Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حرب "الطهارة" تحتدم بين شفرة الموروثات واحترام أجساد الفتيات

حرب مصر مع الختان أو في مواجهته طويلة وشرسة، فهي ليست حربًا من النوع الذي ينتهي بضربة قاضية تعلن انتصار طرف على آخر

فتيات في ندوة تعريفية بمخاطر الختان (يونيسف)

امتعضت واستاءت ولم تترك معلمًا من معالم القرف أو ملمحًا من ملامح السخط، إلا أظهرته وأمعنت في الإبقاء عليه. فكيف لـ"الطهارة" و"النظافة" و"العفة" أن تتحول إلى تشويه وتقطيع وتقبيح؟! وبالطبع لم يفتها أن تعرّج على الدين والمتدينين والإيمان والمؤمنين الذين يحبون العفة، على العكس من "والعياذ بالله" المارقين والفاسقين وأعداء الدين الإسلامي ممن يعشقون الانفلات ولا يحبون إلا الانغماس في الملذات.

ملذات سعدية

الملذات التي تحيط بـ "الحاجة سعدية" (58 سنة)، وتتراوح بين أساور ذهبية محشورة في رسغها المكتنز، وأصابع محشي كرنب مرصوصة كجبل مهيب أمامها استعدادًا لموقعة الغداء، وشاشة تلفزيون عملاقة تكاد تبتلع الغرفة المتقزمة تعرض فيلمًا من أفلام المقاولات، لا تتنافى أو تتعارض مع الخطة الموضوعة بإحكام لـ"طهارة" ابنة الـ12سنة. إذ ربما تنفتح أبواب السماء وترسل عريسًا "مريشًا" (ثريًا) يسترها ويضاعف من حجم "الملذات" المتراكمة أمام الجدة "الحاجة سعدية".

"سعدية" الصغيرة، المسماة على اسم جدتها تيمنًا بحكمتها وتبركًا بقدراتها التي يحكي عنها أهل القرية القريبة من بني سويف (جنوب القاهرة) في سترة البنات أولاً بضمان عفتهن، وثانيًا بتأمين زيجة مرتاحة (حتى وإن كان مآلها طلاقات سريعة وعيالاً كثيرة ومزيداً من الفقر والجهل)، لا تدري أنها مقبلة على عملية ختان. وفي قول آخر، يُغضب جدتها، يجري التجهيز لتشويه أعضائها التناسلية بحجة العفة وتحت شعار السترة.

السترات البيضاء التي كانت ترتديها العاملات الصحيات التابعات لوزارة الصحة والسكان، أثناء حملات طرق الأبواب لدرء أخطار الختان في مدن وقرى عدة في مصر، تعثرت وتعرضت للتوقف بسبب الأوضاع السياسية تارة، وتحت وطأة الضغوط "الدينية" تارة أخرى في السنوات التي تلت ثورة يناير (كانون الثاني) 2011.

لكن واقع الحال يشير إلى أن ثورة يناير 2011 لم تؤدِ إلى فوضى الختان وعودة ممارسته مجددًا، بقدر ما كانت سببًا كاشفًا لمكانة الختان في طبقات عديدة من المجتمع المصري المتمسك بعادات وتقاليد أكل عليها الزمان وشرب. لكن هذه الوقائع لم تزحزح إيمان الحاجة سعدية الكامل بأن الختان "عفة" و"سترة" و"ضمان لإخلاص المرأة لزوجها" و"درء لخطر نمو وتضخم أعضاء المرأة التناسلية" و"منع لاستثارتها الجنسية عبر احتكاك أعضائها بالملابس"!

ملابسات منع وتجريم ختان الإناث في مصر وجهود الحكومات المختلفة لتوعية البسطاء بأخطاره، وتظاهر هؤلاء البسطاء بأنهم أذعنوا للتجريم وإقتنعوا بعدم التختين هي قصة كر وفر تاريخية. ففي عام 2007، وعبر مرسوم رسمي صادر عن وزارة الصحة، تم حظر عمليات ختان الإناث.

سُنة التحريم

في العام ذاته، وبعد صدور القرار المصحوب بحملات توعية إعلامية مكثفة، واحتدام نشاط المجلس القومي للطفولة والأمومة بالتعاون مع منظمة "يونيسيف" في هذا الشأن، يحكي الجميع عن خطيب جمعة في مسجد كبير في منطقة شعبية في القاهرة ألقى خطبته المعدة مسبقًا عن "تحريم ختان الإناث من منظور إسلامي". أنهى الشيخ خطبته، وأعلن من على المنبر أنه أنجز المطلوب منه، ثم قال "الختان سُنة".

"سنة" الختان الذي لا يمارس في دول إسلامية عدة على رأسها المملكة العربية السعودية، تلقى مقاومة مجتمعية عاتية، وانشغالات حكومية واسعة، وصمت ديني لا تحركه إلا الضغوط الرسمية، مع خفوت واضح لعمل الجمعيات الأهلية والمنظمات الحقوقية ومعها رد فعل الشارع المصري، الذي لا يرى في ختان الإناث مشكلة أو قضية أو حتى مسألة تستحق الانشغالات الآنية.

حقائق صادمة

إلا أن الإنشغالات الآنية لا تَجُبّ الحقائق الصادمة الآنية. تشير "يونيسيف" إلى الانخفاض الواقع في نسبة الإحاطة بالمعلومات عن الختان بين الفتيات والسيدات في مصر المتراوحة أعمارهن بين 15 و49 سنة من 50 في المئة عام 2005 إلى 25 في المئة عام 2014. كما انخفضت نسبة السيدات اللاتي يتلقين معلومات عن الختان من 80 في المئة عام 2005 إلى 35 في المئة عام 2014.

ووفق منظمة "يونيسيف" أيضًا، فإن 87 في المئة من النساء والفتيات في مصر ممن تتراوح أعمارهن بين 15 و49 سنة خضعن للختان. والمؤشرات لا تشير إلى اتجاه نحو انخفاض، لا سيما في ظل موجات نزوح البشر والثقافات والعادات من الريف إلى المدينة، وتحديدًا العاصمة، حيث يأتي الملايين حاملين ما خف حمله من ملابس وممتلكات وما ثقل أثره من عادات وموروثات.

 

موروث الختان في مصر - الذي يحاول بعضهم إلصاقه بالإسلام- يشير إلى أن "أم بيتر" زوجة "البواب" (حارس العقار) في حي شبرا (شمال القاهرة) أوقفت زيجة "بيتر" بعدما علمت أن عروسه "ماريان" "غير مختتنة". ما يعني في عرف "أم صموئيل" القبطية الأرثوذكسية القادمة من أعماق صعيد مصر أنها "غير موثوق في عفتها"!

جماعات الإسلام السياسي هي الأخرى غير موثوق في أغراضها. ففي خلال عام من حكم جماعة الإخوان المسلمين لمصر، بُذِلت جهود عاتية من أجل رفع حظر تجريم ختان الإناث، ودفع حزب "الحرية والعدالة" الذراع الحزبية للجماعة بـ"قوافل الخير" لتختين الفتيات في القرى والنجوع بالمجان. ليس هذا فحسب، بل قدم أحد كوادرهم طعنًا بعدم دستورية تجريم الختان.

حلاق الصحة

ومع استعادة الدولة المصرية جانبًا كبيرًا من عافيتها في السنوات القليلة الماضية، تعود جهودها لمواجهة "ثقافة" الختان وربطه بالعفة واقحامه في الدين وممارسته، إن لم يكن على يد "حلاق الصحة" (وهو حلاق شعبي يمارس مهنة الحلاقة نهارًا وتشويه أعضاء الفتيات التناسلية مساءً)، تحت إشراف طبيب متمرس!

فيلم "أسرار البنات" (2001) تعرض لقصة طالبة في المرحلة الثانوية تدخل في علاقة عاطفية مع زميل لها وتتطور العلاقة لينجم عنها حمل خارج إطار الزواج، ما تسبب في صدمة عاتية للأب والأم اللذين أدخلاها مستشفى لتلد مولودها "الكارثي"، الذي جلب الفضيحة لتلك الأسرة المصرية العادية المحافظة. وفي غرفة العمليات، ما كان من الطبيب إلا أن أخضع الفتاة لعملية ختان عنيفة بناء على مفهومه الديني، إيمانًا منه أنها لو كانت مختتنة لما انخرطت في علاقة جنسية ولحافظت على عفتها ولم تجلب العار لنفسها ولأسرتها.

"الطبيب المتدين" ومعه "الطبيب المنتفع" ماديًا يشكلان معاً 72 في المئة من مجموع عمليات الختان التي تجري في مصر، وفق إحصاء منظمة "يونيسيف". وقبل أسابيع انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي دعوات لطبيب أمعن في تعديد مميزات ومحاسن ختان الإناث. وعلى الرغم من محاولات الإدارة المركزية للعلاج الحر والتراخيص الطبية العثور على الطبيب، إلا أن المحاولات جانبها النجاح.

الختان والعفة

النجاح الحقيقي لمواجهة تشويه الأعضاء التناسلية للإناث وتقطيعها تحت مسمى "الختان" أو "الطهارة" أو"العفة" لاحت بوادر طفيفة له قبل أيام. من قلب الصعيد النابض بالموروثات والمتخم بالتقاليد والمثقل بالعادات، فوجئ المصريون بأحد أبناء محافظة قنا يرفع قضية على زوجته مطالبًا بحبسها لأنها أخضعت ابنتيهما بسملة (12 سنة) وروان (تسع سنوات) للختان. نور الدين الحفني العائد لتوه من المملكة العربية السعودية قال في أحاديث إعلامية إن الختان جريمة نكراء، ولا علاقة لها بالدين. وأضاف مفاجئًا الجميع بالمسكوت عنه: "أغلب حالات الطلاق في الصعيد كانت بسبب الختان. الرجال لا يطيقون برود الحريم".

ومن برود الحريم إلى عجائب الواقع. فعلى الرغم من جهود الدولة على مدى ما يزيد على ثلاثة عقود مضت لمواجهة الختان، وعلى الرغم من الملايين التي أنفقت على حملات التوعية والمعرفة حول حقيقة الختان، ومئات ورش العمل التي عقدت ليخرج رجال دين إسلامي ومسيحي يعلنون أن الختان عادة لا علاقة لها بالعقيدة، إلا أنه من رحم التوعية تولد الجهالة ومن عقر دار المواجهة تتفجر الحماية والرعاية للختان و"فضائله".

"فضائل" الختان

"فضائل" ختان الفتيات حديث يدور أحيانًا في كواليس فعاليات المواجهة والمحاربة. فبين منصة تخطب وتعظ وترشد بأضراره ومخاطره، وأرضية وحوارات جانبية تدق على وتر مكارمه ومحاسنه، وملامح القصة كاملة. نرمين سعيد (24 سنة) طبيبة شابة تحكي عن مؤتمر طبي حضرته قبل أسابيع تطرقت إحدى جلساته إلى مخاطر ختان الفتيات. تقول إن المنصة كانت تهتز بمعلومات طبية عن أخطار الختان وأهواله بمساعدة رجل دين إسلامي أدلى بدلوه حول كونه عادة وليس سنة. "لكن على طاولة الغداء، دق رجل الدين نفسه على وتر مكرمة الختان وعفته وطهارته، والأغرب أن أكثر من طبيب أومأ برأسه موافقًا".

حرب مصر مع الختان أو في مواجهته طويلة وشرسة. فهي ليست حربًا من النوع الذي ينتهي بضربة قاضية تعلن انتصار طرف على آخر، لكنها ممتدة بين ثقافة متجذرة تختزل العفة والشرف في شفرة تقطع الأعضاء وتشوهها، وبين إدراك عقلاني وعلمي يضع العفة في نصابها الصحيح ويتعامل مع أجساد الإناث باعتبارها أجساداً بشرية لا تقبل الاختزال ولا ترضى بالتشويه.

يد القانون وذراع الثقافة

تؤكد الدكتورة عزة العشماوي، الأمين العام للمجلس القومي للطفولة والأمومة، أن الخط الساخن للمجلس 16000 مستمر في تلقي شكاوى وبلاغات حول تعرض أو احتمال تعرض فتيات للختان، واستعداد الجهات المعنية للتحرك الفوري لمحاسبة الجناة.

لكن محاسبة الجناة في قضايا تتعلق بجوانب ثقافية أو ذات أبعاد دينية مغلوطة أو عادات وموروثات متجذرة تحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك. وأحيانًا تكون ذراع الثقافة والعادات أقوى وأشرس من يد القانون والقواعد. فإغلاق باب الختان عبر تجريمه ومنعه وإلقاء القبض على الجناة، يفتح نوافذ الممارسة في الخفاء بتضامن الطبيب وحلاق الصحة والأهل والمجتمع المبارك للعادة.

وقد عادت الدولة ومعها المجالس المتخصصة والجمعيات الأهلية والمنظمات الأممية لتتضافر الجهود لإحياء المواجهة. أدرك الجميع أن المواجهة والمناهضة منظومة متكاملة تستوجب التشارك والتعاون والسير في خطوط متزامنة مع بعضها بعضًا. ممثل منظمة يونيسيف في مصر السيد برونو مايس يقول إن "مناهضة ممارسة الختان هو مجهود حيوي نحو تحقيق الهدف الخامس من أهداف التنمية المستدامة، الذي ينص على المساواة بين الجنسين وتمكين الفتاة والمرأة، وهو ما يتطلب استمرار عملنا لمساندة الحكومة المصرية على خفض نسب ممارسة الختان حتى القضاء عليها نهائياً بحلول عام 2030".

تهدف استراتيجية "2016 – 2020 لمناهضة ختان الإناث" إلى خفض معدلات الختان بين الفتيات بنسب تتراوح بين عشرة و15 في المئة بين الفئة العمرية بين عشرة و19 سنة. ووفق الإستراتيجية الوطنية، فإن ذلك يجري بدعم من مناخ سياسي واجتماعي وثقافي لتمكين الأسرة المصرية من اتخاذ القرار بنفسها بعدم إخضاع بناتها للختان. محاور الإستراتيجية تتراوح بين إنفاذ قانون تجريم الختان، وتفعيل القرارات الوزارية في هذا الشأن، وإحداث التغيير الثقافي والاجتماعي لحقوق المرأة والطفل والأسرة، وتطوير نظم المعلومات بهدف رصد وتقييم برامج التمكين.

وفي انتظار نتائج الجهود ومحصلات الإستراتيجيات والخطوط الساخنة والإجراءات الفاعلة، يحبس كثيرون أنفاسهم في انتظار ما ستسفر عنه المواجهة بين قانون "الحاجة سعدية" المرجح كفة الطهارة والعفة والنظافة بقطع الأعضاء وتشويه البنات من جهة، وقانون الدولة المصرية المرجح كفة الطهارة عبر التربية والتنشئة وتنقيح العادات ومراجعة الموروثات.

المزيد من تحقيقات ومطولات