Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هستيريا ما بعد الإنقلاب في رواية "اسطنبول إلى الأبد"  

الكاتب الفرنسي سيمون أوبان يسرد واقع تركيا وأجزاء من ماضيها

مواطنون في أحد أحياء اسطنبول (يوتيوب)

نعرف الفرنسي صامويل أوبان مخرجاً سينمائياً أنجز أفلاماً وثائقية مهمة، أبرزها "ملحمة" (2004)، "قصص حب أيضاً وأيضاً" (2014) و"آرا غولِر، ذات مرّة في اسطنبول" (2017)، وأحيا عدة محترفات تدريب على الإخراج السينمائي في تركيا وأرمينيا وكازخستان وقرغيزستان. وها هو يمنحنا رواية آسِرة صدرت حديثاً عن دار "أكت سود" الباريسية بعنوان "اسطنبول إلى الأبد"، وتشكّل نشيد احتفاء بهذه المدينة التي عاش فيها من 2013 إلى 2017، وفي الوقت نفسه، قراءة شخصية بصيرة للأحداث العنيفة التي عايشها في تركيا خلال الفترة المذكورة.

بطل الرواية، سيمون، هو صورة مطابقة لأوبان. ولأنه مثل مبتكره سينمائي فرنسي مستقرّ في اسطنبول، نراه يوثّق بعدسته الحياة حوله وخصوصاً المدينة التي يعيش فيها ويعشقها: "كيف يُعقَل أن نكون مسكونين إلى هذا الحد بمدينة لم نعش فيها سوى أربع سنوات ولا يربطنا بها أي نسب عائلي؟ يبحث من أجل معرفة لماذا تمارس اسطنبول إلى هذا الحدّ تأثيراً عليه، ولا يجد. يبحث ويجد في النهاية التالي: الانفتاح الذهني. وهذه مفارقة في مجتمع معجون بالشعور القومي، تحرّكه الدُغماتيّة الدينية. لكن رياح الحرّية تهبّ سرّاً داخله. أولئك الذين لا يسمحون لأنفسهم بالانغلاق داخل أخلاقية ضيّقة يُظهِرون حرية فكرية أكثر حيوية ممّا في الغرب".

حول سيمون، لدينا أولاً زوجته كلير وابنه الصغير أناتول. لدينا أيضاً أنوش، وهي فرنسية من أصول أرمنية أتت إلى تركيا لتحضير أطروحة دكتوراه في تاريخ الفن حول المهندس الأرمني ميمار سينان (1489 ــ 1588) الذي صمّم مساجد اسطنبول، ولا تلبث أن تتزوّج من فرحات، المحامي الكردي الذي تحوّل، بعد اعتصامات منتزه "ميدان تقسيم" في العام 2013، إلى صحافي  للمدافعة كتابةً عن حقوق الإنسان والأقليات في وطنه. لدينا أخيراً طلاب سيمون، الملتزمون سياسياً، الذين يتابعون تعليمه وإرشاداته داخل محترفه من أجل تصوير واقع تركيا اليوم، وفي مقدّمهم زينب المحجَّبة التي تكتشف أن جدّتها أرمنية الأصل فتقرر إنجاز فيلم وثائقي عنها، على رغم حساسيّة هذا الموضوع داخل مجتمعها المحافظ.

وهذا البحث عن الأصول هو الذي سيُقرِّب زينب من أنوش، على الرغم من اختلاف نظرة كلّ منهما إلى ماضي تركيا وحاضرها. تقارُب لا يخلو إذاً من مناوشات ومواجهات كلامية حادّة. لكن في الليلة التي تقع خلالها محاولات الانقلاب ضد أردوغان عام 2016، تختفي أنوش، فيطلب فرحات من سيمون مرافقته للبحث عنها في شوارع اسطنبول. وأثناء هذا البحث، يتبيّن لهما أن زينب، التي توجّهت أنوش للقائها قبل اختفائها، توارت أيضاً عن الأنظار. أين هما؟ هل ما زالتا على قيد الحياة؟ وهل لتواريهما علاقة في محاولتهما معرفة إن كانت جدّة زينب الأرمنية هي في الواقع أخت جدّة أنوش الضائعة؟

