في كتاب "رجال وسلطات"، ينقل المستشار الألماني سابقاً هلموت شميدت قول سياسي روسي في القرن التاسع عشر: "روسيا تستطيع أن تشعر بالأمن الكامل عندما يقف جنودها على طرفي الحدود".
وهذا ما يطبّقه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المسكون بأحلام السلاطين. لا في سوريا فحسب، بل في العراق أيضاً، ضمن لعبة جيوسياسية تمتد إلى ليبيا على المسرح العربي المفتوح لزحام الأدوار والحروب والأزمات. فهو يستعير ثياب السلطان محمد الفاتح في عصر ليس عصره وظروف مختلفة عن ظروفه. لكنه يتصور أن إعادة التاريخ إلى الوراء صارت ممكنة في ظل ما يفعله الكبار في العودة من القرن الحادي والعشرين إلى سياسات القرن التاسع عشر وصراعاته.
وما يغري أردوغان بالمغامرة هو خمسة أمور: أولها لعبة الحكّام التقليدية في الذهاب إلى مغامرات خارجية لتغطية الضعف والإخفاقات الداخلية. وثانيها تكاثر النماذج أمامه: من نموذج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في اللعب بأوكرانيا وضمّ القرم إلى نموذج إيران في العراق ثم خارج الجوار في سوريا واليمن، مروراً بنماذج إسرائيل في الجولان السوري والضفة الغربية والحزام الأمني في الجنوب اللبناني واحتلال سيناء قبل الانسحاب، وصولاً إلى نماذج لا حصر لها تمارسها الولايات المتحدة في أكثر من مكان. وثالثها البحث عن حصة ودور في نادي النفط والغاز شرق المتوسط. ورابعها تهديد مصر التي ضربت مشروع الإخوان المسلمين بعد رهان الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عليه في إقامة توازن بين قوة شيعية تقودها إيران وقوة سنية في مصر وتونس وليبيا وسوريا تقودها تركيا برئاسة أردوغان. والخامس الذي يختصر كل شيء هو تحقيق "العثمانية الجديدة" ومعها استعادة "الخلافة" بشكل ما، على أساس أن الهدف الرئيس لحركة الإخوان المسلمين التي أنشأها الشيخ حسن البنا في مصر بعد سنوات قليلة من سقوط السلطنة وإلغاء الخلافة بقرار الرئيس مصطفى كمال أتاتورك هو "استعادة الخلافة وأستاذية العالم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أتاتورك أخذ تركيا إلى أوروبا وفرض العلمانية والحرف اللاتيني بدل العربي. وقال منتقدوه الإسلاميون إن "تركيا كانت الأولى في الشرق، فصارت الأخيرة في الغرب". وأردوغان الذي ورث عضوية تركيا في الحلف الأطلسي وتفاوض على دخول الاتحاد الأوروبي فاصطدم بموقف ألماني وفرنسي ضدّ هذه العضوية، يحاول التوجه نحو الشرق من دون أن يفقد الامتيازات التي يحصل عليها من الغرب، ويلعب بين أميركا وروسيا. حجته في احتلال شمال سوريا هي "الخطر الكردي" على الأمن التركي، ولذلك يقيم قواعد عسكرية ويربط اقتصاد الشمال السوري بالاقتصاد التركي والتعامل بالليرة التركية وتدريس اللغة التركية، بحيث يبقى الجيش على طرفَيْ الحدود. وهي الحجة نفسها لشنّ عملية "المخلب- النسر" الجوية وعملية "المخلب- النمر" البرية في شمال العراق وإقامة قواعد "مؤقتة" مرشّحة لأن تصبح دائمة.
أما التدخل العسكري المباشر وإرسال المقاتلين من جماعة الإسلام السياسي في حرب سوريا، فإنّ التمهيد له كان "اختراع" حدود بحرية غير موجودة بين تركيا وليبيا. لكن تغيير موازين القوى العسكرية في حرب أهلية داخل لعبة أمم واسعة ومعقّدة بين قوى إقليمية ودولية ليس نقطة في نهاية السطر. فرنسا ترفع الصوت ضد سيطرة تركيا على الساحل الليبي وزيادة ابتزازها لأوروبا. روسيا المتفاهمة مع تركيا في سوريا مختلفة معها في ليبيا. وأميركا مع تركيا وضد أي قاعدة روسية في ليبيا. وها هي مصر تعاود دورها القيادي العربي وتواجه الخطر. الرئيس عبد الفتاح السيسي يعلن أن أي تدخل عسكري مصري في ليبيا صار شرعياً لحماية الأمن المصري والأمن القومي العربي. وهو مهّد لذلك بطرح مشروع لحلّ سياسي متكامل في ليبيا، ثم بالقول صراحة إنّ "سرت والجفرة خط أحمر" من حيث يطالب أردوغان بانسحاب الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر من سرت كشرط لوقف النار.
ولا أحد يعرف كيف ينتهي الفصل الجديد في لعبة الأمم.