Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تجارة الرقيق ماضيا لا تزال تهز رواسب المجتمع السوداني

على الرغم من تلاشي الظاهرة إلا أنّ آثارها لم تغب

ينتهي شارع الزبير باشا عند ساحة الاعتصام بالقيادة العامة بجداريات تدعو إلى الحرية والانعتاق (حسن حامد)

نشأت حملة قادها نشطاء سودانيون لتغيير اسم شارع الزبير باشا رحمة بالخرطوم وهو تاجر رقيق معروف، لافتة إلى ضالعين كثر في مسرح الرقّ السوداني، وإلى أنّه على الرغم من تلاشي الظاهرة إلا أنّ رواسبها لا تزال عالقة بأفق التخيّل لمعنى الهوية والانتماء، وللمفارقة فإن شارع الزبير باشا الذي يمتد من "الخرطوم غرب"، ينتهي عند ساحة اعتصام القيادة العامة "الخرطوم شرق"، واحتوى إبان الثورة على جداريات التشكيليين من الثوار بلوحات تدعو إلى الحرية والانعتاق، والناظر إلى تاريخ السودان يستطيع أن يدرك أنّ لهذه الظاهرة إرثاً في المجتمع السوداني كان أبطاله سودانيين طالما نظر إليهم المجتمع بالإعجاب، وأبرزهم الزبير باشا نفسه الذي أثرى وتفاقمت ثرواته مع دخول الحكم التركي إلى السودان، وكانت ضحاياه قبائل شعب جنوب السودان وجبال النوبة، ثم جاءت الثورة المهدية وأسست لهذه الظاهرة وألبستها لبوساً دينياً، ووجد الزبير باشا دعماً قوياً زيّنه كمناضل في نظر كثير من السودانيين.

قصة الزبير باشا

تناول قصة الزبير باشا، البروفيسور بدر الدين الهاشمي الأستاذ بجامعة السلطان قابوس والمترجم لعدد من الأعمال التي كتبها أجانب عن السودان في سلسلة كتب "السودان بعيون غربية"، في إحدى ترجماته فصل من كتاب "ما وراء السودان" بقلم هنري سيسيل جاكسون، الذي عمل في مجال الخدمة المدنية في السودان لحوالي ربع قرن من الزمان (1907 -1931) وحكم مديريتي بربر وحلفا، وكتب جاكسون "عندما بلغ الزبير سن الـ 25 اتجه إلى جنوب السودان للعمل في التجارة، كما فعل قبله كثيرون، وكان في البدء يتاجر في بضائع وفيرة الربح مثل العاج (سن الفيل)، ومع مرور السنوات، بدأ سوق العاج في التدهور، واكتشف هؤلاء التجارأنهم سيجنون أرباحاً أعظم إن هجروا تجارة العاج (الأبيض) واستعاضوا عنها بتجارة العاج (الأسود)، فصاروا يهاجمون الأهالي ويصطادونهم ويسترقونهم لبيعهم بأسعار عالية، وكان ذلك عملاً يسيراً عليهم بالنظر لامتلاكهم أسلحة نارية قاتلة، بينما لم يكن لدى الأهالي للدفاع عن أنفسهم سوى الحراب والأقواس والسهام".

أضاف جاكسون "كانت لدى الزبير رؤية بعيدة المدى ليؤسس لنفسه مملكة في قلب أفريقيا، وعوضاً عن بيع من يقوم بأسرهم من رجال القبائل، كوَّن منهم جيشاً كان يأمل في أن يحقق به طموحه في تأسيس مملكته، وبعد أن انتصر في حوالي 120 معركة خاضها، أفلح في إخضاع كثير من مناطق بحر الغزال ودارفور ووداي، ومنع التجار الآخرين من الهجوم على الأهالي واسترقاقهم في المناطق التي يسيطر عليها".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ترسيخ الرق

وفي ظل حماسة الدعوة إلى المهدية والطموحات التوسعية للمهدي وخليفته، ساد بالإضافة إلى السبي الفردي، استرقاق القبائل بعضها بعضاً كنتيجة للحروب التوسعية، وفي ذلك ذكر المؤرِّخ الدكتور مختار عجوبة أنه في نهاية التركية وخلال عصر المهدية، أخذ السبي منحى منظماً أُوجدت له المبررات الدينية من قِبل المهدي نفسه، وتمادى فيه الخليفة عبد الله من بعده.

