Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شبح كورونا لم يقيد "ختان الإناث" في مصر رغم تجريمه

التطعيم من الوباء كان وسيلة الأب في خداع بناته والقوانين المشددة لوحدها لا تكفي

جريمة "ختان الإناث" لا تزال تتكرر رغم التحريم شرعا وقانونا في مصر (رويترز)

يقول المثل المصري الشائع "ناس في سكتة وناس في هرية ونكتة". ويشير الواقع إلى أن ما يبدو للبعض خطراً داهماً وتهديداً قاتماً يتضاءل أمام الآخر ليصبح هو والعدم سواء.

وتخبرنا القضية المحالة بصفة عاجلة إلى المحكمة الجنائية في مصر بعد تحقيقات لم تستمر لأكثر من 48 ساعة، أن محور ألم وهلع ورعب الكوكب يقف ضارباً أخماساً في أسداس أمام الأب، الذي أخبر بناته الثلاث قبل أيام أن الطبيب سيُطعّمهن ضد فيروس كورونا ليكتشفن أنهن خضعن لتشويه أعضائهن التناسلية ضماناً للطهارة وبحثاً عن العفة.

عفة عفاف

عفاف محمد، السيدة المصرية التي ظهرت على شاشات التلفزيون قبل ثلاث سنوات لتتحدث بجرأة نادرة عن خضوعها للختان أربع مرات، وهي طفلة وليس مرة واحدة، بحجة أنها كانت دائمة اللعب مع الصبية، أثارت قدراً كبيراً من نقاش الختان الذي فتر في مصر منذ أحداث يناير (كانون الثاني) 2011. فقد خرج البعض ليكشف عن تمسكه في القرن الـ21 بمنظومة تشويه أعضاء الإناث التناسلية مبرهناً على ذلك بحاجة عفاف للختان أربع مرات. والبعض الآخر فزع لما ذكرته السيدة المصرية لأنه ظن أن الختان فعلاً ماضياً لم يعد له حضور في المضارع.

لكن يبدو أن المضارع متخم بالماضي. ليس هذا فقط، بل إن المضارع المثقل بهم الوباء ورعب العدوى وهلع الموت وقف حائراً أمام الأب المصري، الذي استغل كارثة الكوكب وأخبر بناته الثلاث وجميعهن دون سن الـ18 عاماً، أن الطبيب في طريقه إلى البيت ليعطيهن أمصالاً للوقاية من كورونا.

وصل الطبيب وأدى مهمته وترك البيت بعدما سدد الوالد قيمة "التطعيم". وحين استيقظت الفتيات اللاتي تم تخديرهن تخديراً كلياً فوجئن بآلام في أعضائهن التناسلية، فأخبرن والدتهن التي تعيش بعيداً عن الأب بعد طلاقهما. شكّت الأم فيما جرى واكتشفت أن الأب والطبيب اقترفا جريمة ختان البنات الثلاث.

 

 

جريمة الختان

جريمة ختان الإناث في مصر تعاند وتكابر وتقف في وجه القانون والدين والحقوق والمنطق والعلم والتعليم. ما يزيد على ثلاثة عقود من محاربة عادة الختان، عشرات الفتاوى الموضحة أن ختان الإناث ليس من الدين، والمنطق والعقل يشيران إلى أن الختان ليس موجوداً في دول إسلامية على رأسها السعودية، وتصريحات رسمية تحذر، ودراسات حقوقية تندد وقوانين مدنية تجرم ورغم ذلك ينتهز البعض أول فرصة تلوح في الأفق لتختين البنات رغم أنف كل ما سبق.

سبق وسارت مصر في طريق طويل وشاق من التوعية والتحذير والتجريم. هذه المسيرة الطويلة تكللت 2008 بتجريم الختان عبر مجموعة من القوانين. وفي عام 2016، تم تعديل القانون من أجل تضييق الخناق على من يفكر في إخضاع بناته لهذا التشويه المرتدي عباءة الدين لكنه في حقيقة الأمر غارق في العادات مشبع بالتقاليد.

تعديل عام 2016 نصّ على مطالبة الأطقم الطبية العاملة في وزارة الصحة المصرية بإبلاغ الشرطة لدى رصد أي عملية ختان للإناث. وقد غلّظ التعديل الجديد عقوبة الحبس على من يمارسون الختان فارتفع الحد الأقصى للعقوبة من السجن عامين إلى سبعة أعوام. كما نص على الحبس مدة تتراوح بين خمسة وسبعة أعوام للأطباء الذين يقومون بهذه الممارسة، وبالسجن بين عام وثلاثة أعوام لأهل الفتاة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قوانين رائعة

القوانين أكثر من رائعة، لكن الروعة نفسها لا تمتد إلى التطبيق الصارم، ومن ثم الخرق المستمر والإصرار العنيد. مئات القضايا تم تحويلها إلى المحاكم، لكنها انتهت إلى عقوبات مخففة وفي بعض الأحوال إخلاء سبيل. لكن الأخطر من ذلك، أن جرائم الختان التي تعرف طريقها إلى الإعلام ومنه إلى الرأي العام لا تشكل سوى نسبة ضئيلة مما يجري خلف أبواب العيادات والبيوت المغلقة. هذه النسبة الضئيلة إما مقسمة بين عمليات ختان أفضت إلى موت الطفلة، أو قام شخص قريب من الأسرة بالإبلاغ.

