية، خوفاً من إعادته إلى بلاده، ما دامت هويته الأصلية (الجزائرية) لا تتيح له قانوناً التمتّع بحقوق اللاجئ التي كانت تعطى، بالمقابل للاجئ السوري الذي يعاني، بحسب القانون الأوروبي، خطراً وجودياً ضاغطاً. ومن هذا القبيل كان ادّعاء الراوي، وجمهرة من المهاجرين الجزائريين، أنهم سوريون، وقد أتلفوا كلّ الهويات أو الأوراق الثبوتية وجوازات السفر التي تحمل أسماءهم وهوياتهم الحقيقية، بغية الاستحصال على تصاريح إقامة في اليونان، بعد عبورهم إلى تركيا، سالمين من مخاطر الغرق، واحتيال المهرّبين، فالاستقرار في بلدان أوروبا الغربية، جنّتهم البديلة عن "أوطانهم السجون" و"العدم والفساد المنتشران في ربوع هذه الجغرافيا" (ص15).

عقبات المهاجرين

 وإن أردنا وصف الحبكة القصصية الرئيسية في الرواية، لقلنا أن لا حبكة بالمعنى التقليدي للكلمة. إنما ثمة عقدٌ تعقبها حلول موقتة، هي بمثابة عقبات تعترض مسار المهاجرين، ومنهم الراوي الذي اختبر الهجرة غير الشرعية، وقاسى متاعبها، معنوياً وجسدياً، ونقل معاناة زملاء له، ومواطنين من أبناء جلدته، ممن ضاقت بهم السّبل، فاختاروا أقصر الطرق، في ظنّهم، لبلوغ تلك الجنّة، عنيت طريق الحرّاقة، بلغة الجزائر العامية، والتي تعني الهجرة غير الشرعية التي بات يعاقب عليها القانون الجزائري حبساً لثلاث سنوات. ثم راح يروي مغامرته، على شكل يوميات، تتوالى بتوالي المحطّات والمدن التي يضطرّ إلى النزول فيها، حتى ختام المغامرة، وحلوله في السجون اليونانية، لدى انكشاف هويته الجزائرية، عبر تقنية البصمة، وسعي السلطات اليونانية إلى إعادته وأمثاله من العالقين، إلى بلادهم.

 

إذاً، في الرواية التسجيلية "أناشيد الملح"، التي تصلح أن تكون سيناريو لفيلم تسجيلي طويل عن مأساة الهجرة غير الشرعية، لا وجود لبطل مفرد، أو بطلة، ولا شخصيات نموذجية مركّبة من سمات واقعية وأخرى متخيّلة ولكن قابلة للتصديق، وإنما ثمة شخوص، من لحم ودم، لمهاجرين تنتابهم مشاعر الخوف والهلع لعبورهم البحر الهادر بأمواجه المميتة، والفرح لبلوغهم شاطئ الأمان الأوروبي، والخيبة من صلف رجال الشرطة اليونانيين وقساوتهم، في مقابل تسامح المدنيين واستقبال رجال الدين (اليونان) المهاجرين في كنائسهم وأديارهم. أما الأتراك فقصّتهم مع الاتحاد الأوروبي معروفة، على ما يعيد روايتها الكاتب رمضاني، فهم يستثمرون مأساتهم على خير سبيل؛ ينالون من عملة اليورو ما لا يحصى لقاء منع لجوء عشرات الآلاف بل مئات الآلاف إلى أوروبا، وإبقائهم في المخيمات المنصوبة على تخوم جزر اليونان القريبة من البَرّ التركي، مثل ليسبوس وساموس وغيرهما، ويمنعونهم من عبور البحر خلسة إلى هذه الجزر، إلاّ لقاء عمولة لا يتوانى رجال الجمارك والأمن الأتراك عن المفاصلة بشأنها مع الحرّاقة، أو المهرّبين الأكراد بغالبيتهم العظمى.

حكايات عبور

"أناشيد الملح"، هي حكايات المغامرين بأرواحهم للهرب من جحيم بلدانهم، إنها حكاية بانغو الكونغولي، والسيدة الفلسطينية، والشاب الدومنيكاني، وحازم المصري، والكهل السوري، والتونسية وزوجها، والباكستانيين، وأبو علي من القامشلي، وفادي حسن من حلب الناجي الوحيد من عائلته، وصدّام، وحكيم بوفاريك الجزائري، وعبد النور البومرداسي، وعبدو الأوغندي، ومحسن، وياسين، وغيرهم الكثير. يروي الكاتب الجزائري الشاب رمضاني، بكلّ مشهد حكاية عبور إلى جنّة أوروبا بخاتمة فرحة، أو حكاية تنقلب مأساةً بموت بطلها غرقاً أو تحت عجلات القطار، أو حكاية خيبة يرتدّ أبطالها بحسرة عن الجزيرة اليونانية المنجى، فينقادون سجناء أذلاّء إلى بلدانهم، كما حصل للراوي الروائي وزملائه، بعد افتضاح هويتهم الجزائرية التي حاولوا عبثاً إخفاءها عن المحققين.

ولكنّ ما يبقى من الوصف البانورامي الواقعي الذي أجراه الراوي -الروائي- الناسج روايته بصيغة المتكلّم الجديرة باليوميات الصريحة- هو حالتان كبريان: حالة الانبهار من جمال المكان اليوناني، وحرّية النساء اليونانيات الجنسية وميلهنّ إلى الفرح والاحتفال، والإعجاب من تضامن الناس اليونانيين ورجال دينهم المسيحيين مع اللاجئين بعامة، في مقابل حالة التقزّز من قساوة الجنود اليونانيين وصلف رجال الشرطة، ومن اتّساخ السجون حيث يحتجز اللاجئون غير الشرعيين، ويُساقون إلى التحقيق باعتبارهم مجرمين. وتُسطّر في حقهم كلّ التهم الفضفاضة، تمهيداً لترحيلهم إلى بلدانهم من حيث هربوا، وأقسموا ألا يلتفتوا إليها ثانية، كما فعل الراوي!

ولئن كان الكاتب رمضاني أفلح في بثّ المظاهر الدالّة على الحداثة في أسلوبه، من مثل اعتماده سجلاً من اللغة هو الأقرب إلى المألوف، من دون أن يكون عامياً، مع الحرص على الأسلوب الصحافي التحقيقي، ومثل تقديم فصوله والمشاهد بقصائد من ناظم حكمت، ونوري الجراح، وقصائد نثر من شعرِه، حول مأساة اللجوء والهجرة، فإنّ إفراده مواقع في الرواية للتعليق على الأنظمة العربية، وسلوك بعض اليونانيين الإنساني، وحول ردود الفعل المتخلّفة لزملائه الجزائريين حيال حرية النساء الجنسية، وغيرها، مما يقع في خانة التعليم والتوجيه اللذين كان يستحسن إيكالها إلى خطابات الشخصيات وحواراتهم التي كانت تجري أحياناً بعامية (جزائرية) لا يفهمها كلّ القرّاء العرب. وكان مستحسناً وضع ترجمة لها بالعربية الفصحى، في الهامش، إن كان حريصاً على إيصال كلّ مضامين الحوارات إلى أغلب القرّاء.

وأياً يكن فإنّ الرواية الأولى للكاتب الجزائري العربي رمضان، تشي بإمكانيات في تخيّر المسائل الأكثر إلحاحاً على الصعيد الإنساني، من مثل الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، وفي شجاعته بمقاربتها، بحياته وعصبه ولغته وثقافته الغنية ورؤيته للعالم التي لا تزال قيد التكوّن.

المزيد من ثقافة