وفي كتاب مدعّم بالوثائق حمل عنوان "علاقات الرقّ في المجتمع السوداني"، كشف السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني، الراحل محمد إبراهيم نُقد أن "بعض الوقائع التاريخية والقضائية أثبتت أن ممارسة الرقّ كانت قبل مجيء الأتراك وِفق قانون متعارف عليه"، وذكر نُقد أن "الإدارة البريطانية أنشأت مصلحة مناهضة الرقّ التي انتقلت من القاهرة إلى الخرطوم عام 1903، وأعيد تنظيمها كإدارة وقوة شبه عسكرية بسلطات شرطة وصلاحيات قضائية نشرت فروعها في نهر عطبرة ومنطقة البحر الأحمر وسنار والروصيرص وكردفان وأعالي النيل، وكانت منطقة الفونج ومناطق أعالي النيل المحاذية لإثيوبيا، وتدخل فيها بعض المناطق الحدودية، مصدر تجارة رائجة في الرقّ استمرت حتى نهاية العشرينيات، ولكن استمر عناء حصر وتسجيل الرقيق حتى الثلاثينيات بسبب تحايل ملَّاك الرقيق".

ورقة الحرية

وبذلت إدارة الحكم البريطاني في السودان مجهودات للحدّ من تجارة الرقيق، إلا أنها سرعان ما تناست كل ذلك إثر افتتاح قناة السويس عام 1869، وعند مجيء الحاكم العام البريطاني للسودان تشارلز غردون (1875 – 1879)، شهدت فترته تورط القنصليات الأجنبية الموجودة في السودان مثل قنصليات بريطانيا وفرنسا والنمسا والولايات المتحدة الأميركية، في تجارة الرقيق بأن مكّنت منسوبيها من الحصول على امتيازات الحماية الأجنبية تحت ظلها فازدهرت هذه التجارة، ولم تفلح البعثات التبشيرية التي مرّت على السودان بتحقيق أهدافها، وهي إدخال أهل جنوب السودان في المسيحية، ومحاربة تجارة الرقيق، ومن تحقيق هدفها الثاني، وذلك لمقاومة الإدارات المحلية التي نشطت على يديها تلك التجارة.

كما وثّق نُقد لمذكرة رفعها في السادس من مارس (آذار) 1925 كل من عبد الرحمن المهدي جد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة، وعلي الميرغني والد محمد عثمان الميرغني رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي، بالإضافة إلى الشريف يوسف الهندي، إلى مدير المخابرات البريطاني في فترة الاستعمار البريطاني على السودان.

أهم ما جاء في مذكرتهم التي اعترضوا فيها على قانون إلغاء الرق "أن معظم الأرقاء الذين أُعتقوا أصبحوا لا يصلحون لأي عمل، إذ جنحت النساء منهم نحو الدعارة، وأدمن الرجال الخمر والكسل، لهذه الأسباب نحثّ الحكومة على أن تنظر باهتمامٍ في الحكمة من إصدار أوراق الحرية من دون تمييز، لأشخاص يعتبرون أن هذه الأوراق تمنحهم حرية من أي مسؤولية للعمل، والتخلي عن أداء الالتزامات التي تقيّدهم، وبما أن هؤلاء الأرقاء ليسوا عبيداً بالمعنى الذي يفهمه القانون الدولي، فلم تعد هناك حاجة لإعطائهم أوراق الحرية، نتمنى أن تأخذ الحكومة هذا الأمر بالاعتبار، وأن تصدر أوامرها لكل موظفيها في مواقع السلطة بأن لا يصدروا أي أوراق حرية".