أمين عام المجلس القومي للطفولة والأمومة سحر السنباطي تقول إن خط نجدة الطفل 16000 التابع للمجلس تلقى بلاغاً واستغاثة عاجلة من أم لثلاث فتيات؛ أطفال لم يبلغن السن القانونية بعد من مركز جهينة في محافظة سوهاج بصعيد مصر، وأن الأم أفادت بأن الأب طلب من طبيب إجراء عمليات ختان لبناته الثلاث وأعمارهن 8 و9 و11 عاماً، وذلك يوم 27 مايو (أيار) الماضي، دون علمها، وأنه تم تحرير بلاغ بالواقعة حمل رقم 13194 بتاريخ 31 مايو 2020.

مرور الكرام

ولولا أن الأم المطلقة أبلغت النيابة بما جرى لبناتها قبل أيام لمرت المسألة مرور الكرام بعد فترة نقاهة الطفلات الثلاث واضطرارهن لاستكمال حياتهن بأعضاء تناسلية ونفسية مشوهة. الغريب أن مطلع العام الحالي شهد حادثاً مماثلاً حين توفيت طفلة بعد تعرضها لمضاعفات خطيرة جراء عملية ختان في عيادة طبيب متقاعد أدت إلى وفاتها.

الوفيات والتشوهات، سواء الجسدية أو النفسية، تأبى أن تزحزح نسبة الختان المرعبة في مصر. منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف" تقول، إنه في عام 2015، بلغت نسبة النساء والفتيات بين سن 15 و49 عاماً ممن خضعن للختان نحو 90 في المئة. وفي العام التالي 2016 بلغ العدد عالمياً نحو 200 مليون سيدة، وأن نساء مصر وإثيوبيا وإندونيسيا يحظين بنصيب الأسد في هذه النسبة.

وبالنسبة لوالد الفتيات الثلات والطبيب الذي أجرى عمليات التشويه، فقد أحالهما النائب العام إلى محاكمة جنائية عاجلة، حيث ارتكب الطبيب جناية الختان لهن واشترك الأب بالاتفاق والمساعدة في ارتكاب الجريمة، وأصدرت النيابة العامة بياناً قبل أيام أدانت فيه الجريمة وبرأت الدين الإسلامي وسائر الأديان السماوية من هذه الجريمة بالغة الخطورة التي ترتكب باسمها، وذيلت بيانها بعبارتي "صححوا المفاهيم والمعتقدات" "حافظوا على سلامة الفتيات والبنات".

 

 

سلامة البنات

لكن سلامة البنات في مصر تبقى قيد عادات ترفض أن تسقط بالتقادم وتقاليد تأبى أن تمتثل إلى المنطق. في المقابل، تحاول جهات ومؤسسات عدة العودة إلى المنطق بشكل أو بآخر. إذ أثنت اللجنة الوطنية المصرية للقضاء على ختان الإناث، وهي لجنة مشتركة بين المجلس القومي للطفولة والأمومة والمجلس القومي للمرأة، على قرار النائب العام المصري بإحالة الطبيب ووالد الفتيات إلى المحاكمة الجنائية العاجلة لارتكاب جناية الختان. وطالبت اللجنة المشرع بضرورة تعديل المادة الخاصة بختان الإناث لسد جميع الثغرات التي يتخذها من يقومون بإجراء هذه الجريمة كوسيلة للتحايل على القانون.

تقول رئيسة المجلس القومي للمرأة مايا مرسي، إن "الحكومة المصرية عازمة على القضاء على هذه الجريمة في حق بنات مصر"، مشددة على أن هذا لن يحدث دون تطبيق القانون بحسم شديد.

ووصفت سحر السنباطي ما جرى للفتيات الثلاث بـ"الانتهاك الصارخ لحقوق الفتيات، ومخالفة أحكام قانون الطفل رقم 12 لسنة 1996"، مطالبة بضرورة وقف ما سمته بـ"نزيف الدم والانتهاكات التي يتعرض لها الأطفال دون مبرر أو سند ديني، وما تحدثه تلك الجريمة من آثار نفسية وجسدية بالغة للأنثى".

متحدثون باسم الخالق

"لكن هناك من نصبوا أنفسهم متحدثين رسميين باسم الخالق. يرتدون ثوب الورع والتقوى ويطلون علينا عبر وسائل الإعلام ليدعوا أن الختان سنة نبوية، كما تقول الكاتبة الصحافية والمدافعة عن حقوق المرأة سحر الجعارة، التي تطالب بـ"كود أخلاقي" يتم فرضه على خطباء المساجد ويمنعهم من الترويج للعنف ضد المرأة، وشرعنة التحرش بها أو اغتصابها وضربها، وتحريض الآباء على تشويه الجهاز التناسلي لبناتهم، الذي مازالت قطاعات عريضة من المجتمع تسميه طهارة وعفة، وظل يلقى تأييداً مبطناً وثناء مغلفاً بالحذر من قِبل رجال الدين الرسميين على مدار عقود طويلة، حتى صدرت سلسلة تشريعات تجرمه.