واقع معقد

القصة التي يسردها أوبان في روايته نتلقّاها من وجهة نظر سيمون (بصيغة المجهول)، ومن وجهة نظر أنوش (بصيغة المتكلّم)، وهذا من دون شك ما يفسّر حيويتها وترسّخها داخل واقع اجتماعي وسياسي معقّد ومتغيِّر، وما يمنحها أيضاً طابع الفيلم الوثائقي، نظراً إلى التصاق تسلسل الأحداث والأوضاع المسرودة فيها بالواقع. وفي هذا السياق، تنقلنا عملية السرد الفاتنة إلى داخل اسطنبول وتجعلنا نتآلف مع صخبها وغليانها بالحياة وتعدّديتها الثقافية، فنتذوّق مناظرها، نكهاتها، موسيقاها، أنوارها، أجواء مقاهيها وأحيائها... باختصار كل ما يجعل منها مدينة فريدة من نوعها.

وفي الوقت نفسه، تعرّي عملية السرد التحولات التعيسة التي ستشهدها هذه المدينة بعد انقلاب 2016، عن طريق مراقبة سيمون يوماً بعد يوم حوله هستيريا التوقيفات التعسّفية والقمع الأعمى وتكميم الصحافيين ومصادرة الحرّيات على يد حكومة أردوغان الاستبدادية، من جهة، وتفجيرات تنظيم "داعش" الانتحارية، من جهة أخرى. أحداث رهيبة لا تلبث أن توقّع الحياة في اسطنبول وتبدّد سحرها فتنغلق على نفسها وتفقد روحها: "لم يعد للمدينة التي يعرفها وجود. تم اختطافها. هل أنه أخطأ في تصوّرها منذ البداية؟ لعل اسطنبول ليست سوى خرافة أو سراب".

قيمة هذه الرواية تكمن أولاً في تمكّن صاحبها من دمج كل العناصر التاريخية والاجتماعية والسياسية والأمنية التي يستحضرها داخل نصٍّ مكتوب بلغة شعرية صورية، وفي جعلنا، بسرده الساحر، نتنقّل في اسطنبول كما لو أننا داخلها، فنعي الوضع المأساوي لتركيا عموماً اليوم عن طريق معايشتنا الأحداث المتعاقبة التي سمحت لأردوغان بممارسة استبداده من دون أن يفقد دعم جزءٍ كبير من الشعب التركي. تكمن قيمة الرواية أيضاً في قراءتها تاريخ اسطنبول القديم والحديث وإرثها المتعدد على خلفية مذابح الأرمن ومحنة الأكراد المزمنة في تركيا، وفي كشفها التناقضات التي تعبر المجتمع التركي وتصويرها كيف ينزلق شعبٌ بكامله في اتجاه التعصّب القومي، فيلوّح بعلمه في كل مناسبة ويمهّد بيده السبيل لحلول الدكتاتورية في بلده.

تكمن قيمة الرواية أخيراً في تعريف قارئها بأعمال فنانين وكتّاب أتراك كبار، مثل المصوّر الفوتوغرافي آرا غولِر والمهندس ميمار سينان والروائي أورهان باموك والرسام دفريم إربيل، وفي إثارتها جميع حواسه أثناء قراءتها، عبر الوصف الأخّاذ داخلها تارةً لرقص الدراويش الصوفي، وتارةً لرائحة القهوة التركية، وتارةً لتلاعُب الألوان الساحر على سطح مياه البوسفور...

في مكان ما من الرواية، يحثّ سيمون طلاب محترفه على "المحفاظة على غموض الواقع وتعقيده (...) والعمل أكثر على المحسوس منه على البرهنة" في أفلامهم. وهذا ما يفعله أوبان في "اسطنبول إلى الأبد" وما يفسّر نجاحه في تقاسُم حبّه معنا لمدينة تتجاوزه، مدينة "معلّقة بين شرقٍ وغرب، ساحرة في تناقضاتها، متألّقة في خلودها".

المزيد من ثقافة