آثار باقية

وكانت قضية الرقّ من أكثر التجارب مرارة في تاريخ المجتمع السوداني وأشدها ظلامية، وبما أن المجتمع كانت تلعب فيه مؤسسة الاسترقاق دوراً أساسياً سواء على مستوى الحياة الأسرية أو على مستوى الأحوال الشخصية أو الأنشطة الاقتصادية، فإن المرأة كانت الأكثر تأثراً بما تم وذلك في هدم مكانتها في البنية الاجتماعية.

ويوضح مختار عجوبة كيف أنّ الرقّ أخذ تبعاً لذلك الوضع أشكالاً مختلفة ما بين السبي والتملك، وذكر أنّه كانت لأمراء المهدية الآخرين أعداد متفاوتة من الزوجات الحرائر والسراري (الإماء) كيونس ود الدكيم والي دنقلا، والأمير محمد عثمان أبو قرجة، والزاكي طمبل الذي كان له من النساء فوق الـ 100 وبعد مقتله وزّعهنّ الخليفة على عبيده وعلى خاصته.

وقال البروفيسور منزول عسل مدير معهد أبحاث السلام بجامعة الخرطوم والمختص في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا لــ "اندبندنت عربية" إن دائرة الحملة العالمية العارمة ضد العنصرية التي نتجت من مقتل جورج فلويد على يد الشرطة الأميركية اتسعت وساهمت في تحول الغضب بسرعة ناحية الرقّ وتجارة الرقيق، وظهر هذا الغضب في بريطانيا عندما دمّر محتجون تمثالاً لأحد تجار الرقيق في مدينة بريستول الساحلية ومن ثم اجتاحت العالم عاصفة إزالة تماثيل كلّ من حامت حولهم شبهات العنصرية أو تجارة الرقيق، وشملت الحملة في السودان اسم الشارع.

وأضاف مدير معهد أبحاث السلام "السودان ليس استثناء فقد ظهرت أصوات تنادي بمحاكمة تاريخية للزبير باشا، وبإزالة اسمه عن الشارع، وهي لا تعدو أن تكون شيئاً رمزياً قد تشبع رغبات البعض لكن الآثار الكارثية للرقّ كمؤسسة لا تزال تؤثر في العلاقات الاجتماعية في السودان وسوف تظل لزمن طويل، وعلى الرغم من أن التعليم كسر هذه العنصرية بدرجة ما، إلا أنها لا تزال موجودة وبدرجات متفاوتة في المجتمع".

وقال "في المقابل ظهر من يدافع عن الزبير باشا بالقول إنّه لم يكن تاجر رقيق وإنَّما حرّر الرقيق وكوّن منهم جيشه الذي سماه "البازنجر"، وأن ما يشاع من أنّه تاجر رقيق فالغرض منه تلطيخ سمعته لأنه وقف في وجه توسع الإمبراطورية البريطانية، بحسب قولهم".

مرارات تاريخية

وأوضح عسل أنه "إذا وضعنا المغالطات التاريخية جانباً، فإن الرقّ أثَّر بصورة كبيرة ومباشرة في تاريخ السودان المعاصر وشكَّل قضية اجتماعية لا تزال تلقي بظلالها على الحياة الاجتماعية والسياسية في السودان، فهو أحد الموضوعات الحساسة في البلاد خصوصاً للمعنيين بالأمر سواء من الأسر التي مارس أجدادها تجارة الرقيق، أو بالنسبة إلى المنحدرين من أسر تم استرقاقها قديماً".

وأبدى عسل تركيزاً على الجانب الاجتماعي بقوله "اجتماعياً، ينظر المجتمع باحتقار إلى كل من يُعتقد بأنه سليل أسرة مسترقّة. هذا يبدو جلياً في السؤال المتواتر عن الأصل والانتماء داخل السودان. فالسؤال عن القبيلة يخفي عنصرية فجّة لأنّها أحد أنواع التراتب أو التمايز الاجتماعي، وهناك قبائل مارست استرقاق قبائل أخرى وبالتالي ينظر المجتمع بصورة دونية إلى المتحدرين من قبائل يُعتقد أنّه تم استرقاق أفرادها، مثل قبائل الأنقسنا والفونج".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات