Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأمطار والسيول في اليمن مواسم الفرح الباقي

لعلها اللحظات الوحيدة التي تبقت للمواطن لتبهج خواطره الكسيرة التي كدرتها ظروف البلد المضطرب

ظل الجفاف يشكل هاجس قلق وخوف لليمنيين (اندبندنت عربية)

يبتهج اليمنيون بلحظات هطول الأمطار، ويزهون طرباً تحت مزاريب ما تجود به سحائب الغيث بعد أن تشق سيوف البروق بطونها المثقلة بالخير، لتنداح كأنها مزون من اللؤلؤ الساكب من سماء السعادة السخية.

فبين المطر واليمني، قصة فرح عارم، وعلاقة حب أزلي تترجمها لحظات الاستبشار بقدوم مواسمه الذي يملأ وجوه الجميع سروراً. ولعلها اللحظات الوحيدة التي تبقت لليمني اليوم لتبهج خواطره الكسيرة التي كدرتها ظروف البلد المضطرب، برجاء أن يحمل الغيث بشائر الخير الواعد لبلاد وصفت قديماً بالسعيدة لخضرتها ومنتوج أرضها الوفير قبل أن يتبدل بها الحال.

ولهذا لا يزال اليمني ينظر إلى الغيث بنظرات مستبشرة، على الرغم من ما يحيط به من خوف وغلاء ووضع اقتصادي وصحي شبه منهار، على أمل أن يزهر في عروق الجياع ويعشب بسندس الحقول، لتغدو بهجةً وخبزاً وقهوة يمنية ذائعة الصيت فضلاً عما يمنحه من لطف وجمال للأجواء، فيتسابق الجميع، رجالاً ونساءاً وصغاراً حاملين وجباتهم اليومية لاستقباله والابتهاج بنزوله في المرتفعات والوديان وبالقرب من جداول عبور سيوله.

مرجعية دينية

هذا الارتباط الوثيق حظي بطابع ديني عبر التاريخ، إذ كان اليمنيون القدماء، كما تحكي النقوش السبأية والحميرية القديمة، يقدّسون الشمس والقمر وتظهر نقوشاً لآلهة تُسمى "آلهة الخصب" كانت تُعنى بالمطر، كما يؤكد عدد من المراجع التاريخية.

وفي المقابل، ظل الجفاف يشكل هاجس قلق وخوف شديدين لليمنيين، الذي إن طال، لجأوا إلى الله بالاستغفار والإنابة والتضرع وتقديم الصدقات والقرابين التي تذبح في المرتفعات وتقدم للطيور والجوارح.

حضارة مائية

ولاعتمادهم على الزراعة عبر التاريخ، ابتكر اليمنيون وسائل تحافظ على مياه الأمطار وحجزها والاستفادة منها. وتميزوا عن بقية الحضارات ببناء السدود لحجز كميات هائلة من مياه الأمطار، فشيّدوا العديد من السدود في مختلف أنحاء اليمن ومن أهمها وأكبرها، سد مأرب التاريخي الذي قامت على ضفافه ومصارف قنواته، حضارة مملكة سبأ التي لا تزال آثارها شامخة حتى اليوم، ومن أبرزها عرش الملكة بلقيس ومعبد أوام وقصر الملكة بلقيس في منطقة صرواح، وغيرها من السدود في بقية المناطق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويقول الباحث والكاتب محمد المقبلي، إن اليمن عبر التاريخ حضارة مائية، مثلت الزراعة والسدود، العامل الأول التي أقام اليمنيون حضارتهم عليها بعكس الحضارات المدنية الأخرى، التي قامت على الأنهار، وهو ما يفسر جانباً من اهتمام اليمنيين بمواسم الأمطار وارتباطهم الأزلي بها وفرحهم الشديد بلحظات هطوله.

وبحسب المقبلي فإن لدى اليمنيين ارتباطاً وثيقاً بالغيث، ليس على المستوى الزراعي فقط وإنما على المستوى الوجودي "ولهذا احتفظ الموروث الشعبي اليمني بالكثير من أغاني وأهازيج الترحيب، كما أن من بينها أناشيد الابتهال إلى الله خلال مواسم الجفاف، ومنها:

"يا من الجود جودك

يا  محنحن رعودك

يا تواب تب علينا

وارحمنا وانظر إلينا

واسقنا الغيث يا الله".

ويضيف خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية"، لا تخلو منطقة من المباهج المتعلقة بالغيث لأنه يعني لهم الحياة والبقاء، فعلى ضوئه تتحدد طبيعة السنين هل هي سنين خير وزراعة ومحصول، أم جفاف وقحط، ولهذا ارتبطت الحضارة القديمة بالتقويم الزراعي القائم على مواسم الأمطار.

اليمني حيث المطر 

وبالنظر إلى مناطق تمركز الكثافة السكانية بحسب التقسيم الجغرافي لليمن، نجد أن أغلب السكان يتواجدون في المناطق الممطرة على الرغم من ضيق المساحة وفقاً لعددهم، وعلى الرغم من الأضرار البالغة التي قد تطال منازلهم ومزارعهم جراء الأمطار الغزيرة، التي يرددون معها أدعية تطلب من الخالق أن يحمل المساقي والوديان كميات الماء المسكوب.