الخطاب الديني الإسلامي الرسمي للدولة واضح وصريح: الختان حرام شرعاً. وأحدث ما قيل في هذا السياق التجريمي جاء على الموقع الرسمي لدار الإفتاء المصرية في فبراير (شباط) الماضي في مناسبة اليوم العالمي لرفض الختان. وجاء في بيان الدار أن ختان الإناث من قبيل العادات وليس من قبيل الشعائر، فالذي هو من قبيل الشعائر إنما هو ختان الذكور. وأضافت أن قضية ختان الإناث ليست قضية دينية تعبدية في أصلها، ولكنها قضية ترجع إلى الموروث الطبي والعادات، وأنه بعد البحث والتقصي وجدت الدار أن هذه العادة تمارس بطريقة مؤذية ضارة تجعل دار الإفتاء تقول إنها حرام شرعاً. الموقف نفسه اتخذته الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر التي تؤكد أن الختان عادة اجتماعية قديمة ولا علاقة لها برسالة المسيح.

 

 

منع تطبيق السنة

لكن الرسائل الواضحة في المجتمع تشير إلى تشبث كثيرين من المسلمين والمسيحيين بختان بناتهم. التعليقات المكتوبة على بيان النائب العام من قبل البعض تصب اللعنات على "منع الدولة تطبيق سنة نبوية وضرورة دينية للإناث". الأسئلة الواردة إلى مواقع دينية تقدم خدمات الفتوى الدينية سواء الرسمية مثل دار الإفتاء والأزهر الشريف أو تلك غير الرسمية ما زالت كثيرة وتعكس اهتماماً شعبياً كبيراً بختان الإناث.

ختان الإناث، المصنف أممياً باعتباره مظهراً من مظاهر العنف ضد النساء، يجد نفسه موعوداً بالزيادة والازدهار بفضل وباء كورونا. الأب المصري الذي انتهز فرصة كورونا لتأكيد "عفة" بناته عبر ختانهن بمساعدة طبيب على قناعة تامة بضرورة الختان خير برهان على استخدام الفيروس طريقاً للمضي قدماً في تشويه أعضاء الإناث التناسلية.

وكان صندوق الأمم المتحدة للسكان، وكالة الأمم المتحدة المعنية بالصحة الجنسية والإنجابية، رجّح أن تشهد أشكال العنف الممارس ضد النساء والفتيات زيادة مع احتدام كورونا. وتوقع، بناء على بحث أجراه عن أشكال وحجم العنف الذي يتوقع أن تعانيه النساء في العالم بسبب الوباء، ارتفاع حالات العنف القائم على النوع الاجتماعي.

وقالت المديرة التنفيذية للصندوق ناتاليا كانيم، إن نتائج البحث أظهرت الأثر الكارثيّ الذي يمكن أن يُحدثه فيروس كورونا على النساء والفتيات على الصعيد العالمي، مضيفة أن "هذا الفيروس يُعمِّق أوجه عدم المساواة. وبسببه أصبحت ملايين النساء والفتيات أكثر عُرْضةً لفقدان القدرة على التخطيط لأسرهنّ وحماية أجسادهنّ وصحتهن، مطالبة بضمان صحة وحقوق المرأة الإنجابية مهما كان الثمن، مع مواصلة تقديم الخدمات وتسليم الإمدادات وحماية المستضعفات".

ضعاف النفوس

"ضعاف النفوس يستغلون ظروف الجائحة لممارسة هذه الجريمة"، كما تقول أمين عام المجلس القومي للطفولة والأمومة السابق مشيرة خطاب، التي ارتبط اسمها بجهود مصر لمكافحة ختان الإناث على مدى سنوات طويلة.

وأعربت خطاب، عن صدمتها وغضبها جراء "جريمة الأب الذي اصطحب بناته الثلاث إلى أحد المحسوبين على مهنة الطب ليتولى بالمخالفة للقوانين بتر أعضائهن التناسلية في وحشية ومهانة أسوأ من حزام العفة الذي كان يكبل النساء في عصور الظلام".

وتطالب خطاب بحماية ومساندة القاعدة الشعبية الأكثر ضعفاً باعتبارها خط الدفاع الأول، بالإضافة إلى تنفيذ أحكام القضاء التي باتت دون تنفيذ.

تنفيذ القانون وحده لا يكفي. ويكفي أن المزاج الشعبي العام في مصر متسامح إلى حد كبير مع ختان الإناث. ولم لا، وهو الذي ما زال ينعت بـ"العفة" و"الطهارة" و"النظافة" ويجريه طبيب خريج كلية الطب عن اقتناع ودون إجبار؟!

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات