Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أحمد عطا الله يمزج سيرته الذاتية بالسيرة الهلالية

رواية "غرَّبْ مالْ" تراثية حديثة فازت بجائزة الدولة للآداب

السيرة الهلالية بريشة الرسام حسن الشرق (موقع الرسام)

"غرَّبْ مالْ: ما لم يحكه جرمون في السيرة الهلالية"، الرواية الفائزة أخيراً بجائزة الدولة التشجيعية التي يمنحها سنوياً المجلس الأعلى المصري للثقافة، صدرت عن دار "العين" في القاهرة، وفيها يمزج كاتبها أحمد عطا الله سيرته الشخصية والعائلية بسيرة بني هلال.

ومعالجة السيرة الهلالية أو التماس معها روائياً، سبق أن وجدناه في أعمال عدة، منها رواية "نوَّار اللوز: تغريبة صالح بن عامر الزوفري" للكاتب الجزائري واسيني الأعرج، التي صدرت في طبعة مصرية عام 2016 بعد صدور طبعتها الأولى في بيروت عام 1984، ورواية "مراعي القتل: ملحمة رجل ومأساة أمة" للكاتب المصري فتحي إمبابي، والتي فازت أيضاً بجائزة الدولة التشجيعية في 1995. وعولجت تلك السيرة العربية في مسلسلين تلفزيونيين أحدهما مصري والآخر سوري، فضلاً عن استلهامها في أعمال مسرحية عدة، مع توثيقها عبر الشاعر الراحل عبدالرحمن الأبنودي إذاعياً، ثم في كتاب، وشرائط كاسيت، استناداً إلى أشهر صيغها المروية في صعيد مصر بواسطة الشاعر جابر أبو حسين.

وعنوان رواية أحمد عطا الله يضع مفردتي "غرَّب" و"مال" في صيغة عامية بتسكين الحرف الأخير من كل مفردة، فتحيل الأولى إلى الاغتراب وليس إلى الاتجاه نحو الغرب الجغرافي بالذات، وهو ذلك الاتجاه الذي يشير في وعي الناس في الجنوب المصري إلى غرب النيل حيث يدفن الموت منذ العصور الفرعونية وإلى الآن. أما المفردة الثانية فهي تعني في تلك الصيغة العامية، الانكسار، وبذلك يكون الخروج  من الوطن انكساراً، يكاد يكون أفدح من الموت.

رحلتان بالتوازي

السرد الذي يفتتح تحت عنوان "لديَّ أمل أن أعود الطفل الذي كنته"، يتوازى على مستويين، الأول رحلة أبي زيد الهلالي ومعه أبناء شقيقته الثلاثة يحيى ومرعي ويونس من نجد إلى تونس لاستكشافها قبل العودة إلى بني هلال في نجد ليقودهم في تغريبة ستتعدد موجاتها لاحقاً على مدى زمني يمتد لنحو قرن من الزمان بغية استيطان ذلك البلد الغني بعدما ضرب القحط وطنهم. الهلالية. والمستوى الثاني يتضمن حكاية الصحافي "أحمد عطا الله" انطلاقاً من بداية ارتباطه عبر السوشيال ميديا بفنانة تشكيلية تدعى "عزيزة سلطان" في عام 2015 قبل أن يلتقيا في بيروت، لتتوارى تلك الحكاية في ظل انشغال عطا الله بإعداد معالجة درامية عن السيرة الهلالية تتكئ على صيغة حكيها المنسوبة إلى راوٍ من صعيد مصر لم ينل ما يستحق من شهرة، هو علي جرمون، وتربطها بسيرة عائلته ومحيطها المولع بغناء جرمون وأبنائه من بعده سواء عبر حفلات حيَّة أو شرائط الكاسيت. والمتأمل في اسم ذلك الشاعر المغني سيجد أنه مقترن باسم أحد أجداد أبي زيد الهلالي، وفي ذلك دلالة على ما شاع في صعيد مصر من الفخر بالانتساب إلى أحد أبطال السيرة الهلالية، ومنهم ذياب ابن غانم والزناتي خليفة، وترجع أصولهم جميعاً إلى نجد واليمن.      

واختار عطا الله غناء علي جرمون (1950- 2008) للسيرة؛ لأنه "لم يكن راوياً عادياً. كان متمرداً. أخذ ما أعجبه من السيرة، كما تروى في الصعيد، وراح يؤلف عليها قصصاً وأبطالاً وشخصيات جديدة، وخطوطاً درامية لم تكن موجودة من قبل" (الرواية صـ35)، إلا أن ذلك لا ينفي تأثره بجابر أبو حسين (1913- 1980) وتلميذه سيد الضوي (1933- 2016). يقول السارد الذي هو نفسه الكاتب: "في تسعينيات القرن التاسع عشر، اهتم الشاعر والروائي الإنجليزي، أوسكار وايلد بتلك القضية، حزَّ في نفسه ما أسماه انحطاط الكذب في الفنون، فقاد دعوة لإحياء فن الكذب الذي أضاعه أهله".

عطا الله، من قرية في الصعيد تسمى أبو دياب شرق، أحبَّ علي جرمون وصوته، الذي "يشبه صوت الرباب الذي يغني عليه، صوت أينما سمعته أعاد لي كثيراً من نفسي". كتب عطا الله ذلك وهو يعد معالجة تلفزيونية للسيرة كما رواها علي جرمون. ثم يدخل في حلقات تلك المعالجة التي يستهل الحلقة الأولى منها بـ"سبحان من لا يزول أبداً، ولا ينام/ لا نوم ليه ولا نملة/ خالق لنا نهر اسمه بحر/ وأنا أملا/ ساتر على كل عاصي/ وعالم بدبة النملة".

ثم تبدأ الحكاية بأن الشريف جبر يحفز السلطان حسن على غزو تونس، فيخبره بأن حاكمها الزناتي خليفة؛ "قتل مِن أخوالكم الأشراف 11 ألفاً في المساجد". لتبدأ من هنا "التغريبة"؛ الهرب من الجوع، "البحث عن وطن آخر يبث في أرواحهم الحياة"، بعما نال القحط من كل شيء في بني هلال، "إلا شجاعتهم". وفي موازاة ذلك، يسترجع عطا الله المولود في 1980، حكايات جديه لأبيه "يامنة أم إبراهيم"، و"محمد أب إسماعيل"، مستعيداً طفولته التي كانت هانئة إلى أن توفيَّ أبوه وتركه في سن الحادية عشرة، يواجه فقدان السند، ويضطر إلى الارتحال هنا وهناك، وراء لقمة العيش وإتمام دراسته التي يأمل بأن تكون جواز مروره إلى عمل مستقر يؤمن له الحد الأدنى من أسباب العيش الكريم. تقول له جدته لأمه "أمينة المريوطي": عايز تغرَّب، غرَّب، بس أحرس نفسك، العيال بتركب بعضيها هناك" (ص56).

روايات في رواية

تتضمن الرواية، روايات عدة، في سياق إعداد معالجة درامية من عشر حلقات للسيرة الهلالية، أو لجانب منها، بما أنها كاملة يصعب أن يحيط بها عمل درامي واحد، علماً أن صياغاتها المختلفة في مصر وشمال أفريقيا، وحتى في تشاد ونيجيريا، تتفق على خطوط عريضة وتختلف كثيراً في تفاصيلها وفي القوالب الشعرية التي تنتظمها.

ويحسب لعطا الله نجاحه في مزج ما هو غرائبي يجري هنا والآن، بما هو من صلب السيرة الهلالية بأجوائها الغرائبية. ويمكن أن نلحظ ذلك مثلاً في سرد متوازٍ، إذ نجد مشهداً ينتهي بأن يتوجه أحد أهالي القرية الفقيرة في صعيد مصر ويدعى "زرزور"، لصلاة الفجر، ليبدأ المشهد التالي بأبي زيد الهلالي وهو يهم أيضاً بصلاة الفجر على مشارف تونس، متنكراً في زي شاعر يحمل ربابة ومعه أبناء شقيقته الثلاثة على الهيئة نفسها. "زرزور"، هذا، يعيش غربته الخاصة، مع أنه لم يبرح قريته، لكنه فقير ومضطر لانتظار ما يصله من مال من ابنه الذي يعمل في الإسكندرية، مضحياً من أجل أبيه وأشقائه الستة المنخرطين في التعليم، فيما أبو زيد في غربة اضطرارية أيضاً من أجل التمهيد لنزوح قبيلته من القحط إلى الثراء. "يسافر الواحد منا في الأساس ليتخلص من أعباء الوصاية"، يقول أحمد عطا الله لنفسه، وهو يواجه تدخلاً من أحد زملاء غربته يكبره سناً، ويضيف: "بص يا مناع آب ضوي، ريَّ نفسك خالص، أنا محدش كبير عليَّ في الحوش ده. كل واحد يا خالي كبير نفسه" (ص134).

يساير عطا الله الوارد في السيرة الهلالية من نسب أعمال خارقة إلى أبطالها ومنهم أبو زيد الهلالي، مثل الاستعانة بالجن للخروج من مآزق يبدو تجاوزها مستحيلاً، فيما يصور أبا زيد بالذات على أنه يلقى رعاية خفية من شخصية أسطورية معروفة في الميثولوجيا الشعبية باسم "سيدنا الخضر"، توافيه كلما ضاقت عليه سبل النجاة، ويصوره واعياً بأن ما من خطر يواجه الوجود العربي أكبر من "خطر اليهود"، ويتجلى ذلك مثلاً في مخاطبته لـ"عامر الخفاجي" الذي يواجه أميراً يهودياً يريد أن يغتصب ابنته وأملاكه: "لا شيء أضر على أهلك وأمتك، أكثر من طاعتك لأعدائك، وخوفك ضرَّهم، وصبرك على ظلمهم، وتجرعك العار منهم".

في الختام يعود عطا الله، إلى ما بدأ به، أي اتصال تغريبته الشخصية، حتى بعدما أصبح صحافياً، وتردده في التجاوب مع عاطفة جيَّاشة تظهرها نحوه "عزيزة سلطان"، ما يحيل إلى حكاية "يونس" مع "عزيزة" ابنة سلطان تونس، وهي من أشهر حكايات السيرة الهلالية؛ "توقفتُ طويلاً أمام وجهها ونحن نشرب القهوة، توقفت مثلي من دون أن نتكلم. مددت يدي لأتلقف الرواية الموضوعة على الطاولة، كان في منتصفها قلم رصاص، وخط تحت جملة: لا أطلب من الله أن يجنبني المصائب، أطلب إليه فقط أن يجنبني القنوط"... وتلك الجملة - كما جاء في الهامش - هي من رواية "ليون الأفريقي" للكاتب أمين معلوف.

المزيد من ثقافة