ولكشف هذه المعادلة، نجد أن حوالي ثلثي السكان يقطنون المرتفعات الغربية والشمالية، على الرغم من تضاريسها الوعرة وغياب الخدمات، لكنها مناطق ماطرة تستقطب السحب المثقلة بالمُزن الغزير المرتحلة من المحيط الهندي والبحر الأحمر، فيما المناطق ذات الطبيعة الجافة مثل قطاع حضرموت وشبوة ومأرب والجوف والمهرة والبيضاء، تشكل ثلثي المساحة، لكن تعداد السكان المتمركز فيها لا يتعدى ثلث التعداد السكاني لليمن، وذلك لأسباب عدة من ضمنها شحة المطر وعدم انتظام هطوله.

مصبات الغيوم آخر ما بقي للناس

وفي الوقت الحالي، يستبشر الناس في المدن قبل الأرياف بهطول الأمطار. فبعد تداعيات تفشي فيروس كورونا وإغلاق الحدائق كافة والمتنفسات العامة والخاصة، يهرع الأهالي في الريف والمدن على السواء، للخروج إلى الضواحي والمرتفات الجبلية والوديان والصحارى ومصبات السيول والشلالات لقضاء ساعات ممتعة، وسط المناظر الخلّابة والأجواء العليلة المنتشية سروراً بما جادت به السماء.

ومن منظور عصري، تقول الباحثة والكاتبة الاجتماعية اليمنية عبير بدر، إنه نتيجة لافتقاد اليمنيين للمساحات الخضر والحدائق ومدن الترفيه، فإن المطر يمثل لهم فسحة جمالية بهيجة تكاد تكون الوحيدة مما بقي لهم، لتنسيهم هموم الحرب التي ضاعفت منها تداعيات تفشي كورونا.

وتضيف خلال حديث إلى "اندبندنت عربية"، "على الرغم من هطول الأمطار الموسمية بشكل شبه منتظم، إلا أن اليمن مهدّد بالجفاف بسبب استهلاك المياه الجوفية في زراعة شجرة القات، ناهيك عن المشكلة البيئية العالمية المتمثلة بالاحتباس الحراري وأثره في جفاف الأرض، ومع ذلك لا نجد إجراءات فعلية تستعد لمثل هذا التحدي الخطير، فالبلد الذي يعتمد على غذائه من أرضه، سيعاني الكثير إن تمدّدت عوامل الجفاف وتوسّعت مساحات البور كما نشهد اليوم".

الحنين إلى الديار الماطرة

وتعتبر الأمطار في اليمن موسمية، وتهطل بغزارة متفاوتة خلال فصل الصيف، خصوصاً من يونيو (حزيران) وحتى سبتمبر (أيلول)، وتتراوح كميات الأمطار في منطقة جبال اليمن المنخفضة بين 500 – 1000 مل في السنة وبمعدل سنوي 650 مل، في حين يصل معدل أيام المطر السنوية في هذه المنطقة إلى ما يقارب الـ 70 يوماً في السنة، بحسب المركز اليمني للأرصاد الجوية.

وخلال هذه الفترة من السنة، يكثر استفسار المغتربين المستبشر عن أخبار الأمطار، وتعجّ مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهواتف بصور ومقاطع للسيول والأراضي الخضراء، مع خلفيات أغان وأناشيد تعبّر عن الحنين والشوق إلى الديار، فيما يغلب الحنين البعض منهم فيعود لقضاء بعض الوقت بالقرب من الجداول المروية والغيول الجارية والعشب المخضر.

الغيث أهزوجة خالدة

وحفلت الذاكرة الشعبية اليمنية بإرث ثقافي وغنائي، يجسّد فرحة اليمنيين باستقبال زخات المطر ورؤية بروق السماء والسيول الجارية في الشعاب والوديان، وسماع هزيم الرعود التي تسبق هطوله لتشكل بواعث نشوة ابتهاجية صاخبة وكأنها تدشين فعلي لموسم واعد مفعم بالهمة والنشاط والخير.

ولهذا، فقد شكل الغيث رافداً مهماً للفن اليمني الذي شدا به كثير من الفنانين اليمنيين، ولعل أبرزها أغنية المطر التي تبثها القنوات اليمنية خلال مواسم هطوله من كلمات مطهر الإرياني وأداء فرقة الأنشاد اليمنية:

"يا دايم الخير دايم

على الجبال والتهايم

حنت عليها الغمايم

بالروح رايح وغادي"

إلى جانب مجموعة كبيرة من الأشعار والزوامل والمهاجل والرزفات والدان، التي تتغنى بقدومه كأنه ضيف أو غائب عزيز طال انتظاره.

القات ناهب المياه

وعلاوة على أضراره الاقتصادية والصحية والاجتماعية في اليمن، تشكل زراعة القات أحد أبرز عوامل استهلاك الماء وهدر كميات هائلة منه على حساب ري منتجات زراعية أخرى، كالفواكه والخضار وخصوصاً منهما البن والعنب، التي شهدت زراعتهما تراجعاً ملحوظاً في ظل التوسع الكبير لزراعة القات (نبتة تحتوي مادة منبهة باعثة على النشوة والانشراح تمضغ وريقاته في الفم لساعات) للربح المادي السريع والكبير الذي يجنيه مزارعوه.

ونتيجة ذلك، بات اليمن واحداً من أفقر دول العالم مائياً،على الرغم من استقباله 30 مليار متر مكعب تقريباً من مياه الأمطار سنوياً. في حين لا تتسع السدود الحالية سوى لـ80 مليون متر مكعب من هذه الكمية الهائلة المهدرة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات